” دعاء الكروان “.. مغرداً نصف قرن على رحيل عبد الناصر
بقلم: محمود كامل الكومي*

المكان : ميدان المنشية بالإسكندرية
الزمان :26 أكتوبر 1954
المناسبة : مؤتمر جماهيري حاشد يلقى فيه جمال عبد الناصر خطاباً جماهيريا بمناسبة توقيع اتفاقية جلاء القواعد البريطانية عن مصر.
الأحداث :طلقات رصاص الغدر تنهمر على الرئيس من عملاء الاستعمار وأعداء الثورة والشعب .
الجماهير : انتابتها حالة من الذعر والخوف على الزعيم .
الرئيس : كانت صيحاته خير دليل على شجاعته , فعقب إطلاق عدد من طلقات النار نحوه، تمكن من تجنبها بفضل عناية الله، صاح مكرراً عدة مرات “فليبق كل في مكانه أيها الرجال”، وأضاف: “حياتي فداء لكم، دمي فداء لكم، سأعيش من أجلكم، وأموت من أجل حريتكم وشرفكم”.
وعاش جمال عبد الناصر من اجل حرية وشرف شعبه , وصعدت روحه الى الرفيق الأعلى مناضلا وفداء لشعبه , فصار حياً رغم الكفن , خالداً فى لوح الزمن , رغم كل محاولات الامبريالية والصهيونية العالمية والرجعية العربية ,وحكومات مافيا رجال الأعمال والإقطاع فى مصر أذناب الرأسمالية العالمية وأولاد الـ كامب ديفيد , لاغتياله فى قبره منذ رحيل جسده عنا فى 28 سبتمبر 1970 الى الآن, ليحقق التفرد , فيضحى هذا التاريخ نصف قرن من الحضور , ويبقى حيا رغم الكفن وخالدا فى لوح الزمن .
ويبقى التساؤل: لماذا تحاول حكومات مافيا الرأسمالية المصرية والإقطاع، وحكومات الرجعية العربية اغتيال عبد الناصر فى قبره ؟ وتضحي الإجابة كامنة فى التساؤل الآتي: لماذا هو حاضر رغم مرور نصف قرن على الوفاة؟
ونجيب من السؤال الأخير ….حيث ينفرج الستار الآن وفى ذكرى الرحيل .
ما بين انسحاب دجى الليل وولوج الإصباح يبسط صوت الكروان تغريدته لتنساب بين ثنايا الكون الى السماء ,فى عزف منفرد لا يجاريه عزف أي من آلات أعظم الفرق السيمفونية في عالمنا الآن … ولقد أضناني البحث فى الحروف والكلمات لتصوير تلك الزقزقة أو التغريديات أو الألحان فعجز القلم واللسان عن الوصف , فلك عزيزي القارئ أن تسترق السمع فى كل الأوقات علك تصادف تغريدة هذا الطائر المسمى “كروان ”( الملك ..لك ..لك .. لك ) هنا أو هناك لتدرك الفرق بين الطبيعة بسحرها وجاذبيتها التى تنقى السمع والنفس وسريرة الإنسان .. وبين صوت الآلات التى تحاول تقليد الأصوات والأنات , فتصير نشاز .
“أمنه “تنادى وين “هنا دي” يا أماي ؟ فلا تجد صدى لتساؤلها ولا إجابات , فتحيل التساؤل الى خالها , وين هنا دي يا خال ؟ فى غلظة ونشوة وانتقام يرد القاتل الغدار .. هنادي راحت بالوبى …….. فتنهار ..
ويسرى الصوت ” الملك لك لك لك , من جوف الكروان الى أفاق السماء يرثى هنادي المغدورة بعد أن راحت بالوبى الى أعماق التراب .
لم تكن “هنادى” إلا ضحية ذئب بشرى هو أبن الذوات والطبقة العليا فى المجتمع( الإقطاع والرأس مالية) وما عداها سوى جواري مستباحة تستجيب لنزواتهم بكل راحة – وهى أيضا ضحية الجهل والفقر والمرض وغلظة القلب المتجسدة فى الخال الذي غدر بها ودفنها فى جوف الأرض ليغسل العار على حد فهمه الغدار.
كان حال “هنادي” هو حال شعبنا العربي قبل ثورة يوليو التى قادها الزعيم جمال عبد الناصر من العام 1952,وهى الفترة التى عاشها الزعيم منذ ميلاده فى 15 يناير 1918.
حينها كان الشعب العربي يئن تحت نير الاحتلال الأنجليزى , والملك المرابي والفاسد والسكير , وحكومات الأحزاب الخانعة للقصر والاستعمار البريطاني , ويعانى من الطبقة الرأسمالية والإقطاعية الموالية للاستعمار والمتحكمة فى أرزاق الناس والسارقة لقوتهم اليومي , وكانت الصبايا والنساء سبايا لأصحاب رؤوس الأموال , حين يضطرون للعمل فى بيوتهم تحت ضغط الحاجة للقمة العيش, وكانت قمة العار انتهاك عذرية الصبايا ونهش لحم النساء – وكان الفلاحون أقنان عند السيد الإقطاعي يَسقى بدمائهم وعرقهم ضيعاته من الأراضي الشاسعة طول النهار , وصارت نسائهم من الفلاحات خُدام وجواري فى بيوت الإقطاع , تنتهك آدميتهم , ويُتَعَدى على حرماتهم و عُذريتهم من أولاد الذوات الإقطاعيين .
كان الجهل والفقر والمرض والحفاء هم –السندان والمطرقة معاُ- اللذان يُطبقان على شعبنا العربي فى عمومه وعلى الطبقات الدُنيا من فقرائه على وجه الخصوص , حيث لابد يل عن الانصياع لقهر الرأسمالية والإقطاع نتيجة للاستبداد والفقر والجهل والمرض , فكم من فقير انضوت كرامته وانسانيتة تحت أجنحة الذل الرأسمالي والإقطاعي من أجل لقمة العيش , وكم منهم جُعِلَ التراب مثوى لمن أهدرت عذريتها واستبيحت حرماتها من جانب أولاد الذوات , بديلا عن التصدي للمعتدى والذئاب البشرية من هؤلاء الرأسماليين والإقطاعيين الغير آدميين , وكان الجهل والفقر والمرض هو الباعث لهذا التدني فى الشجاعة والأقدام , وكان الخوف مركوز فى النفوس , وكان الظلام .
فى ليلة 23 يوليو من العام 1952 سرى صوت الكروان – الملك لك لك لك– يُغرد فى الكون ويعزف أعذب الأ لحان ,وبدا صوت ” جمال عبد الناصر” يرتفع الى عنان السماء “أرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد” ويزداد تغريده ” الشعب هو القائد وهو المعلم وهو الخالد أبداً” .
وقتلت “آمنه ” شقيقة “هنادي” , مهندس الري أبن الذوات الذي فض عذرية هنادى –فانتقمت لكل هنادى فى البلاد .
وصدرت قرارات جمال عبد الناصر بتحديد الملكية الزراعية للأ قطاعين وتوزيع الأراضي التى استولى عليها الأقطاع على صغار الفلاحين – وأممت المشاريع التى دمرت اقتصاد البلاد ومصت دماء العمال , واحتكرت الثروة والثراء ,وأقيمت آلاف المصانع وصار العمال شركاء فى الإنتاج وأعضاء فى مجالس أدارتها, وغدت شرعية المجالس النيابية والمحلية تستمد من وجود 50% من أعضائها من العمال والفلاحين على أقل تقدير , وغدا الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل , وصارت المرأة وزيرة وشاركت الرجل فى كل المهام , وبدت الجامعات والمؤسسات التعليمية نورا للعلم فى كل مكان لتقضى على الجهل بعد القضاء على الفقر , من خلال مجانية التعليم لأبناء الفقراء, وصار العلاج والدواء بالمجان بعد اِقامت صروح من المستشفيات والمراكز الطبيه لعلاج الفقراء , فَقُضى على المرض خاصة الأمراض المتوطنة التى عانى منها الشعب فى عصور سابقة .
وغرد الكروان فى ربوع أمتنا العربية ينشر الضياء ويقضى على البوم والغربان ” عملاء الإمبريالية والصهيونية”من أمراء فناطيس الجاز فى الخليج , وصارت القومية العربية صوت “جمال عبد الناصر” ونداء الكروان – وعلى النقيض لم يكن صوت الكروان اِلا نشاز عند حكام الرجعية العربية فأطلقوا البوم والغربان فى أيلول الأسود من العام 1970 وأبادوا المقاومة الفلسطينية ” أمل جمال عبد الناصر لتحرير فلسطين ”, فأُنِهك القلب فى ليلة الإسراء وصعدت روح الكروان الى عنان السماء ليلقى “جمال عبد الناصر” ربه فى 28 سبتمبر (أيلول) 1970 .
وتحل علينا ذكرى نصف قرن على رحيل جمال عبد الناصر , وسماء الأمة العربية مليئة بالبوم والغربان , تنشر الشؤم والعار والدمار , متجلية فى حكام الإمارات والبحرين وبقية أمراء الخليج تستبيح دماء الشعب الفلسطيني بعد إن نفذت هدف العدو الصهيوني بنشر الإرهاب والدمار وتفتيت مكونات بلداننا العربية فى سوريا والعراق وليبيا واليمن – لتعلن التطبيع الصريح مع عدونا الوجودي الكيان الصهيوني.
فهل ل “آمنه ” أن تثأر لروح ” هنادى” ,فتنظف سماء الأمه العربية من كل البوم والغربان ؟
بعد أن تلبدوا وانتهزوا فرصة انتقال عبد الناصر الى جوار ربه فعاثوا يتآمرون على شعبنا العربي ويسرقون منجزاته التى حققها لهم جمال عبد الناصر ويحتفلون مع الصهاينة والامبريالية العالمية بإزاحة عدو إسرائيل الأول وعدو الرأسمالية المستغلة والإقطاع والرجعية العربية , هؤلاء الذين استطابوا الثريد وامتطائي العبيد لتحقيق صفقة القرن مع الامبريالية والصهيونية , ببيع فلسطين وتحقيق حُلم إسرائيل الكبرى من النيل والفرات .
لكن أبدا لن يتحقق حلمهم ,فعبد الناصر حاضر فى شعبنا العربي رغم مرور نصف قرن على رحيله ,ليتصاعد النضال ضد صفقة القرن وبيع الأوطان , وضد المطبعين من العُربان
وسنستعيد أموال الشعب التى أعادها لنا عبد الناصر من مصانع وقطاع عام , وأراضى وزعها على صغار الفلاحين والأُجَراء من براثن حكومات مافيا الرأسمالية والقطاع ,وإنها لثورة على كامب ديفيد ووادى عربة وأسلو , و على المطبعين فى الخليج.
وحينما ينبري من يقول لك كان زمان نحن فى واقع متغير , ولابد أن نعيش الواقع , فرد وأنت شامخ الرأس مرفوع الهامة بأن مشروع عبد الناصر هو مشروع أخلاقي صالح لكل زمان
نعم لقد أصبحنا أكثر واقعية مما كنا خلال الزمن الجميل،( زمن الناصرية) ولكن الواقعية التى تفتقر إلى الخيال والطموح ليست صفة أفضل من التمسك بالمثل العليا وقيم العروبة وتذويب الفوارق بين الطبقات(التى ميزت حكم عبد الناصر)،خاصة إذا كانت هذه الواقعية تعنى قبول ما لا يمكن أن ترضى عنه الأخلاق, حين تجعل من العدو الصهيوني صديق , وتمكن مافيا رجال الأعمال من رقاب الشعب ( كما تفعل حكوماتنا منذ صعود روح عبد الناصر والى الآن !!!!
ويا” دعاء الكروان ” موعدنا معك الفضاء الرحيب كلما أوغلت بنا الذكرى في أغوار فلن تنقطع الصلة بينها وبين الفضاء الرحيب. فضاء القومية العربية التى ناضل من اجلها الزعيم جمال عبد الناصر منذ ثور ته فى 23 يوليو 1952حتى صعود روحه الى عالم الخلود فى 28 سبتمبر 1970، وتغريده منك الى روح “الزعيم ” جمال عبد الناصر فى ذكرى الرحيل . وعلى الفور يستجيب الكروان مغرداً….. الملك…لك…لك …لك.
*كاتب ومحامي – مصري