نشرت مجلة «سيكولوجي توداي» مقالًا لجرانت هيلاري برينر، الطبيب النفسي والخبير في الصحة العقلية، حول النرجسية، التي تعني حب النفس أو الأنانية، وكيف نتعامل معها، ومع النرجسيين.
وفي مستهل مقاله، أكد الكاتب أن النرجسية أصبحت موضوعًا ساخنًا أكثر من أي وقت مضى. ونحن نتعامل مع تحديات النرجسية المرضية في علاقاتنا الشخصية، وفي أوساط العائلة والصداقات والعمل، وداخل أعماق شخصيات قادتنا. ورغم أن النرجسية جزء من أسباب عظمة جنسنا البشري… ولكنها يمكن أن تؤدي بنا في النهاية إلى الانهيار؛ إذا لم نتأقلم مع تحدياتها التطورية الذاتية.
وتأتي النرجسية المرضية في شكل أنواع فرعية، منها ما هو متضخم والآخر منها هشَّ. ويبدو أصحاب النرجسية المتضخمة أقل تأثرًا وأكثر جدارة بتصديق أنفسهم. بينما يتجرع أصحاب النرجسية الهشَّة مرارة الجراح، مما يؤسس لمفهوم «النرجسية المؤلمة». والنرجسية الهشَّة خطيرة على المصابين باضطراب ضغط ما بعد الصدمة؛ إذ إن الصدمة تهدد الأنا.
هل هناك إيجابيات للنرجسية؟
وأوضح الطبيب النفسي أن بحثًا أجري في عام 2019 توصَّل إلى أن النرجسية مرتبطة بتجربة النمو الملاحقة لمتلازمة ما بعد الصدمة، مما يشير إلى الدور المحتمل للنرجسية في المرونة النفسية (القدرة على الارتداد من الأزمات النفسية). وبما أن الكفاءة الذاتية تُعد عاملًا رئيسًا في الوقاية من اضطراب ضغط ما بعد الصدمة، فهذا ليس أمرًا مفاجئًا.
وترتبط النرجسية المتضخمة بالسمة الشخصية المتعلقة بالانبساط والانفتاح على الحياة والآخرين، وترتبط النرجسية الهشَّة بالسمة الشخصية المتعلقة بالانطواء. وعند التحكم في الانبساط والانطواء، يتمثل جوهر الأمر في الاستعلاء المُدرَك ذاتيًّا. وأصحاب النرجسية المتضخمة يعبرون عن مشاعرهم وأحاسيسهم بصراحة ووضوح، بينما يُخفِي أصحاب النرجسية الهشة (يكون أصحابها ضعيفين جدًا ويلجأون إلى عزل أنفسهم داخل قوقعة حب الذات لأنهم لا يستطيعون التعامل مع المجتمع) هذا الاستعلاء. وفي مستويات عليا من النرجسية، وجد الباحثون أن النرجسية المتضخمة والنرجسية الهشَّة يندمجان.
إن الاتِّصاف بسمات نرجسية أمر لا بد منه للتميز، إذ إن الرغبة في التفوق في عيون الذات وعيون الآخرين تدفع الإنسان نحو الطموح والإنجاز. وعندما تكون هذه السمات متوازنة، تكون النرجسية في صميم المصلحة الذاتية ومصلحة الآخرين.
وتساءل الكاتب قائلًا: هل النرجسية سمة متوارثة أم مكتسبة أم كلاهما؟ وأجاب بأن دراسة أجريت في عام 2014 وجدت أن هناك إسهامات جينية وبيئية في النرجسية المتضخمة والنرجسية الهشَّة على حد سواء.
دراسة أخرى أجريت في العام ذاته نظرت في النرجسية الفردية والمجتمعية، فوجدت مزيجًا متشابهًا من عوامل الوراثة والبيئة – بما في ذلك سلوك الآباء والأمهات. والنرجسيون الفرديون هم «أبطال خارقون» مؤمنون بالفردية. والنرجسيون المجتمعيون «قديسون جذابون»، ينقذون العالم من خلال حسن الخلق والتواصل الاجتماعي.
ومن المحتمل أن تكون هناك عناصر جينية تؤدي إلى النرجسية، وتنتقل عبر آليات مرتبطة بالتوتر وغيرها. ووفقًا لأبحاث تداخل الألم الاجتماعي (2004)، يوجد دوائر دماغية متداخلة للاستبعاد الجسدي والاجتماعي.
واستعار التطور – التغير في السمات الوراثية – الدوائر العصبية «المغلَّفة» للألم الجسدي من أجل فهم الواقع الاجتماعي. ومعالجة الألم أمر مهم لفهم كيف أن النرجسية تُشكِّل نظرتنا للواقع الشخصي والاجتماعي.
النرجسيون: دراسات وأبحاث
وأشار الكاتب إلى بحث أجرته إيمي برونيل وميليسا بويلو وزينا تروست في عام 2020 لمعرفة ما إذا كانت السمات النرجسية ترتبط بما يلي:
– كيف يُفسَّر الألم «المبالغة في توصيف كارثة الألم» والخوف من تحريك الجسم عند وجود الألم «الخوف من الألم الناجم عن الحركة»؟
– كيف يؤثر الاستبعاد الاجتماعي على احترام الذات وإدراك الذات والمزاج والأداء في المهام المعرفية؟
– كيفية الشعور بالألم الجسدي في بيئة تجريبية؟
في الدراسة الأولى، أكمل 1330 طالبًا جامعيًّا الدراسات الاستقصائية لتحديد النرجسية المتضخمة مقابل النرجسية الهشَّة (مقياس النرجسية المرضي، PNI)، والاستغلال (مقياس الاستغلال الشخصي بين الأشخاص، IES)، وهوس العظمة (مقياس العظمة النرجسية، NGS)، والاستحقاق (مقياس الاستحقاق النفسي، PES)، وردود الفعل النفسية تجاه الألم (مقياس المبالغة في توصيف كارثة الألم، PCS) والخوف من إثارة الألم عن غير قصد (مقياس تامبا للخوف من الألم الناجم عن الحركة).
وارتبطت النرجسية الهشَّة بمزيد من المبالغة في توصيف كارثة الألم والخوف من الألم الناجم عن الحركة. ولكن النرجسية المتضخمة لم ترتبط بأي من ذلك. وارتبط الاستغلال وهوس العظمة بالمبالغة في توصيف الكارثة. وارتبط الاستغلال والاستحقاق بالخوف من الألم الناجم عن الحركة.
وأضاف الكاتب: وفي الدراسة الثانوية، شاركت مجموعة مكونة من 105 مشارك في لعبة سايبربول، وهي طريقة موحدة لإحداث استبعاد اجتماعي مؤلم. يلعب المشاركون كرة قدم رقمية مع اثنين آخرين يعتقدون أنهما لاعبان بشريان – لكنهما في الواقع خِصمان آليان. وفي منتصف المباراة، يُستبعد نصف عدد اللاعبين من المشاركة. ويتسبب هذا في حدوث ألم كما يشعر بذلك كل طفل في المجموعة.
وأكمل المشاركون التدابير الأساسية نفسها كما هو الحال في الدراسة الأولى (PNI، IES، NGS، PES). كما أجروا قياسًا للاحتياجات الأساسية حول الانتماء والسيطرة والوجود الهادف واحترام الذات والمزاج؛ ثلاثة مقاييس للأداء المعرفي – التعلم السمعي (اختبار ري للتعلم اللفظي السمعي، AVLT)، التعلم البصري والذاكرة (اختبار رى للأشكال المعقدة، CFT)، والمهمة التنفيذية (اختبار فرز بطاقة ويسكونسن، WCST). وبعد ذلك، سُئلوا عن مدى القلق الذي ساورهم بشأن الأداء ومدى الجهد الذي بذلوه في الاختبارات المعرفية.
ماذا عن الانتماء الاجتماعي؟
يوضح الكاتب أن النرجسية المتضخمة ارتبطت بالمعنى المختزل وانخفاض احترام الذات. وأبلغ أصحاب النرجسية المتضخمة عن انتماء أكبر وشعور بالسيطرة ومزاج وأداء أفضل. ولكنهم تحطموا نفسيًّا وأصبح شعورهم وأداؤهم أسوأ بعدما استبعدوا.
على الجانب الآخر، ارتبطت النرجسية الهشَّة بانخفاض احترام الذات وأداء أسوأ وأخطاء متكررة (مواظبة غير مبررة)، ولكن المزاج أفضل.
وفي المجموعة المستبعدة، أبلغوا عن تحكم أقل وانخفاض في المزاج وفي الأداء في CFT وWCST. وصعَّبت النرجسية الهشَّة من القيام بعمل جيد إلا إذا كانت الظروف مواتية. وبذل المشاركون الذين يتمتعون بمستوى أعلى من الجهد جهدًا أقل وأداءً أسوأ – لكنهم حاولوا بجد أكثر عند إشراكهم في اللعب، مما يشير إلى أن الأداء يعتمد جزئيًّا على الانتماء الاجتماعي.
وأبلغ أصحاب النرجسية المتضخمة على نحو أكبر عن احترام منخفض للذات تحسَّن مع إشراكهم في اللعب. وكان أداؤهم أفضل في المهام المعرفية بعد أن كان متدنيًا. وحقق المشاركون من أصحاب النرجسية المتضخمة نجاحًا كبيرًا في تقدير الذات، ونجحوا في التعويض عن طريق المحاولة بجد. وإذا كانوا قد استُبعدوا، لوجدوا صعوبة في بذل الجهد. وارتبط الاستغلال بقلق أكبر حول الأداء، وبقلق وجهد أكبر بعد الاستبعاد الاجتماعي.
وفي الدراسة الثالثة، تعرَّض 69 مشاركًا لألم جسدي من خلال إدخال الذراع لمدة دقيقة واحدة في ماء بارد (ضغط بارد). وأكملوا التدابير الأساسية نفسها، وكان التصنيف يقيس شدة الألم كل 10 ثوانٍ أثناء إدخال الذارع في الماء وبعده (استبيان ألم ماكجيل، MPQ). كما دُفِع البعض إلى الاعتقاد أنه قد يتعين عليهم القيام بذلك مرة أخرى، «حالة تهديد». وقيَّم جميع المشاركين المشاعر الإيجابية والسلبية (مقياس التأثير الإيجابي والسلبي، PANAS). وكانت درجة الألم المبلغ عنها هي نفسها بالنسبة للنرجسية المتضخمة والهشَّة. وفيما ارتبط الاستغلال بألم أكبر وتأثير سلبي، وارتبط الاستحقاق بتأثير سلبي أكبر.
وتحت تهديد الألم في المستقبل، تعقب النرجسية المتضخمة عاطفة إيجابية، مما يشير إلى إعداد الحماية الذاتية. وبالمثل، تنبأت النرجسية المتضخمة بالتأثير السلبي، والانخفاض في حالة التهديد. وارتبط الاستغلال بالعاطفة الإيجابية تحت التهديد، مما يشير إلى أن الخطر يتيح فرصة.
وفي حين لم يكن هناك فرق بين النرجسية المتضخمة والهشَّة من حيث الألم المبلغ عنه، ارتبطت السمات النرجسية بالألم المنخفض المبلغ عنه والعاطفة الإيجابية لا سيما عندما توقعوا أن يتحملوا الألم مرة ثانية. وهذا يدعم الملاحظة التي مفادها أن النرجسية المتضخمة والهشَّة تشتركان في جوهر واحد، ويسلط الضوء أيضًا على الطريقة التي يمكن بها للنرجسية أن تكون قابلة للتكيف عند وجود الأزمات – حتى لو كانت مَرَضية في الظروف العادية.
كيفية تحسين النرجسية إلى أبعد حد
وشدد الكاتب على أن النرجسية في حد ذاتها ليست جيدة ولا سيئة. فهناك إيجابيات وسلبيات للإحساس بشعورٍ بالاستعلاء، إلى جانب التكاليف الكامنة للحسد وانعدام الأمن والتعرض للخطر في مقابل الحصول على فوائد الاستعداد والتأهب. وقد يكون النرجسيون أكثر عرضة للخطر. من ناحية أخرى، فإن أولئك الذين يصلون إلى مستويات عليا في سمات محددة مرتبطة بالنرجسية لديهم دوافع لمواجهة التحديات. وهذا يعيد احترام الذات للفرد ويخدم احتياجات المجموعة – طالما أن النرجسية غير مبالغ فيها إلى حد أنها تؤدي إلى تخريب ذاتي، مما يقوِّض أركان الفريق.
لا يستطيع كثيرون سبر غور طبيعة المشاكل الخاصة بهم «إنكار العاهة – الجهل بالمرض»، مما يعيق النمو الشخصي ويدمر العلاقات. ويمكن أن نشجع أولئك الذين يريدون إصلاح العيوب الطفيفة للمضي قدمًا نحو النرجسية الصحية.
ونوَّه الكاتب إلى أن النرجسية سمة رابعة تُضاف إلى «ثالوث الظلام»، والذي يشمل المكيافيلية والسادية اليومية والاعتلال النفسي، وهي نفسها لا ترتبط بطبيعتها بالنوايا القاسية لاستخدام الآخرين وكأنهم أشياء غير بشرية.
ويمكن أن ندرك أن النرجسية تتسبب في حدوث مشاكل، وتتعثر في كيفية المضي قدمًا لأن الاستجابات الضعيفة لردود الأفعال والدفاعات «البدائية» العنيدة تؤدي إلى مقاومة الحاجة إلى التغيير أو ضرورة التغيير.
وقد يبدو الأمر وكأنه هجوم اضطراري يرافقه شعور بالعجز عن عدم معرفة كيفية تغيير المشاكل الواضحة، مما يجعل الأمر أسوأ ويبتعد بالمرء عن الفضول والرغبة في التحرك نحو علاقة أفضل مع نفسه ومع الآخرين.
واختتم الكاتب مقاله قائلًا: إن تحديد الجوانب التكيفية للنرجسية، وتنمية التعاطف مع النفس والآخرين، وتوضيح الرؤية بشأن مناطق الضعف عندما يتعلق الأمر باتجاهات الأداء والمزاج واحترام الذات وفهم كيفية استجابة المرء للاستبعاد الاجتماعي والألم الجسدي والتعامل مع قضايا محددة مثل الاستغلال والاستحقاق وهوس العظمة يقدم وجهات نظر للتبصُّر والتطوير.
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال