خدعوك وقالوا: الخلافة الإسلامية

بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن

 

يبكى كثير من المسلمين ويتحسرون على إلغاء الخلافة بعد انهيار الدولة العثمانية، وأجدر بهم أن يبكوا على غفلتهم وجهلهم والخديعة التي لا يزالون ضحيتها. الخلافة الاسلامية كانت فعلاً عظيمة وجديرة بأن يبكي عليها كل المسلمين، لكن لا علاقة لها بما تُذرَف عليه دموع المسلمين الآن، لا من قريب ولا من بعيد.

الافتراض الشائع عند المسلمين هو أن الخلافة الإسلامية بدأت بأبي بكر واستمرت بشكل متواتر حتى انهيار الدولة العثمانية. وهو افتراض ابعد ما يكون عن الحقيقة بل قد يكون خديعة متعمدة من رجال الدين والسياسة. فالخلافة الراشدة (وهي الخلافة الإسلامية الحقة) بدأت بأبي بكر و انتهت بمقتل علي بن أبي طالب، وكل ما جاء بعد ذلك من ممالك وامبراطوريات كان مجرد ممالك وامبراطوريات و لا علاقة له بالاسلام ولا بدولة الخلافة.

قصة الخلافة:

كانت الخلافة الإسلامية أعظم إنجازات الإسلام بعد وفاة الرسول (ص). فقد اجتمع وجهاء المسلمين وتباحثوا أمرهم ووقع ”اختيارهم“ على أبي بكر ليكون خليفة لرسول الله (ص)، و التركيز هنا على كلمة ”إختيار“ لأن ما قد يبدوا وكأنه كان إجراءً طبيعياً كان في واقع الأمر سبقاً حضارياً. فقد كان السائد عند الشعوب أن يرث الحاكم مُلكه عن أبيه، فإذا بالعرب في تلك البقعة النائية من الارض والمرحلة البدائية من حضارتهم يأتون بنظام ”إنتخابي“ مبهر في زمانه ومكانه. وكان اختيارهم لأبي بكر موفقاً فيحسب للرجل موقفة القوي في حروب الردة. ولم يخطر لأبي بكر للحظة واحدة أن يجعل من الدولة الإسلامية مُلكاً له ولاسرته، ولا تخيل المسلمون أنه سيفعل شيئاً من ذلك. وبعد أبي بكر، استمر المسلمون في نهجهم واسلوبهم الانتخابي في ”اختيار“ سائر الخلفاء الراشدين. وسار الخلفاء الراشدون على نهج الرسول (ص) وأقسطوا وابتعدوا عن بذخ الملوك و اسرافهم. في عهد عمر بن الخطاب كانت الدولة الإسلامية قد أصبحت أكبر دولة في العالم وتضم بين جنباتها الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، بينما كان يرأسها رجل بسيط يعيش حياة بسيطة وينام على الحصير.

في ذلك الوقت المبكر من الزمن وقبل اختراع الاوراق الانتخابية وصناديق الاقتراع، كان أسلوب ”الاختيار“ هو أقرب الممكن لأسلوب الانتخاب كما نعرفه الآن. و حيث أنه كان متعذراً أن يشارك كل الناس في عملية الانتخاب فتطوع سادة القوم للقيام بذلك. كانت الخلافة الراشدة أقرب الممكن للنظام الجمهوري الانتخابي كما نعرفه الآن وبعيدة كل البعد عن الأنظمة الملكية الوراثية (وأنا أكتب من وجهة نظر المسلمين السنّه). و يمكن اعتبار أن كلاًّ من الخلفاء الراشدين أُنتخب رئيساً مدى الحياة. و مبدأ الانتخاب هو الأساس و العمود الأهم في الخلافة الإسلامية، ومن دونه لا تكون خلافة ولا تكون إسلامية بل مجرد استغفال و ضحك على الذقون. وقد لُقِّب أبو بكر ”بالخليفة“ عفوياً لأنه فعلاً كان كذلك، وكان ممكناً طبعاً أن يلقب بالرئيس أو بلقب آخر، فالاسم بحد ذاته ليس متطلباً دينياً على عكس طبيعة المنصب وشروطه.

انتهت الخلافة الراشدة بمقتل علي بعد معركة صفين التي نشبت لإخماد حركة التمرد التي قادها معاوية بن ابي سفيان. انتهز معاوية الفرصة وأعلن نفسه خليفة بديلاً وطلب البيعة ورأى المسلمون مبايعته حقناً للدماء. والخطأ الكبير الذي يقع فيه المسلمون هو اعتبارهم دولة معاوية إمتداداً لدولة الخلافة الراشدة بينما هي كانت عكس ذلك تماماً لأنها كانت تمرداً ضدها وعدوان عليها و سبباً رئيسياً في تقويضها. كان معاوية خارجاً على خليفة رسول الله و سبباً في مقتل خمسة وأربعين ألفاً منهم في صفين، أو ما يزيد على كل الجيش الاسلامي الذي تقابل مع الروم أو الفرس في معركتي اليرموك والقادسية! ودولة معاوية لم تكن في الواقع دولة جديدة بل نفس الدولة الإسلامية القائمة والتي ائتمنه المسلمون عليها لكنه جعلها مُلكاً له و لعشيرته. بتحويل الدولة الاسلامية الى مملكة قضى معاوية على أهم خصائص الخلافة وهو ”النظام الانتخابي“. وبذلك حُرِمَ العرب والمسلمون من ذلك الكنز الحضاري و كان عليهم الانتظار حتى القرن العشرين ”ليتعلموا و يستوردوا“ نفس النظام بنمطه الغربي الحديث. الدولة الأموية بالنسبة لدولة الخلفاء الراشدين كانت كدولة السادات بالنسبة لثورة يوليو، فمع أنها جائت من صلبها إلا أنها كانت ردة عنها و عدوان عليها. وما أكثر الذين يظنون أن ما ابتليت به مصر من مشاكل سياسية و اقتصادية و اجتماعية منذ السبعينات كانت بسبب ثورة يوليو و هي في الواقع بسبب ”الردة“ عنها.

تعشم المسلمون أن يحكم معاوية بالقسط، لكن سرعان ما خاب ظنهم عندما ظهر افتتانه بالروم فجعل من دمشق عاصمة له واتخذ قصراً و حرساً وعاش حياة الملوك. لكن طفح الكيل و ثارت ثائرتهم عندما أوصى بالخلافة لأبنه يزيد لما في ذلك من نقض لأصول الخلافة وأصول البيعه. أنكر أكثر المسلمين تلك البدعة ورفضوا المبايعة واختاروا الصحابي عبدالله بن الزبير خليفة لهم بدلاً من يزيد، فعمد الأخير إلى أخذ البيعة عنوة فنشبت معارك طاحنة بين الفريقين راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين واقترف فيها جيش الأمويين فظائع لا تليق بأي جيش ناهيك عن جيش مسلم يأتمر من خليفة مسلم. حوصرت مكة والمدينة أشهراً وقُصفت الكعبة الشريفة بالمنجنيق مرات و دمرت و أحرقت مرتين وأٌنتهكت حرمة المدينه المنورة و استبيحت ثلاثة أيام كاملة. استمرت المعارك الطاحنة بين الفريقين عدة سنوات و انتهت بهزيمة ابن الزبير ومقتله في عهد عبدالملك بن مروان.

تقنع ملوك بني أمية بلقب ”الخلفاء“ لما في اللقب من رنين ديني لارتباطه بالخلفاء الراشدين، و أصبح ذلك تقليداً في الامبراطوريات الاسلامية حتى القرن الماضي، وذلك لإعطاء المنصب لمسة دينية لاستغفال المسلمين. وعاش ”خلفاء“ بني أمية حياة الملوك ونهجوا نهجهم وأسرفوا إسرافهم و بطشوا بطشهم، بل كان بأسهم على المسلمين أشد من بأسهم على الكفار كما تبين من استباحتهم للمدينة المنورة. كان ثمن قيام الدولة الاموية باهظاً جداً دُفع من دماء مئات الآلاف من شباب المسلمين ولا يزال الجرح الذي أُصيبت به الامة الاسلامية ينزف بغزارة إلى يومنا هذا. ربما لو استمر المسلمون على نهج الخلفاء الراشدين لتعمقت لديهم ثقافة الانتخاب و لتجدد شباب الدولة الاسلامية مع كل خليفة جديد، فما أسرع ما يؤدي توارث الملك الى الوهن و ”امراض الشيخوخة“ في الامبراطوريات كما حصل في الدولة الأموية والعباسية بل في كل الامبراطوريات عبر التاريخ.

ولم يكن ”خلفاء“ بني العباس بأفضل حالاً من بني أمية، فهم أيضاً لم يكونوا امتداداً للدولة الإسلامية الراشدة بل كانوا استمراراً للردة عنها. وهم أيضاً انغمسوا في حياة الملوك وأسرفوا اسرافهم وانشغلوا في نزاعاتهم الداخليه. ورث بنوا العباس دولة كبرى واسعة الثراء، شاسعة المساحة ومتعددة الجنسيات و عمَّ فيها الرخاء والرفاهية والتقدم في العلوم والفنون. العصر العباسي هو ما يقصده المؤرخون عندما يذكرون العصر الذهبي في التاريخ الاسلامي، لكن أُبتلي الخلفاء العباسيين بالقلاقل و الصراعات الداخلية و النزاعات العرقية و كانت نهاية الكثير منهم القتل بطرق مأساوية.

وقعت الدولة العباسية فريسة لجيوش التتار الذين دمروا بغداد سنة ١٢٥٨، ثم اتجهوا غرباً مهددين دولة المماليك في مصر. رفض السلطان قطز الإذعان لتهديد التتار فجمع جيشاً قوياً بقيادة الظاهر بيبرس واتجه الى فلسطين للتصدي لهم وانتصر عليهم في عين جالوت. وبعد العودة الى مصر، اغتال بيبرس السلطان قطز وأعلن نفسه ملكاً على مصر. ثم قام باستدعاء أحد فلول بني العباس من الذين هربوا من بغداد ونصَّبه ”خليفة“. أقام ”الخليفة“ الجديد في القاهرة ولم يكن له أي قوة أو نفوذ وكان الغرض منه مجرد إعطاء صبغه دينيه لحكم الملك الظاهر. وهذا مَثَل من أمثلة كثيرة على التجارة في الدين وتوظيفه لخدمة الملوك والسلاطين واستغفال المسلمين.

ثم تعرضت بلادنا للغزو العثماني الذي لم يكن غزواً لنشر الاسلام بل لقتل المسلمين واغتصاباً لبلادهم وانتهاكاً لحرماتهم . وهكذا اقتتل المسلمون فيما بينهم وسقطت بلاد الشام وسقطت مصر وسقط معهما آلاف المسلمين. فماذا كان موقف الخليفة العباسي في القاهرة ؟ قام بالتنازل طواعية عن لقبه الزائف للقائد المعتدي (السطان سليم) وهكذا خرج ذلك اللقب من العرب الى العثمانيين بينما دخل العرب في سبات عثماني ثقافي عميق، فطيلة خمسة قرون لم يخرج منهم عالم أو أديب أو كتاب ذو قيمة. كان سلاطين آل عثمان مهووسين بالوصول الى السلطة الى درجة أن يقتل الأخ أخاه, حتى أن السلطان مراد الثالث قتل كل إخوته الخمسة خنقاً ولم يتفوق عليه الا السطان محمد الثالث الذي قتل كل إخوته التسعة عشر ــ أيضاً خنقاً! لم يهتم سلاطين آل عثمان بلقب ”الخليفة“ ولم يستعملوه ولم يتذكروه إلا بعد إنهيار دولتهم سنة ١٩٢٢و نفيهم خارج البلاد. تذكر ولي العهد المخلوع عبدالمجيد أنه لا يزال يحتفظ في جعبته بشيء (لقب الخليفه) قد يعطيه بعض النفوذ عند المسلمين فعمد إلى استعماله مما حفز أتاتورك الى تجريده أيضاً من ذلك اللقب وإلغائه نهائياً.

بيت القصيد أن الخلافة الإسلامية كانت من أرقى ما أنجزه المسلمون بعد وفاة الرسول (ص) لكنها انتهت منذ أمد بعيد، وبالتحديد بعد العصر الراشدي. أهم مواصفات الخلافة وشروطها هي ”انتخاب“ الخليفه والذي يفترض به أن يقتدي بالرسول الكريم. والشرط الثاني هو أنها لا تورث، فمبايعة المسلمين للخليفة تكون له شخصياً لا لأسرته. بعد الخلفاء الراشدين أصبحت الكلمات ”خلافة“ و ”خليفة“ مفرغة تماماً من معانيها الدينيه وتحولت إلى ألقاب فارغة من أي محتوى، و كان خليقاً بالمسلمين أن يكفوا عن أسباغها على من هب و دب من ملوك وحكام كان كثير منهم طغاة. وأي خلافة تلك التي يلغيها بجرة قلم رجل ليس له صلة بالإسلام مثل مصطفى كمال أتاتورك؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى