الجمهوريّة “العربيّة” السّوريّة.. كانت وستبقى كذلك

■ يقول التّاريخ إنّه “في سنة 523 ق.م كانت ولاية سورية من حرّان شمالاً إلى سيناء جنوباً تسمّى ( أثّورا عَربايا Athoura Arabaya)”. ■
1▪︎ في ظروفٍ حمقاء تعاني المعرفة البشريّة من حصارٍ ظرفيّ تحت زخم الجهل و التّجاهل و التّهتّك ، غير أنّ هذا لا يعني أنّ ” أهلها ” قُتِلوا ضحيّةً للصّمت الثّقافيّ الذي يُخفي وراءه إتجاراً بالفوضى و الخلاعة ؛ و هم إلى ذلك معنيّون ، كذلك ، بالأحاجي و التّحدّيات التي تؤلّفها أو تُفرزها السّياسة في المحيط العالميّ.
و حيث لم تعد الحرب السّوريّة حكراً على سورية و الإقليم ، بل تجاوزتْ في الأصول و المفاعيل ، الحدودَ ، و أصبحت قضيّة عالمية ؛ فإنّ من نتائج هذا الأمر مفعولين رئيسيين :
○ الأول : تدويل الصّراع و عولمته بإدخاله في الحصيلة العامّة لمنتجات النّظام العالميّ الذي لا يعتاشُ إلّا على الدّمج العنيف ما بين العسكرة و الاقتصاد و السّياسة و التّجهيل و التّكفير و التّيئيس و طحن الشّعوب في لوثةٍ مرعبة..
والحرب علينا حرب أدوات الحضارة العالميّة الأكثر تخلّفاً و توحّشاً و شراهةً و عطشاً و سُعاراً على قلب حضارة هذا العالم في النّشوء الثّابت و الأكيد.
○ و الثّاني : تَعَمُّقُ الأزمة الاجتماعيّة – السّياسيّة السّوريّة و ظهور ملامح انزياح تاريخيّ للطّبقات و الحدود المؤلِّفة لهويّة المكان الطّبيعيّة، و علامات انزلاقةٍ سياسيّة و ثقافيّة تتهدّد الشّخصيّة الوطنيّة في جوهرها الأنثروبولوجيّ الذي يُعدّ الأساس في البناء على المستقبل.
2▪︎ إنّ الذي يُرادُ للبديل البُنيويّ المادّي و الطّبيعيّ ( الجغرافيّ ) هو أنْ يدخلَ في إبهامٍ و ميوعةشاملة ، بينما يُرادُ للبديل البِنيويّ النّفسيّ و الثّقافيّ أن يدخل في إغماءةٍ يجري معها تزوير الوطن بمكوّناته الأساسيّة البسيطة المعروفة. .
و يجري تحفيز هذا و ذاك بالتّهجين التّفكيكيّ لموجودات السّلطة الحاكمة للمكان ، جرّاءَ حاكميّتها للجغرافيا و التّاريخ.
و من أجل تحقيق هذه الأغراض الثّأريّة ، يجري التّحرّشُ العالميّ الوقح بالوديعة الحضاريّة التي استخلفتها المقادير عند ” السّوريين”، و العبث بها و ممارسة أعتى أشكال الاستباحة عليها ، في الحرب و السّياسة و الثّقافة و الدّوبلوماسيّة ، في أنٍ معاً.
و في هذه “الّلغبصةُ” يجري تفكيك الثّوابت البيولوجيّة – الحضاريّة ” السّوريّة “، فيما المفاجأة أن يكون لهذا المشروع السّياسيّ مفضوحِ الأدوات و الأهداف ، أنصارٌ “سوريّون” يُساهمون في ارتكاب هذا الحدث التّاريخيّ الخطِر المتمثّل في مبادلة التّبعيّة و الذّيليّة الشّاملة باستقلال الهويّة و القرار.
3▪︎ و الأمر لا ينتهي عند المساومات الدّستوريّة على ” العروبة” ، و لو أنّ “العروبة” هي أهمّ الثّوابت التي يجري العمل على تفكيكها و إعادة طرحها للتّفاوض و الحوار ، لولا أنّ العروبة ليست مسألة دستوريّة أو سياسيّة . كلّ ما في السّياسة متغيّرٌ ، و كلّ ما في العروبة ثابت!
و يميل المؤرّخون و المستشرقون و الباحثون و المحقّقون ، بغالبيّتهم، إلى أنّ شعوب الصّحراء العربيّة الآسيويّة و ” البادية السّوريّة ” قد توالت في اكتشاف محيطها الجغرافيّ واعيةً ًو مدفوعةً بأسبابَ التّوسّع في طلب الأمان في الغذاء و الماء و المُناخ ، على شكل موجات بشريّة ، قدّرها المؤرّخون بخمس موجات. .
حدثت الموجة الأولى ربّما في الألف الخامسة أو الرّابعة قبل الميلاد ( الموجة الأكّاديّة ) . و كانت الأخيرة هي الموجة الإسلاميّة في عام ( 636هـ ).
و لقد بلغت هذه الموجات البشريّة إلى الشّمال حتى جبال طوروس و آسيا الصّغرى ..
و في الشّرق حتّى جبال زاغروس بما في ذلك حوض النّهرين..
و في الغرب حتّى جبال الأمانوس و سائر ساحل البحر المتوسّط إلى أقصى الجنوب من سيناء ، ممتدّة على ما يعرف اليوم بجغرافيا “سورية الطّبيعيّة” التي كان أوّل من اصطلح عليها بالهلال الخصيب المؤرّخ و عالم الآثار الأميركيّ ( جيمس هنري برستد: 1865- 1935م ).
4▪︎و ملخّص ما يُثبته التّاريخ – بالوثائق طبعاً -هو أن “السّوريّة” ليست سوى الصّيغة “المحلّيّة” في نواة ” الهلال السّوريّ” الحديث في التّسمية ، عبر ما تكوّن من ثقافة جديدة في منطقة الهلالِ “الأخصبَ” في المنطقة الواقعة بين سواحل محيط اليمن القديم ( المحيط الهنديّ ) و سواحل بحر اليمن ( البحر الأحمر ) في تاريخ الحضارة العالميّة الأخيرة المعاصرة حتّى اليوم.
إنّ “سدّ مأرب” ، المُنهار في حدود بداية الألف الأوّل قبل الميلاد، نفسه ، لم يكن ليقومَ لولا شحّ المُناخ و صعوبة التّضاريس التي تتراوح من وحشيّة الجبال إلى سذاجة الصّحراء ، و الذي حكم منطقة الجزيرة العربيّة التي كانت هي أرض “اليمن” الواسع الذي كان يمتدّ من سواحل “المحيط” في الجنوب متاخماً للخليج في الشّرق، و للبحر في الغرب ، و امتداداً إلى أقاصي الشّمال مع الحدود مع أرض بلاد النّهرين و البادية السورية المسّماة اليوم كذلك ، في ما عرف بالهلال السّوريّ.
5▪︎قبل ذلك فإنّ جميع الموجات المهاجرة ( بين خمس و سبع مَوجات ) من أرض “اليمن” الذي أعدنا رسمه أعلاه بما يوافق تاريخ الجزيرة العربيّة القديم ، منذ الألف الثّامن قبل الميلاد ( و البعض من المؤرخين يُرجع ذلك إلى ما هو أقدم بقليل..) كانت مَوجات “عربيّة” موزّعة بين قبائل مختلفة الأسماء كالآراميين و الآشوريين و السّومريين و الكنعانيين و البابليين ( الذي أسّسوا بابل ) – و هم مزيج من الآشوريين و السّومريين – و الأكاديين الذين انتشروا ، أصلاً، ما بين شمالي اليمن الكبير ( شمالي الجزيرة العربيّة ) ، و البادية السّوريّة كما نعرفها اليوم . جميع تلك الهِجرات كانت و مازالت تسمّى هجرات عربية.
إنّ “العربيّة” حتّى في التّاريخ هي أعرق من “السّوريّة”، و ما الثّقافة السّوريّة ( التي تسمّى خطأً بالحضارة السّوريّة ) سوى الأثر “العربيّ” الذي تحضّرَ متطوّراً في المنطقة السّوريّة كما اتّخذت لها إسمها الحديث في عهد لاحق.
6▪︎ باختصار فإنّ ما يُسمّى بسورية هو مكانٌ نتاجُ أصلٍ عربيّ صريحٍ و ثابت عند كلّ المؤرّخين و المستشرقين في آن معاً. هكذا تشير الحفريّات ( الأركيولوجيا ) و الثّوابت و الأوابد الوثائقيّة التي أرّخت لهذه المنطقة من العالم التي تُعتبر في “الغرب” و في “الشرق” مهد الحضارة الإنسانيّة ( الأخيرة )عبر تاريخها في هذا الشّكل المتّصل و المستمرّ المعروف.
إنّ من يختلف مع التّاريخ ، من حيث أن العربيّة أكثر عراقة من “السّوريّة”، يقوم بذلك إمّا بدافعٍ سياسيّ مفهوم و معروف ، و إمّا بجهلٍ في التّاريخ جهلاً مخجلاً ، و إمّا بكلا الدّافعين.
لا يليق إلغاء التّاريخ و صناعته في الحاضر صناعة مزيّفة و تعسّفيّة ، بأيّ عقلٍ علميّ حرّ و عادل و منطقيّ تاريخيّاً.
7▪︎و أمّا هذه ” العصبيّة ” السّوريّة المتطوّرة مؤخّراً في ظلّ واقع عربيّ معقّدٍ و متناقض و هزيل ، فلا يجب أن تُعمينا عن الثّوابت في التّاريخ.
” العربيّة السّوريّة ” كإسم للمنطقة التي نحيا فيها اليومَ ، ليس اختراعاً سياسيّاً ” بعثيّاً ” كما يذهب إلى ذلك الأمّيّون بالتّاريخ و الوطنيّة معاً ، و إنّما هو وصف لظاهرة تاريخيّة ممتدّة و مستمرّة لم يقطعها إلّا جهل الجاهلين.
وهنا لا أقحم السياسة بالتّاريخ الأركيولوحيّ الثّقافيّ. بل أحاوا أن ألتزم ماضياً ثابتاً لا يقبل المعاندة و لا الهروب إلى الخلف و لا الهروب إلى الأمام.
8▪︎ هكذا عرف التّاريخ الحضاريّ الأوّل للإنسان العالميّ شعوباً كالأكّاديين و السّومريين و الأموريين و البابليين و الكلدانيين و الآراميّين و الآشوريين و الكنعانيين و الفينيقيين – ( كنعانيّو السّاحل السّوريّ الذين أسّسوا ( قرطاجة ) و أبدعوا فيها أوّل دستورٍ عربيّ سوريّ أخرج ( أرسطو ) عن طوره فأبدى فيه إعجاباً صريحاً مكتوباً في التّاريخ ..
و نفروا إلى المحيط الأطلسيّ فأسّسوا ( قادش ) في ( أسبانيا ) ، منذ الألف الثاني قبل الميلاد ) و الأنباط.. و أخيراً العرب المسلمين.
و امتزجت موجاتُ هؤلاء الشّعوب الأولى في حوضٍ طبيعيّ واحد ، فساهموا مجتمعين و على التّوالي في تأسيس أولى حضارات العالم المعروفة في التّاريخ ، بزراعتها و صناعتها و علومها و آدابها و فنونها و قوانينها و روحها ، التي أضاءت رقيّاً و معرفة على شعوب العالم المجاور ، كالفرس و الفراعنة و الإغريق و الرّومان.
9▪︎ و ” يُجمع علماءُ اللغة بغالبيّتهم إلى الاعتقاد بوجود لغة أمّ تعدّدت لهجاتها أو ألسنتها إثر انتشارها الجغرافيّ الواسع ، و خضوعها لمؤثّرات إقليميّة مختلفة..
و أنّ هذه الّلغة الأمّ هي لغة الصّحراء العربيّة القديمة التي تحدّرت منها تلك الّلهجات أو الألسن ، إثر موجات الهجرة المتعاقبة باتّجاه الشّمال- حوض النّهرين ، و الشّمال الغربيّ – سورية الوسطى و الغربيّة حتّى شواطئ المتوسّط الشّرقيّة “. [ د. جورجي كنعان – تاريخ الله- منشورات النّدوة الكنعانيّة – مودرن برس للطّباعة و النّشر – بيروت- الطّبعة الأولى – 1990م- ص: 85 ].
10▪︎ وهذه الّلغة الأمّ هي التي دعاها المستشرق الألمانيّ اليهوديّ ( لودفيك شلوتزر ) منذ عام ( 1781م ) ب ” السّاميّة “، بانياً على ما جاء في ” التّوراة ” – في الوقت الذي كان فيه هذا ” الكتاب ” مرجعاً شبه وحيد للباحثين في أصل شعوب و حضارات العالم القديم – و رامياً من وراء ذلك إلى تأصيل الشّعب ” العبري ” الذي ينتمي إلى مجموعة تلك الشّعوب و الألسن ، بنسبته المفترضة إلى( سام ) بن (نوح) ..
و يردّد ( أرنولد توينبي ) المؤرّخ الكبير ، خلف ( شلوتزر ): ” و كلّ الجموع التي هاجرت من بلاد العرب إلى آسيا و أفريقيا كانت ساميّة الّلغة ” . [ المرجع – ص: 88].
11▪︎ نستطيع بهذا المتوفّر بين أيدينا من أبحاث المستشرقين و المؤرّخين ، إذاً ، تفسير ورود الكثير من الكلمات الآراميّة في لغة ” القرآن الكريم ” الذي كتب بلغة شعوبِ و ” جماهير ” العالم القديم ، لما فيها من تعدّد و وَحدةٍ جذوريّة في المرجعيّة القاموسيّة الواحدة ، المتمثّلة بالّلغة العربيّة الأمّ الجامعة لتلك المرجعيّات الثّقافيّة في التّاريخ. .
و يقول التّاريخ إنّه “في سنة 523 ق.م كانت ولاية سورية من حرّان شمالاً إلى سيناء جنوباً تسمّى ( أثّورا عَربايا Athoura Arabaya)”. [ المرجع- ص: 113].
12▪︎ هنا يمكن لنا القول إنّ ” القرآن الكريم ” قد شكّل في لحظة ثقافيّة في سياقه التّاريخيّ ، وسيطاً ثقافيّاً و وجدانيّاً لجميع شعوب المنطقة.
و إذ تَثبُتُ ” الّلغة العربيّة ” كأصلٍ ثقافيّ واحد لشعوب هذا المكان ، فإنّها تُثبِتُ ، بذلك ، قدرتها على أن تكونَ الأولى من بين جميع عوامل ” الأمّة “، سواءٌ أكانت هذه الأمّة أمّة سوريّة أو أمّة عربيّة ، مع أنّ الأَولى والأدق أن يُقالَ ” الأمّة العربيّة ” ، لأنّ العربيّة – في عامل ” الّلغة ” الأهمّ في عوامل القوميّة – هي “الأصل الثّقافيّ” و ” الأصل الّلغويّ ” لسورية الطّبيعيّة أو الهلال الخصيب.
13▪︎ إنّ الثّقافة ناتجٌ سياسيّ ، كما أنّ السّياسة ناتج ثقافيّ.. و حيث تصل ” السّياسة ” و ” الثّقافة ” معاً إلى جبهات الصّراعات و الحروب ، فإنّهما لا يمكن لهما – و لا ينبغي لهما – أن تصادرا ” الأصل الصّلب ” لكلّ ” حضارةٍ ” و قوميّة و أمّة ، و أعني به ” الّلغة “.
و تكفي ” الّلغة ” – دون سائر عوامل ” الاجتماع ” الأخرى – بما هي ” الّلسان” و ” الكتابة ” و ” التّاريخ الواحد ” العضويّ و الحَيّ ، و بما هي- بالتّالي – ” الوجدان ” و ” الخيال ” و ” الشّخصيّة الحضاريّة ” و ” الحوض السايكولوجيّ ” الواحدأيضاً ، و الانتماء ، و نسمة النّفس و أداء الجسَد ؛ تكفي لكي تمنح الكتلة البشريّة المجتمعة ذلك التّسويغ الثّابت للكيان الوجوديّ – السّياسيّ الواحد الذي يُسمّى ” القوميّة “.. و لكنْ حيث لا ” قوميّة ” من دون “دولة” الأمّة.
14▪︎ يُفضي سياق حديثنا هذا إلى القول بثبوتِ صبغة ” العروبة ” كجذرٍ تاريخيّ في هويّة الدّولة في ( سورية ) ، و هي ” الأرجحيّة ” التّاريخيّة التي لا ترتقي إلى مزاحمتها أيّة أرجحيّة أخرى ، و هي ” النّواة ” الثّابتة في قلب أفلاك الثقّافة و فضاءات السّياسة و مجالات النّزاع..
و إذ تكون الأمانةُ التّاريخيّة مقرونةً بالضّرورات الحضاريّة و السّياسيّة ، في عالَمٍ يطرح ، بالعنف ، أحجيّة الوجود ، فإنّ ناتج هذا المُعطى الحاسم يؤدّي إلى التّمسّك بحقيقة الشّخصيّة الاجتماعيّة و التّاريخيّة لمواطني هذا المكان ..
الأمْرُ الذي ينجم عنه ، حقّهم في الانتساب جهراً إلى ذويهم و أسلافهم الحضاريين العظام ، و حقّهم في إشهار ذلك في إسم الدّولة التي يُدينون لها بالمواطنة و الوَلاء.
15▪︎ و ليس من حقّ ” قوّة ” في العالم ، و لا يُمكن لها ، تجريدنا في دولتنا من عروبتنا ، و لا كذلك من إسم ” الجمهوريّة العربيّة السّوريّة “..
و نحن هنا ، لا نكرّر بديهيّاتٍ و ثوابت فقط ، بل نعيد العربة إلى خلف الحصان!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى