الحرب المنسية بين القبائل العربية و”قسد” في شرق الفرات

تمثل “قوات سورية الديمقراطية”-(قسد)- التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي (ذراع حزب العمال الكردستاني التركي)القوة الضاربة للاحتلال الأمريكي في شمال شرقي سورية، وتؤدي بكل تفان ما هو مطلوب منها أميركيًا وصهيونيًا، ولا تريد التعلم من الصفعة التي تلقاها انفصاليو كردستان العراق، وهي تسيطر على منطقة شرق نهر الفرات، أي حوالي ثلث مساحة سورية، وتضم كامل محافظة الحسكة، في أقصى الشمال الشرقي من سورية، والجزء الأكبر من محافظة الرقة،وجزءًا من ريف محافظة دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات،وقسمًا من ريف حلب الشمالي الشرقي، إضافة إلى مدينة منبج وبعض ريفها، والتي تقع غربي النهر.
اغتيال شخصيتين بارزتين من شيوخ العشائرالعربية
لما كانت “قسد” تهيىء الأرضية لمشروعها الإنفصالي،وتستهدف إنشاء إقليم ذي صبغة كردية في منطقة يشكل العرب غالبية سكانها،فإنَّها اصطدمت بمقاومة العشائر العربية التي تمثل قوة بشرية هائلة، فضلاً عن الدور الاجتماعي والسياسي الذي لا يزال يؤديه شيوخها.
وفي هذا السياق،اعتقد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أنّ “موسم الاستقلال”حان ،فبدأ باستهداف رموز القبائل العربية ،التي انقسمت ولاءاتها خلال الأزمة السورية منذ عام 2011، بين القبائل الموالية للدولة الوطنية السورية، والقبائل التي التحقت بفضائل المعارضة المسلحة.
وجاءت عملية اغتيال أبرز شيوخ العشائر في ريف دير الزور،وهما إبراهيم خليل عبود الجدعان الهفل، شيخ عشيرة العقيدات،أكبر العشائر العربية في هذا الريف، والشيخ علي الويس من قبيلة البكارة،لتدق جرس الإنذار بالنسبة للقبائل العربية، التي أصبحت مستهدفة في وجودها، مع تنامي الشعور بمحاولات جديدة لتهميش العرب وإقصائهم عن رسم مستقبلهم في سورية.
أكراد سورية أداة في يد أمريكا
فأكراد سورية لا يشكلون أقلية كما هو الحال في العراق أو تركيا،فقد استوطنوا شمال وشرق سورية ،عندما بدأت العشائر الكردية من البدو الرحل تترك هضبة الأناضول التركية في موسم الربيع وتنزل إلى الجزيرة السورية إلى جوار القبائل العربية،وقد أصبحت منسجمة تماماً مع تقاليد أهل المنطقة وعاداتهم من خلال استخدامها للزي العربي البدوي ونمط خيام البدو،فهي عشائر تَبَدْوَنَتْ بهذا الشكل أو ذاك لطول إقامتها في الحاضرة العربية على حد تعبير أوبنهايم .ثم استوطنت بعض القبائل الكردية الرحل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر في سهول منطقة “الجزيرة” إلى جانب القبائل العربية، ولكن الأكراد بقوا أقلية صغيرة لا قيمة لها عَدَدِيًّا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى واحتلال فرنسا لِسُورِيَة.
لقد دفعت حملة كمال أتاتورك لقمع انتفاضات الأكراد في تركيا إلى نزوح الآلاف منهم نحو مناطق النفوذ الفرنسي في سورية وبخاصة المناطق الحدودية في الجزيرة -الحسكة لاحقاً-.وأصبحت سورية بعد ثورة الشيخ سعيد سنة 1925م ملجأً للأكراد الفارين من القمع كما يقول الزعيم الكردي عبد الرحمن قاسملو . ويقدّر ديفيد مكدول أعداد الأكراد القبليين الذين عبروا الحدود في فترة تهدئة القبائل بين عامي 1925-1928م هرباً من القوات المسلحة التركية بنحو 25 ألف نسمة. ويوثق ذلك العلامة محمد كرد علي وزير المعارف السوري الذي زار المنطقة سنة 1931م في رسالته التي أرسلها إلى رئيس الجمهورية السوري آنذاك ،حيث ذكر المهاجرين من مختلف الإثنيات الذين “استوطنوا على الحدود وكانت جمهرتهم من الأكراد”.
فالعلامة الكردي الشهير محمد أمين زكي في كتابه “تاريخ الكرد وكردستان” قدر عدد الأكراد في سورية قبل الحرب العالمية بين 70-80 ألف نسمة، وذلك بالاعتماد على تحقيق زيميرمان قنصل روسيا في حلب.فيما قدرت الموسوعة السوفيتية عددهم في سورية سنة 1937م بـ 200 ألف نسمة.وقدرهم  وليام إلفنستن سنة 1946م بـ 250.000 نسمة.وقدرهم لوسيان رامبو بـ 250 ألف أيضاً في سنة 1947م.أما روبيرت زايدنر، فقد قدرهم سنة 1959م بـ 250 ألف نسمة أيضا.بينما قدر القيادي والسياسي الكردي الإيراني عبد الرحمن قاسملو أعدادهم سنة 1962م بنحو 400 ألف نسمة في عموم سورية.فيما رجح الزعيم الكردي الراحل جلال الطالباني في كتابه الصادر في بغداد سنة 1970 بأنَّ عدد الأكراد في سورية والأتحاد السوفيتي هو 500 ألف نسمة.أما أستاذ العلاقات الدولية المهتم بالشأن الكردي ميخائيل م جونتر فقد قدر أعدادهم في سورية سنة 2004 بنحو مليون نسمة، وهذا يقترب من النتائج التي سنحصل عليها في دراستنا كما سنرى ، قبل موجة الهجرة الكبيرة من تركيا نحو سورية بداية من 1974، بعد اشتداد حملات القمع ضدهم وحرق الجيش التركي المحاصيل الزراعية وهدم قرى الأكراد وتَشْرِيدِهِمْ…
ورغم تناقض المعلومات فإنّ مصادر الحركة الكردية تُقَدِّرُ عددهم بنحو ثلاثة ملايين في سوريا سنة 2015 يتوزعون في ثلاث محافظات أساسية هي الحسكة، وحلب، ودمشق، مع تواجد أعداد أقل في حمص وحماة وريف إدلب واللاذقية، ويُقَدَّرُ العدد الحقيقي بنحو 2 مليونين كُرْدي في سورية، جاء أكثر من تسعة أعشارهم من تركيا خلال العقود القليلة الماضية.
القبائل العربية في شرق الفرات والدعوة للمقاومة الشعبية
يصل عدد أبناء القبائل العربية في منطقة الجزيرة وحوض الفرات، إلى نحو 4 ملايين، ويمثلون أكثر من 85 في المائة من سكان المنطقة التي تضم أيضاً الأكراد والتركمان والسريان، وبعض الأرمن والشركس . وتعدُّ منطقة شرق الفرات من أغنى المناطق في سورية، سواء بتواجد النفط و الغاز في باطن أراضيها، أوعلى صعيد الإنتاج الزراعي من قمح و قطن الخ.وكانت القبائل العربية تعيش في فضاء جغرافي واحد في ظل السلطنة العثمانية ، قبل أنْ يتم إخضاع كل المنطقة إلى ما بات يعرف بتقسيم سايكس بيكو في عام 1916.فقد قسمت اتفاقية سايكس بيكو ،القبائل والعشائر العربية إلى قسمين ،قسم أصبح تابعًا للدولة العراقية، وقسم آخر للدولة السورية.
ومع بداية الحرب الإرهابية الكونية على الدولة الوطنية السورية في بداية عام 2012، شهدت منطقة شرق الفرات تحولات كبيرة،فبعد أن كانتْ الدولة السورية هي المسيطرة وفق منطق السيادة الوطنية، انتقلت بعد ذلك السيطرة إلى ما يسمى ب”فصائل الجيش السوري الحر”، ثم “جبهة النصرة”، وفيما بعد إلى تنظيم “داعش”، وصولاً إلى قوات “قسد” التي احتلت موقعًا مهمًا في المخطط الأمريكي،بسبب الحرب ضد “داعش” في عام 2014.وجعل هذا الوضع من الأكراد رقماً صعباً يصعب تجاهله في معادلات الشرق الأوسط، كما جعل من مسألة نشأة دولة جديدة للأكراد تأخذ مكاناً بارزاً في تحليل أو حوار يتعلق بمستقبل كل من العراق وسورية.
ونعود إلى موضوع القبائل العربية، فهي موجودة في ثلاث محافظات:
أولا:الحسكة، التي كانت العرب تطلق عليها قديماً تسمية “ديار ربيعة”،تتواجد أهم القبائل العربية الممتدة في سورية غرباً والعراق شرقاً، لعل أبرزها الجبور، التي تضم عشرات العشائر ويقدّر عديدها بالملايين في سورية والعراق. وتعتبر هذه القبيلة من كبريات القبائل العربية. وتعد منطقة تل البراك في محافظة الحسكة المركز الرئيسي للقبيلة، التي يترأسها نواف المسلط، وهو ابن الشيخ عبد العزيز المسلط الذي كان له دور بارز في تاريخ سورية المعاصر.
وإلى جانب الجبور في الحسكة، هناك قبيلة طي، التي تنتشر في القامشلي، والتي يرأسها الشيخ محمد الفارس، وهو من أبرز الشيوخ الموالين للدولة الوطنية السورية في منطقة شرق نهر الفرات. وتضم هذه القبيلة العديد من العشائر، لعل من أهمها: اليسار، والعساف، والجوّالة، والغنامة، وبني سبعة، وزبيد، والبوعاصي.
ثانيًا:دير الزور،وفي ريف دير الزور الشرقي هناك العديد من القبائل العربية الكبرى، لعل أبرزها قبيلة العقيدات، وهي الأكثر عدداً في عموم محافظة دير الزور ،وتضم قبيلة العقيدات العديد من العشائر، منها: الحسون، والشحيل، والهفل، والشويط، والبورحمة، والبوحسن، والقرعان، والحسون، والشعيطات، والدميم، والبو الخابور، والبوليل.وإلى جانب هذه القبيلة الكبيرة، هناك قبيلة لا تقل عدداً وتأثيراً في محافظة دير الزور، وهي البقارة التي يتمركز ثقلها العددي في ريف دير الزور الغربي، وبعض المناطق في الرقة والحسكة.
ثالثًا:الر قة ،تعد قبيلة البوشعبان من أكبرالقبائل في محافظة الرقة،التي كان العرب يطلقون عليها تسمية “ديار مضر”، إلى جانب عدة قبائل أخرى وعشائر تنتمي إلى قبائل تنتشر في عموم منطقة الجزيرة السورية (المنطقة الواقعة بين الفرات ودجلة)، وحوض الفرات. وتعتبر عشيرة العفادلة من أكبر عشائر البوشعبان في محافظة الرقة، وتنتشر في مدينة الرقة ومحيطها. وتضم البوشعبان عشرات العشائر الكبيرة والصغيرة التي تمتد على مساحة جغرافية كبيرة تمتد من أطراف مدينة حلب الشرقية غرباً، وصولاً إلى محافظة دير الزور شرقاً. وفي الرقة عدة عشائر تابعة لقبيلة الجبور، أبرزها العجيل المنتشرة في عشرات القرى في ريف الرقة الغربي، إضافة إلى المجامدة في ريف الرقة الشمالي، خصوصاً في منطقة سلوك ومحيطها، وعشيرة البوجابر في ريف الرقة الغربي.
وتواجه القبائل العربية في منطقة شرق الفرات المنقسمة في ولاءاتها تحديات جسيمة عدة ، في ظل تراجع كبير للدولة الوطنية السورية ،وتسيّد الفوضى الأمنية والعسكرية.ولعل أبرزها، التحدّي الكردي الانفصالي،المدعوم أمريكيًا وصهيونيًا. وعلى الرغم من أنَّ الولايات المتحدة تنفي أية علاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني التركي ، إلا أنَّ هذا الادِّعاء ليس بصحيح ويأتي فقط لِشَرْعَنَة تحالف الولايات المتحدة مع قوات “قسد”، فالحزب الكردي في سورية خاضع لقيادة عصابة أجنبية، ونعني بها حزب العمال الكردستاني المتمركز في جبال قنديل شمال العراق.
ومن يقود حزب الاتحاد الديمقراطي الذي هو نسخة عن حزب العمال الكردستاني التركي، ومليشيات الأمر الواقع:الوحدات الكردية المتهمة بكونها نسخة سورية من هذا الحزب والتي تشكل عماد قوات سورية الديمقراطية ” قسد” في المناطق الكردية في سورية، هم قيادات حزب العمال الكردستاني التركي،وثبت ذلك عمليًّا على الأرض، وأثبتته الكثير من الدراسات.
فقد دَخَلت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الحلف الأطلسي أراضي سورية من دون موافقة الحكومة السورية ،بل ضِدّها، كما تعودت ذلك منذ الحرب العالمية الثانية، ما يجعل من العمل العسكري الأمريكي عدوانًا عَسْكَرِيًّا موصُوفًا ضد سيادة دولة مُسْتَقِلّة،واحتلالاً للأراضي السورية، بهدف السيطرة على الثروة النفطية و الغازية السورية.
وفي الوقت الذي كان فيه “شيوخ الديمقراطي” (تسمية محلية لشيوخ العشائر الموالين إلى “قسد”) يعقدون اجتماعهم في بلدة عين عيسى،عقدت العشائر العربية الموالية للدولة الوطنية السورية اجتماعًا مماثلاً في ريف الحسكة أقصى شمال شرقي سورية لرفض مشاريع الانفصال و التقسيم التي يروج لها أعوان المحتل الأميركي، وفق بيان صدر عن الاجتماع، الذي دعا “من انخرطوا في الصف الآخر ويقودهم الاحتلال الأمريكي للعودة إلى حضن الوطن والانضمام للجيش العربي السوري”. كما دعت العشائر العربية إلى “الانخراط في المقاومة الشعبية ضد المحتلين، وعلى رأسهم الأمريكي والتركي، وتحرير الجولان وإسكندرون. كما اعتبر أنَّ كل من يشارك في مؤتمر أو ملتقى تحت راية غير راية الدولة الوطنية السورية “خائن وعميل”، وفق البيان.
خـاتمة:
يعتقد الخبراء الملمون بشؤون إقليم الشرق الأوسط، أنَّ الدولة الوطنية السورية تحاول استثمار انتفاضة العشائر العربية في كل من محافطتي الحسكة (عشيرة البوعاصي) ودير الزور(عشيرتي العكيدات والبكارة) التي بادرت إلى تشكيل جناح عسكري وطرح اللجوء إلى المقاومة الشعبية ، ضد القوات الأميركية و”قسد” ، بعدما تعاقد قوات “قسد”الكرديّة مع شركة “ديلتا كريسنت إنيرجي” الأمريكية، لإصلاح آبار النفط الواقعة في مناطق وجود القبائل العربية، وإخراج نفطها وتصديره إلى الخارج، على أن تعود عوائده المالية إلى “قوات سورية الديمقراطية” الكردية ، من دون أن يستفيد منه أبناء المنطقة العرب،لجعل هذه الانتفاضة محطّة تأسيسية لاستمالة العشائر إلى صفّها ضد “قسد” والأميركيين.
وبما أنَّ أمريكا ستشهد انتخابات رئاسية خلال 3نوفمبر المقبل، ربما تحاول الدولة السورية بالتنسيق مع روسيا زيادة ممارسة الضغط على إدارة ترامب عبر تطوير”المقاومة الشعبية” ضد الاحتلال الأمريكي وقوات “قسد” ، لتحقيق الانسحاب الأمريكي من شمال شرق سورية.ففي أجواء الانتخابات الرئاسية التي تعيشها أمريكا ، أيَّ تعرض للقوات الأمريكية في منطقة شرق الفرات، قد ينتج عنه قرار أمريكي بانسحابها حتى لو كان جزئيًا، خصوصًا أنَّ همَّ الرئيس ترامب هو الفوز بولاية ثانية، وهو بالأساس لم يكن متحمسًا لبقاء القوات الأمريكية في سورية، لو لا تعرضه لضغوطات صقور مراكز القوى داخل الدولة الأمريكية العميقة ، وبعض الحلفاء الإقليميين.
ولا شك أنَّ خيار المقاومة الشعبية هو الخيار الوحيد لطرد المحتل الأمريكي من الأراضي السورية ، إِذْ إِنَّ أيَّ انسحاب أمريكي سوف يعبد الطريق أمام الدولة الوطنية السورية لبسط سيادتها الوطنية في شرق الفرات، والسيطرة على آبار النفط والغاز،وهي محاولات باءت بالفشل حتى الآن، بسبب بقاء الاحتلال الأمريكي في تلك المنطقة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى