زيارات ماكرون لبيروت وبغداد تمهد لعودة فرنسية الى الشرق الاوسط خلفاً للنفوذ الامريكي المتقهقر

في اليوم الثاني من الشهر الحالي، وصل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى بغداد للقاء المسؤولين العراقيين، حيث التقى خلال زيارته هذه بالرئيس العراقي “برهم صالح” ورئيس الوزراء”مصطفى الكاظمي” و”محمد الحلبوسي” رئيس مجلس النواب، ورئيس إقليم كردستان “نيجيرفان بارزاني” ومسؤولين عراقيين آخرين
ويعتبرالرئيس الفرنسي هو أكبر مسؤول سياسي أجنبي يزور العراق منذ تنصيب رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” في الـ7 أيار الماضي. في الواقع، حيث خطط “ماكرون” للسفر إلى بغداد في أواخر عام 2019، ولكن الاحتجاجات الشعبية التي انتشرت في العديد من المدن والمحافظات العراقية، أجبرته على تأخير زيارته للعراق.
وتأتي زيارة “ماكرون” إلى العراق في الوقت الذي إنتهى فيه من زيارة العاصمة اللبنانية بيروت للمرة الثانية عقب زيارته الأولى التي قام بها في 16 تموز الماضي. وحول هذا السياق، كشفت العديد من المصادر الاخبارية بأن الرئيس “ماكرون” تحدث في مدينة بيروت خلال زيارته حول حالة الطوارئ اللبنانية بعد الانفجار المروع الذي وقع في ميناء بيروت، وتحدث أيضا عن بعض الشروط لتقديم مساعدات دولية للحكومة اللبنانية. وبعد هذه الزيارة، غادر “ماكرون” إلى العاصمة العراقية بغداد، لإيصال رسالة للعالم بأن فرنسا تدعم استقلال ووحدة العراق. وإذا أخذنا هذة المواقف معًا، فسوف يظهر لنا أن فرنسا تسعى إلى استعادة دور باريس التاريخي في منطقة غرب آسيا، وذلك من خلال النفوذ والتمركز في بغداد وبيروت.
الجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسي “ماكرون” أكد في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره العراقي “برهم صالح”، أثناء زيارته إلى بغداد، على أن التدخلات الخارجية تضعف الدولة العراقية. كما أعرب “ماكرون” أن العراق يواجه تحديات عدة بسبب الحرب والإرهاب، مؤكدا أن “المعركة مع تنظيم داعش لم تنته”.
ومن جهته أكد الرئيس العراقي على ما قاله ضيفه، موضحا: “لا نريد أن تتحول بلادنا لساحة لصراعات الآخرين”. ومن جانبه، قال رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” يوم الأربعاء الماضي، إنه بحث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التعاون في مجال الطاقة، والعمل معا على مشروع نووي يمكنه التغلب على النقص المزمن في الكهرباء بالعراق، في حين أكد ماكرون أن أي تعاون عسكري مع العراق يجب أن يحترم سيادته.
وأضاف “الكاظمي” في مؤتمر صحفي مع الرئيس الفرنسي ببغداد أنه تحدث مع ماكرون بخصوص مشروع مستقبلي لاستخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء ومشروعات سلمية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية ستوفر وظائف وتعالج النقص في الكهرباء. وأشار إلى أن الحكومة العراقية ملتزمة بتوسيع الشراكة مع فرنسا، مؤكدا أن العراق يدعم الاستقرار في المنطقة، وأعرب عن أمله بأن تساعد فرنسا وأوروبا ككل على تحقيق هذا الهدف.

العلاقات التاريخية بين فرنسا والعراق
يرجع تاريخ العلاقات بين فرنسا والعراق إلى حقبة معاهدة “ساسبيكو” التي تم التوقيع عليها في عام 1916. حيث لعبت فرنسا دوراً رئيسياً في انفصال العراق عن الدولة العثمانية ونيل استقلالها في النهاية عن الاستعمار البريطاني. كما كانت أيضا العلاقات بين البلدين جيدة خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حيث بنى الرئيس العراقي الشهيد صدام حسين علاقات جيدة مع فرنسا، وبدأت العلاقات منذ دعم الرئيس الفرنسي “تشارل ديجول” للدول العربية في حرب 1967 ووقوفه ضد إسرائيل، وعندها أصبح العراق من أكثر الدول المصدرة للنفط إلى فرنسا، وفي عام 1974 إتفق رئيس الوزراء الفرنسي “جاك شيراك” مع نائب رئيس العراقي في ذلك الوقت بقيام فرنسا ببناء مفاعل نووي للعراق وألذي فجرته إسرائيل في سنة 1981، وفي الحرب العراقية الإيرانية وقفت فرنسا بالكامل مع العراق ودعمته بالأسلحة، إلا أن العلاقات إنقطعت في سنة 1990 بعد غزو العراق للكويت ووقفت فرنسا ضد العراق وأرسلت قواتها لتحرير الكويت، لكن فرنسا عارضت مرة أخرى غزو العراق في 2003 إلا أنها إتفقت مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بعدم رفع حق النقض الفيتو للسماح لقوات التحالف بإنهاء سلطة الرئيس صدام حسين،
العلاقات حاليا مستقرة وقامت فرنسا بإلغاء 4 مليار دولار من ديونها للعراق. وأما بالنسبة للعلاقات الثنائية بين فرنسان وإقيلم كردستان العراق فلدى فرنسا قنصلية عامة في أربيل، ولإقليم كردستان تمثيل في باريس وتوطدت العلاقات بين فرنسا وإقليم كردستان منذ رئاسة “فرانسوا ميتران” ما بين الفترة (1981-1995)، عندما لعبت زوجته “دانيال ميتران” دوراً أساسياً في الحملة من أجل فرض منطقة حظر الطيران فوق إقليم كردستان في عام 1991. كما أن فرنسا لها وجود عسكري في إقليم كردستان حتى الآن.
وفي السنوات التي أعقبت عام 2003، أصبحت فرنسا أول بلد يمنح العراق إعفاءات عن 80 في المائة من الديون التي عليها والبالغة نحو 4.8 مليار يورو. ومع ذلك، وبسبب المعارضة الخاصة وتأثير الولايات المتحدة، لم تتمكن فرنسا من الحصول على مكانة خاصة في العراق وعلى مدى السنوات الـ 17 الماضية، عارض الأمريكيون بشدة تمدد نفوذ الدول الغربية الأخرى وزيادة تجارتها مع بغداد.
وعلى صعيد متصل، كشفت العديد من التقارير الرسمية مؤخراً، أن الحجم الإجمالي للتجارة بين البلدين وصل إلى أكثر من مليار يورو، معظمها صادرات نفطية عراقية إلى فرنسا. ووفقا لتلك التقارير الرسمية، بلغ مستوى التبادلات التجارية بين فرنسا والعراق عام 2015 مليار و 260 مليون يورو، ولكن بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية عام 2016 وما تلاه من أزمة اقتصادية، وصل هذا الرقم إلى 476 مليون يورو (ما يعادل إنخفاض 61٪ من قيمة تلك التبادلات التجارية في عام واحد). ) وهذا التراجع في حجم التبادل التجاري بين البلدين مستمر حتى يومنا هذا ومن أهم صادرات فرنسا إلى العراق هي السيارات والأدوية والمعدات الكهربائية والميكانيكية، في حين أن 99٪ من صادرات العراق إلى فرنسا هي النفط الخام.
على مدى العقود الماضية، لطالما رأت الدول الأوروبية نفسها في مجال السياسة الخارجية تعيش تحت مظلة الولايات المتحدة الأمريكية ولم تتمكن تلك الدول من اتخاذ مواقف مستقلة. وفي غضون ذلك، وخلال السنوات التي تلت عام 2003، ومع الاحتلال الأمريكي للعراق، فرضت الولايات المتحدة مزيدًا من القيود على دخول الأوروبيين إلى منطقة غرب آسيا. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، عندما دق جرس طرد القوات الأمريكية من المنطقة، يبدو أن الأوروبيين، بقيادة فرنسا، يعتزمون إعادة النظر في سياستهم تجاه غرب آسيا. وعلى نفس هذا المنوال، يبدو أن الرئيس الفرنسي “ماكرون” يبدأ الآن حقبة جديدة في علاقات باريس مع بغداد وأربيل من خلال الخروج من تحت مظلة الولايات المتحدة.
في الواقع، تعكس الإجراءات الفرنسية الأخيرة في منطقة غرب آسيا جهود “ماكرون” لإعادة الاستقلال التشغيلي لأوروبا ومما لا شك فيه أن “ماكرون”، باعتباره المؤيد الرئيسي لنهاية حقبة الناتو والأطلسية، جعل بغداد وبيروت محورًا رئيسيًا لدخول باريس إلى منطقة غرب آسيا. في الواقع، تتجه فرنسا، بصفتها الزعيمة السياسية للاتحاد الأوروبي، نحو الاستقلال عن واشنطن في وقت أقرب من أي جهة فاعلة أخرى، ويبدو أن هذا الاتجاه سيتسارع في السنوات المقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى