الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.. الخلفيات والأبعاد

يشهد “قلب العالم” الذي يمتد من شرق أوروبا إلى القوقاز وسيبيريا وآسيا الوسطى، وفقًا لمقولة
عالم الجغرافيا والسياسة البريطاني، السير هالفورد جون ماكندر،الذي كتب مقالته الشهيرة عام 1904، بعنوان “المحور الجغرافي للتاريخ”، ليشرح “نظرية قلب العالم”، يشهد حربًا جديدة بين جمهورية أذريبجان وجمهورية أرمينيا،حول إقليم ناغورنوقره باغ ،حيث تدعي أذربيجان أنَّه تابع لها،وفقا لقرار الأمم المتحدة، وأنَّ أرمينيا احتلته عام 1992 بدعم روسي.
هذه الحرب التي تجري رحاها في منطقة القوقاز لها أبعاد إقليمية ودولية، ولا يمكن اختزالها في صراع أذربيجاني-أرميني،لأنَّ إقليم قره باغ يقع في منطقة ذات أهمية جيو-استراتيجية تتضارب فيها المصالح.إذ تقف تركيا ومعها إسرائيل و أمريكامع أذربيجان،بينما تقف روسيا وإيران وفرنسا مع أرمينيا.

كيف تشكل إقليم ناغورني قره باغ تاريخيًا؟
من الناحية اللغوية،تعني كلمة ناغورني بالروسية جبال أو مرتفعات أما كلمة قره باغ فتعني “الحديقة السوداء”، فلذلك يمكن ترجمة الاسم إلى جبال الحديقة السوداء. ويعرف الإقليم باسم “أرتساخ” في أرمينيا وهي كلمة مكونة من جزئين الأولى أرا وهو إله الشمس عند الأرمن القدماء، والكلمة الثانية هي تعني الغابة أو الكرمة لذلك يعني الاسم الأرمني غابة أو “كرمة الإله أرا”. أما الأذر فيعرفونها باسم بخارى قره باغ أي قره باغ العليا.ويسكن هذا الإقليم ناغورنو قره باغ، منذ قرون أذريون مسلمون شيعة وأرمن مسيحيون، قديما جدًّا.
وعلى الرغم من أن الأرمن والأذريين عاشوا في سلام نسبي في المنطقة، التي أصبحت جزءًا من الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، فقد وقعت أحداث دامية بين المجموعتين في أوائل القرن العشرين.
من الناحية التاريخية،و تحديدًا في القرن التاسع عشر،كانت آسيا الوسطى والمناطق المجاورة لها مسرحًا للصراع بين روسيا وبريطانيا،ضمن ما سمي آنذاك،ب”اللعبة الكبرى”.وبعد انتصار الثورة البلشفية في عام 1917-1921،وتأسيس جمهوريات الاتحاد السوفياتي ال15 في عهد الزعيم الراحل جوزيف ستالين،قام الاتحاد السوفييتي بإنشاء إقليم ناغورنو قره باخ المستقل في جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفييتية، والتي نشأت فيها غالبية الأرمن،وتم نقل ما بين 1928 و1930 حوالي 40 ألف أرميني من إيران،و90 ألف أرميني من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية،وأسكنهم في المناطق التي كان الأذربيجانيون يشكلون أغلبية سكانها.
ومع نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991،تسبب قرار إدارة ناغورنو قره باغ بالانضمام إلى أرمينيا أولا ثم إعلان الاستقلال بتفجر الصراع الأذري-الأرمني في المنطقة.وفي عام 1992، تأسست مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي تترأسها روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، لحل الأزمة في قره باغ بطرق سلمية،غير أنَّها لم تفعل شيئا يذكر من أجل إيجاد تسوية تاريخية في هذا الإقليم المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا.
حسب الرواية الأذرية،تحتل أرمينيا منذ عام 1992 نحو 20 بالمئة من الأراضي الأذرية، التي تضم إقليم “قره باغ” (يتكون من 5 محافظات)،و5 محافظات أخرى غرب البلاد، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظتي “آغدام”، و”فضولي”.
وعلى الرغم من توقف الاشتباكات العنيفة في المنطقة بتوقيع وقف إطلاق النار بوساطة روسيا عام 1994،لم تتوصل الأطراف لاتفاق سلام.ويُعَدُّ “بروتوكول بيشكيك” اتفاقا مؤقتا لوقف إطلاق النار، تم توقيعه من قبل ممثلي أرمينيا، وإقليم قره باغ غير المعترف به دوليا، وأذربيجان، وممثل روسيا في مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا فلاديمير كازيميروف في 5 أيار/ مايو 1994 في بيشكيك.
وتم الاتفاق على وقف إطلاق النار وعدم القيام بعمليات عسكرية متبادلة، وانسحاب القوات من “المناطق المسيطر عليها”،وإعادة تشغيل البنية التحتية،وتوقيع اتفاق ملزم قانونيا ينص على عودة من نزحوا من ديارهم.واعترضت أذربيجان بذلك الوقت على “المناطق المسيطر عليها” بالنص،وطالبت بإجراء تغييرات في الوثيقة، ليتم الموافقة بعدها على اعتماد كلمة “المناطق المحتلة”.
ومع وقف إطلاق النار، تم تشكيل إدارة حكم أمر واقع تدعمها أرمينيا في منطقة قره باغ، بينما بقيت الأراضي الأذرية المحيطة بقره باغ تحت السيطرة الأرمنية أيضا، وعلى الرغم من استمرارها فلم تعترف أي دولة أو منظمة دولية بالإقليم الانفصالي منذ 30 عاما.وعلى الرغم من دعم أرمينيا للإقليم المنشق ماليا وعسكريا، فإنها لم تتخذ أيضا خطوات للاعتراف بناغورنو- قره باغ.
وتُعَدُّ أرمينيا، من جهة أخرى، الوصي الأكبر والفعلي للإقليم، حيث يشكل الأرمن حاليا فيه الأغلبية، وباكو ترى أن يريفان التي تشرف على الإقليم تسعى لخلق حالة فعلية مماثلة لتلك التي أنشأها الاحتلال الإسرائيلي مع مرتفعات الجولان المحتل.
واعتمد مجلس الأمن الدولي 4 قرارات عام 1993، وهي القرارات (822 و853 و874 و884)، ودعت جميعها أرمينيا إلى سحب قواتها فورا من قرة باغ وبعض الأراضي المتاخمة له،لكنها لم تقبل ذلك، فيما تشدد باكو على رفضها الدخول في أي مفاوضات قبل انسحاب القوات الأرمينية من المنطقة.وتقبل باكو بأن يكون إقليم قره باغ ذا حكم ذاتي عالي المستوى مع انسحاب الجيش الأرمني، وإنهاء حالة الاحتلال، فيما تطالب يريفان بأن تكون المنطقة مستقلة بشكل كامل عن أذربيجان.

تدخل الأطراف الإقليمية في الحرب

أولاً:موقف تركيا
يضم القوقاز الجنوبي الدول المستقلة الثلاث عن الاتحاد السوفياتي السابق بعد انهياره في عام 1991،وهي:أرمينيا،وجورجيا،وأذربيجان.ومنذ الحرب الجورجية- الروسية التي دارت رحاها في أغسطس 2008، التفتت تركيا إلى منطقة الشرق الأوسط ، والقوقاز الجنوبي الذي يشهد تغيرات كبرى،لكي تلعب دورًا إقليمياً مهماً، بعد أن أصبحت قطبًا اقتصاديًا مزدهرًا في المنطقة،ويساعدها في ذلك موقعها الجغرافي،فهي على تماس مع الحدود الشمالية لكل من سورية والعراق،والشمالية الغربية لإيران، وهي على تماس أيضا مع القوقاز الجنوبي، ومع روسيا عند حدود البحر الأسود.
وتتشاطر تركيا وإيران حدوداً تمتد على مسافة 499 كيلومتراً،وعلى الرغم من وجود خصومة تاريخية بين الجارَين المسلمين،فإنَّهما في حالة سلام منذ قرون.وفي الماضي،وبسبب تضافر عوامل الجغرافيا مع عوامل التاريخ، شكل القوقاز الممر الإجباري لكل غزوات الإمبراطوريات القديمة،الفارسية،والعثمانية،والروسية،حيث إنَّ حدود روسيا وإيران وتركيا هي الحدود الطبيعية لمنطقة القوقاز.وهاهو اليوم،يتحول القوقاز الجنوبي إلى مختبر حقيقي لقياس توازنات السياسات الخارجية للقوى الإقليمية المسيطرة،تركيا وإيران وروسيا.
وعلى الرغم من العداء التاريخي المستحكم بين تركيا وأرمينيا منذ المذبحة المعروفة التي حصلت سنة 1915، فإنَّ الأمورَ تحركت من جديدٍ ، لجهة تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا في 22نيسان/أبريل2009 .علمًا أنًّ الحدود التركية- الأرمينية كانت مغلقة منذ العام 1993، تاريخ اندلاع النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو قره باخ (ترجمته الغابة السوداء)، الذي احتلته أرمينيا،وهو الإقليم الذي تسبب في اندلاع نزاع مسلح بين البلدين القوقازيين،اللذين يدعي كل منهما بأحقيته في السيادة عليه.
وعلى الرغم من أن أذربيجان بلد مسلم يعتنق المذهب الإسلامي الشيعي،فإنَّ إيران الدولة المسلمة المجاورة لكل من أذربيجان وأرمينيا،وقفت إلى جانب أرمينيا المسيحية الأرثوذكسية التي تقيم علاقات قوية مع روسيا ضد أذربيجان الشيعية الدولة النفطية المنافسة لإيران،والتي تربطها علاقات قوية مع تركيا غريمة إيران الإقليمية، منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي السابق،نظرًا للتماثل معها عرقياً ولغوياً وثقافياً،إضافة إلى علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية.وهنا نلحظ في هذه التحالفات الإقليمية مع الأطراف المحلية تغلب لغة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الوجودية على لغة الانتماءات الدينية والمذهبية والأيديولوجية.
في المخطط الإقليمي الذي يدافع عنه أردوغان بشراسة، تشكل القضايا الكبرى: القضية الكردية، والقضية الأرمينية،وقضية قبرص،والتدخل العسكري التركي المحتل لشمال غربي سورية،والتدخل العسكري التركي في ليبيا،والصراع الإقليمي المتفجر في شرق المتوسط بين تركيا و اليونان،المتراس الأيديولوجي للدوغمائية العثمانية الجديدة التي يقودها الآن الرئيس أردوغان،الذي قال مؤخرًا:،إنَّ السلام سيتحقق في منطقة جنوب القوقاز “فور انسحاب أرمينيا من أراضي أذربيجان المحتلة”.وأضاف: “لقد أتاحت التطورات الأخيرة لجميع الدول النافذة في المنطقة الفرصة لوضع حلول واقعية وعادلة، ونأمل أن تستغل هذه الفرصة بأفضل طريقة ممكنة”.
ليس خافيًا على أحد أنَّ تركيا منشغلة الآن بالحرب في منطقة القوقاز،لعدة أسباب، منها اعتبار نفسها قوة إقليمية وعسكرية كبيرة،وهي أقوى بكثيرمن تركيا التسعينيات من القرن العشرين، وهي منخرطة عسكريا في أكثر من جبهة (سورية، وليبيا واليونان، وأخيرا إقليم ناغورنو قره باغ) ، وقادرة على التنافس في أكثر من جبهة دون أن يتراجع اهتمامها بإحدى تلك الجبهات حسب ادعائها،بل ويتعزز نفوذها الإقليمي مع كل ملف جديد يظن الواهمون أنه سيشغلها عن بقية الملفات.
وتُعَدُّ منطقة قوفوزالواقعة في إقليم ناغورنوقره باغ، مركزًا استراتيجيًا للطاقة والنقل بين تركيا وأذربيجان، والتي يمر عبرها خط سكة الحديد باكو-تبليسي-كارس، وخط أنابيب “تاناب”، الذي يزود تركيا بالغاز الطبيعي، وخط أنابيب النفط باكو-تبليسي-جيهان.
لهذا السبب اعتبرت أنقرة أنَّ أرمينيا تفصل تركيا عن عمقها “التركي” في شرق القوقاز ووسط آسيا وتحرمها من الوصول لمصادر الطاقة في بحر قزويين.فمنطقة “قره باغ” الخاضعة لسيطرة أرمينيا،وما بعدها،أي سلسلة جبال “زانغيزور”،تفصل تركيا عن عمقها “التركي” في شرق القوقاز ووسط آسيا، في إشارة إلى المساحة الأرمينية التي تخترق الأراضي الأذرية وتفصلها إلى شطرين.
ومن الواضح أنَّ “القوى الإقليمية” المتصارعة في شرق المتوسط ترغب بالانتقال إلى منطقة القوقاز،لا سيما أنَّ روسيا تريد القتال على أرض تعتبرها الأقوى من وجهة نظرها.

ثانيا:موقف روسيا
يرى المحللون الملمون بقضايا جنوب القوقاز،أنَّ فجوة جيوسياسية تشكلت من ليبيا إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وسورية والقوقاز، كما أن الانسحاب الأمريكي الجزئي وعدم قدرة الاتحاد الأوروبي على خلق سياسة خارجية يسهلان تحركات روسيا لسد فجوات جديدة في النفوذ.
وهناك بصمات فرنسية أيضاء وراء تصعيد التوتر على الحدود بين أذربيجان وأرمينيا،بسبب وقوف الرئيس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جانب اليونان، وهو يقف الآن إلى جانب أرمينيا.لكنَّ عندما يتعلق الأمربأرمينيا، فإنَّ اللاعب الرئيس هو الرئيس الروسي بوتين.علمًا أنَّ اثنين من عقود الغاز بين تركيا وروسيا ستنتهي مع موسكو في عام 2021،وستقوم تركيا بتوريد عجز الطاقة من أذربيجان من خلال”تاناب”.
وهذا يُعَدٌّ سببا كافيا لروسيا لخلق عدم استقرار على خط الحدود بين أذربيجان وأرمينيا.فالتوتر في قره باغ، سيكون له تداعياته في سورية وليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط.وكانت تركيا تأخذ دائمًا بعين الاعتبار في خطواتها في منطقة القوقاز، الموقف الروسي، وتفضل التعاون مع روسيا بدلا من التصادم معها.وتريدأرمينيا أن تكون نافذة تركيا في القوقاز، بتحريض من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا بالإضافة لإيران.
تُعَدُّ روسيا،وهي واحدة من الجهات الفاعلة الرئيسية في الصراع الذي دام عقودا بين أذربيجان وأرمينيا،حليفًا تقليديًا لأرمينيا.كما أنَّ روسيا التي تُعَدُّ أكبر مُوَّرِدٍ للأسلحة للسلطات الأرمنية، أهم داعمٍ لأرمينيا في حرب أوائل التسعينيات،وكانت الوسيط في عملية وقف إطلاق النار حينها والتي لم تنتقل لمرحلة حل الإشكالية.ولكنَّ على الرغم من العلاقات الحميمية بين أرمينيا وروسيا، فإنَّ الأخيرة أيضًا لها علاقاتها الجيدة مع أذربيجان،وقامت ببيع الأسلحة لها في السنوات الأخيرة.وبعد الاشتباكات الأخيرة، جاءت تصريحات جيدة من موسكو، ودعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأطراف إلى الجلوس على الطاولة وحل المشكلات من خلال الحوار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى