الغنوشي وضرورة ترك رئاسة البرلمان التونسي

يَعْلَمُ الجميع في تونس أنَّ لا ئحة سحب الثقة من رئيس مجلس النواب التونسي راشد الغنوشي ، التي صوت عليها النواب الحاضرون يوم 30 يوليو/تموز الماضي،تمثل معركة محتدمة في إطار الصراع المفتوح بين العديد من القوى السياسية التونسية الممثلة في البرلمان،وبين حركة النهضة وزعيمها التاريخي،الذي لا يزال مُصِرًا على البقاء في السلطة، وتحديدًا في رئاسة البرلمان،رغم التداعيات السلبية لهذا البقاء، على شخصه وحزبه.
فقد شهدتْ جلسة يوم 30يوليو/تموز الماضي،مشاركة 133 نائبًا حضروا الاجتماع، من أصل 217 نائبًا العدد الجملي لمجلس نواب الشعب التونسي، وصوَّتَ 97 منهم ضِدَّ بقاء الغنوشي في رئاسة مجلس النواب،زائد الأوراق الــ 20 التي أُعتبرت ملغاة لأن أغلب أصحابها صوتوا في نفس الورقة بـ (نعم) و(لا)،أو تركوها بيضاء. صَحِيحٌ أنَّ لائحة سحب الثقة من الغنوشي من رئاسة المجلس لم تَنَلْ العدد المطلوب لإزاحته (109 من بين 217) لكنَّها أظهرتْ،مع ذلك، أنَّ أكثر من نصف نواب البرلمان لم يعودُوا متحمسينَ، بدرجاتٍ مختلفةٍ، لبقائه رئيسًا للبرلمان . إذا كانت القوة الرئيسة التي خاضت الصراع ضد الغنوشي داخل أسوار البرلمان التونسي تمثلتْ منذ البداية في حزب السيدة عبير موسي: “الحزب الحر الدستوري” الذي لا يتجاوز عدد أعضائه في البرلمان 16 نائباً، فإنَّ عملية التصويت أثبتتْ أنَّ الذين صوتوا لمصلحة بقاء الغنوشي رئيسًا للبرلمان هم 16 نائبًا فحسب ،في حين صوّت ضِدَّهُ 97 نائبا.
وبالتالي فإنَّ الانتصار الذي حققه الغنوشي، وأصبح يتغنَّى بهِ على أساسٍ أنَّهُ انتصارٌ للديمقراطية التونسية،هو في حقيقة الأمر،انتصارٌ بطعمِ الهزيمةِ،وهذا ما تؤكده تحاليل وآراءالخبراء في مجال السياسة والإعلام من أنَّ عملية التصويت أثبتتْ سقوطه تماماً وفقدان بريقه وانتهائه كسياسي،لأنَّ الذين حسمُوا النتائج لمصلحة الغنوشي ،هم نواب حزب “قلب تونس” الذي يترأسه نبيل القروي، وهو الحزب المتهم بالفساد في تونس. لذا فإنَّ بقاءه رئيساً للمجلس لن يستمرَ.
لماذا أصبح الغنوشي غير مقبولٍ؟
الغنوشي لا يتصرف بوصفه زعيمًا لحزب النهضة الإسلامي فحسب، بل يتصرف في السياسية باعتباره المرجع الثاني في تنظيم الإخوان المسلمين على المستوى العالمي، ويعتبر الرئيس أردوغان الذي يتدخل عسكريًا في كل من سورية و العراق وليبيا، ويطمح إلى استعادة أمجاد السلطنة العثمانية ،خليفة للمسلمين،لهذا السبب أثارتْ زيارة الغنوشي إلى إسطنبول في نهاية العام الماضي ولقائه بالرئيس أردوغان،عاصفة من الاستنكاروالغضب على المستويين الشعبي، وعلى صعيد الكتل البرلمانية،وندَّدتْ بها معظم أحزابها السياسية.
لقد قام الغنوشي بتلك الزيارة دون علم من البرلمان أورئيس الجمهورية التي تشمل صلاحياته في تحديد السياسات الخارجية للبلاد.واعتبر الرئيس سَعيَّدْ ذلك تعدِّيًا صارخًا عليه،لا سيما أنَّه يرى ضرورة الإبتعاد عن سياسة المحاور الإقليمية، كما دعا بوضوح إلى إعادة التأسيس لشرعية جديدة في ليبيا.
فالغنوشي يتموضعُ في السياسة الإقليمية إلى جانب تركيا وقطر وحكومة الوفاق في ليبيا،وهذا النهج السياسي يتناقض مع السياسة الخارجية التي يقودها الرئيس قيس سَعَيَّدْ،الأمر الذي قاد إلى تفاقم الصراع بين مؤسسات الدولة التونسية،أي بين قصر قرطاج أين مركز الرئاسة،وبين قصر باردو،حيث توجد رئاسة البرلمان بزعامة الغنوشي.وهو صراعٌ سياسيٌّ، فقد تجاوز حدّه، وأصبح يهدّد بنية النظام السياسي ذاته، لا سيما أنَّ الرئيس سَعَيَّدْ يُعَدُّ من الطامحين بقوة إلى تغييره.
لقد دخل الغنوشي في شبه حربٍ باردةٍ مع الرئيس سعيَّدْ،وأصبحت العلاقات بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية التونسية،متوترةً لأسبابٍ ذاتيةٍ وموضوعيةٍ بدليل مقاطعة رئيس الدولة لدعوة رئيس البرلمان حضور موكب الاحتفال بعيد الجمهورية الذي نظّمه البرلمان قبل يوم 25 يوليو الماضي .ورغم الكلمات الودية التي تَوَجّه بها الغنوشي إلى رئيس الجمهورية فإنّ جل الملاحظين يعتبرون أنَّه يصعب أن تجد لها صدى مع رئيس الجمهورية.
عقد من الفشل لحكم النهضة
الموضوع الآخر الذي يَنْظُرُ إليه التونسيون على اختلاف انتماءاتهم السياسية و الفكرية ببالغ الأهمية، أنَّ حركة النهضة التي وصلت إلى السلطة في أول انتخابات ديمقراطية عرفتها البلاد التونسية في 23أكتوبر 2011،وكان رصيدُها الانتخابيِ آنذاك، حوالي مليون ونصف ناخب، حكمتْ تونس طيلة عقدٍ كاملٍ من الزمن،أي من سنة 2011 و لغاية 2020،واستطاعتْ طيلة هذه المرحلة أنْ تُسَيْطِرَ على مفاصلِ الدولةِ التونسيةِ، من خلال التعيينات الحزبية في مختلف الإدارات و الدواوين و الشركات. خلال هذه العشرية كوَّنَتْ الحركة شبكة من العلاقات الزبونية التي تدور حولها و تَمكَنَّتْ من النفاذِ لعديدِ الملفاتِ التي أصبحتْ أداةً لديها لِلْإثْرَاءِ وإِغْرَاءِ الْخُصُومِ وإِبْتِزَازِ الْأَعْدَاءِ.
غير أنَّ الإنتخابات التشريعية و الرئاسية لسنة 2019 التي جرت بعد رحيل الرئيس الباجي قائد السبسي، شهدت تَرَاجُعًا كبيرًا للرصيد الإنتخابي لحركة النهضة،فقد حصلتْ على حوالي 400000صوتًا، من أصل 8ملايين تونسي يحق لهم الانتخاب. فبعملية حسابية حصلت النهضة على 54 نائبًا ( من أصل 217) مقابل 89 مقعدا سنة 2011،أي أقل من ربع المجلس النيابي، و تضاءلت شعبيتها حيث مني مرشحها للرئاسية عبد الفتاح مورو بهزيمة قاسية.
ماذا يعكس هذا التراجع في رصيد حركة النهضة؟ إنَّه يؤكد أنَّ حوالي 80% من المجتمع التونسي ليسوا مع حركة النهضة، لأنَّ هؤلاء التونسيين اختبرُوا جَيِّدًا حُكْمَ النهضة طيلة عقدٍ كاملٍ من الزمن، وكان حكمها فاشلاً بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى دقيق ،إذ عجزتْ عن تحقيق انتظارات الشعب التونسي الإيفاء بتعهداتها تجاه ناخبيها، ودليل آخر على أنَّ الإسلام السياسي لا يعبر عن مصالح الطبقات الشعبية بل هو إحدى التعبيرات السياسية للطبقات الكمبرادورية الحاكمة التي تتبنى الليبرالية المتوحشة في الاقتصاد، و المرتبطة بُنْيَوِيًا بالمراكز الرأسمالية العالمية ،لا سيما أمريكا،والمؤئسسات الدولية المانحة.
لقد دأبنا على امتداد سنوات المعارضة السياسية على ربط غياب العدالة التوزيعية بالاستبداد واليوم نواجه مساعي لربط فكرة غياب العدالة بالديمقراطية أي إعفاء الدولة من كلّ مسؤولية اجتماعية وتخليها عن أي دور رقابي تعديلي على الاقتصاد والمجتمع.
للرّد على هذه العقيدة الليبرالية الجديدة نعود إلى قاعدة فلسفية وقيمية مرجعية للنظريات المتبنيّة لفكرة العدالة الاجتماعية كلّ حديث عن حقوق الإنسان بفصلها عن حقوق المواطن هو تجريد لها وفصل بين الإنسان الفعلي والإنسان المجرّد.
الإنسان الفعلي اليوم في تونس بمعنى المواطن كما يعرّفه دستور الثورة يفترض أن تضمن له الدّولة الحق في الماء والصحة والتعليم والتنمية الجهوية العادلة وتحمي ثرواته الطبيعة وتضمن التنمية المستدامة لأبنائه من علامات الصّحوة المرتبطة بهذه المواطنة الاجتماعية هو جهد الرّبط في مرحلة ما بعد الاستبداد بين النضال النقابي والاجتماعي والسياسي من أجل العدالة الاجتماعية وهو ما تهتم به تحوّلات سوسيولوجيا التنظيمات ونضال الحركات الاحتجاجية تهتم به أيضاً سوسيولوجيا الفعل الجماعي.
التجلِّي القويِّ اليوم للفقراء وذوي الدّخلِ المحدودِ والفئات الهشة في الفضاء العمومي بل اقتحامهم له مجدداً يُعِيدُ إلى وعينا الجماعي مهمة الاضطلاع بالفريضة الغائبة وهي فريضة العدالة المجتمعية في مسار ثورة الحرِّية والكرامة التونسية ويضع أمام أعيننا وفي متناول فعلنا السياسي إمكانية الربط بين نظرية العدالة الاجتماعية والقناعات الشعبية الواسعة حولها. هبة الدّيمقراطية أنَّها تُمَكِنُنَا أنْ نَسْتَمِرَّ في طرحِ مسألةِ العدلِ الاجتماعِي في كنفِ الحرِّيةِ وبإصرارٍ.
عَقْدٌ كَامِلٌ من حُكْمِ الإِسْلاَمِيِّينَ في تونس عناوينهُ واضحةٌ: الأزمة الاجتماعية الآن في تونس تكمن في سوء توزيع الثروة ومنافع التنمية، وتفاقم البطالة والفقر والفروق الاجتماعيّة،والغياب الشامل لمحاربة الفساد، لدرجة أنّ الكثير من الشبان يموتون في قوارب بحثاً عن هجرةٍ إلى الضفة الشمالية للمتوسط. إضافة إلى أن الفلاحين قَحُلَت أرضهم بسبب الجفاف، فضلاً عن تراجع أهمّ إيراد للطبقات الفقيرة وهو تحويلات العمّال المهاجرين.
خاتمة:
الغنوشي يَحْصُدُ الآن تَبِعَاتَ قرارهِ الْخَاطِىءِ بِتَوَّلِي رئاسةِ البرلمانِ،وليس سرًّا أنَّ ما حصلَ في عملية التصويت الأخيرة يوم 30يوليو الماضي ،أَضْعَفَ الغنوشي داخل حِزْبِهِ ومَحَلِياً ودَوْلِياً، وأنَّ عدَمَ مُرُورِ العريضةِ كان مُتَوَّقِعًا، بالنظر إلى الاتفاق الحاصل في الساعات الأخيرة قبل الجلسة بين حزب “قلب تونس” وحركة “النهضة، إذ يقف الحزبان اليوم في وجه الرئيس قيس سعيّد، الذي لم يخف رفضه لهما ورغبته في تهميشهما.
الأجدر للغنوشي أنْ يُقَدِّمَ استقالته من رئاسة البرلمان،لأنَّهُ أصبحَ عِبْئًا ثقيلاً على هذه المؤسسة، بعد أنْ حَوَّلَهَا إلى مؤسسةٍ حزبيةٍ خالصةٍ تعود بالنظر لتصورات حزب حركة النهضة. إنَّ راشد الغنوشي ليس مجرَّدَ رئيسَ حزبٍ يُمْكن تَعْوِيضُهُ بشخصٍ آخرٍ والمواصلة كأنَّ شيئًا لم يَكُنْ، بل هو بِمَنْزَلَةِ الزعيمِ الروحيِّ للإسلامِ السياسيِّ في تونس. لذلك فإنَّ الحبلَ الذي يبدو حول رقبة الغنوشي هو في الحقيقة حبل حول رقبة كل الإسلاميين داخل حركة النهضة. النهاية السياسية لرجل بمكانة راشد الغنوشي في الأوساط الإسلامية داخل تونس و خارجها بهذهِ الطريقةِ المُذِّلَةِ يُعَدُّ ضربةً موجعةً يتلقاهى الإسلام السياسي في المنطقة وليس في تونس فحسب، حسب رأي الكاتب وائل بنجدو في مقالته “حركة النهضة ومرحلة الأفول”..
ولن تكون حركة النهضة مقبولة تونسيًا ودوليًا، إلا عندما تخرج من عباءة الأيديولوجيا الإسلامية الإخوانية، وتتخلى عن السجال العنيد مع النظام العلماني القائم في تونس، وتدرك أن العلمانية ليست عداءً للإسلام، بل هي السبيل الأمثل إلى تجاوز المشكلات الأيديولوجية والمذهبية، من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد الشعب التونسي، وهي الحل الأنجع لتفادي غرق الدولة في المشكلات الطائفية وانتهاك حقوق الإنسان، وهي وحدها القادرة على تعزيز التجربة الديمقراطية، وتذليل الخلافات السياسية والعقائدية بين مختلف العائلات الأيديولوجية والسياسية الكبيرة الليبرالية والماركسية والقومية والإسلامية، لأنها تفسح لها في المجال للانصراف إلى حل المشكلات التي تواجه المجتمع التونسي، مثل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإرساء العدالة الاجتماعية، لا سيما أن العلمانية ليست صنوَ الإلحاد أو نبذ الدين، وكما أيضاً أن الديمقراطية والعلمانية متلازمتان، لا تقوم قائمة لإحداهما من غير الأخرى.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى