إفلاس ديمقراطية الرأسمالية الأمريكية بسبب العنصرية والصهيونية والعدوانية السافرة

بقلم : توفيق المديني

عبرت جملة واحدة “لا أستطيع التنفس” وهو ما كان يردده المواطن الأمريكي الأسود “جورج فلويد “مستعطفا رجل الشرطة الأبيض قبل وفاته، عن العنصرية الأمريكية الحاقدة ،وفضحت كل ادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية التي تتغنى بالحرية و الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان، وهي تقتل الإنسان ليس في عالم الجنوب فحسب، بل في داخل أمريكا.
إنّ الرأسمالية الليبرالية المتوحشة التي تقودها الإمبريالية الأمريكية على الصعيد الكوني،تسعى إلى السيطرة وليس إلى الحرّية و الديمقراطية،بل إنَّها عملت على لجم واغتيال حركات التحرر الوطني والقومي في الوطن العربي،وفي إفريقيا،وآسيا وأمريكا اللاتينية،وإعاقة تحديث وتصنيع بلدان العالم الثالث،وتنميتها المستقلة،والتي تمارس أكثر أشكال النهب والاستغلال والقهر وحشية وفظاظة،في العراق وسورية،وليبيا،ودول الخليج .
العولمة الليبرالية المتوحشة مشروع أمريكي لغزو شامل للعالم
ومنذ انهيار المنظومة السوفياتية ومعسكرها الاشتراكي,وإعلان انتهاء مرحلة الثنائية القطبية التي حكمت النظام العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية,وتبشير منظري العولمة بانتصار النموذج الاقتصادي الرأسمالي والأفكار النيو ليبرالية ,وقيم “الديمقراطية”و”الحرية” على النموذج الاقتصادي الاشتراكي “المتحجر” و”المتهالك” وعلى الفكر الشيوعي”الشمولي” الاستبدادي “المصادر ” حرية الانسان,خرجت الإمبراطورية الأمريكية متربعة على عرش مرحلة جديدة من النظام العالمي فارضة نفسها امبراطورية لاتقهر,وشرطيًا عالميًا يعلو فوق القانون,وقوة اقتصادية تسعى لاختزال العالم إلى مجرد سوق تابع لها, ونموذجًا حضاريًا حياتيًا يختزل كل المعاني بمعايير المصلحة المادية ,ومقاييس الربح و الخسارة.
لقد جعل غرور القوة وغطرسة العظمة هذه, في أمريكا خاصة ,و الغرب عامة والمتراكمة منذ الانتصار التاريخي على الكتلة الشيوعية المنهارة- الذي صوره فرانسيس فوكوياما على أنه الانتصار النهائي للحضارة الغربية الرأسمالية, جعل السياسة الأمريكية اليوم تنساق فكرًا وسلوكًا في تصنيع النظم و فرضها(العراق وليبيا),وتنصيب الحكام بالقوة القاهرة,تماما كما تنساق الدول النامية والفقيرة بالمنطق نفسه الذي يريد تكرار التاريخ بالنص ولا يتعلم من أخطائه السابقة.نحن في الوطن العربي نعرف هذا التاريخ جيدا ،و خاصة من 1945 وإلى غاية يومنا هذا.و ليست الحصارات الظالمة ضد الشعوب العراقية والليبية والسودانية ،والدعم المطلق للكيان الصهيوني في حرب الإبادة والاقتلاع للشعب الفلسطيني من أرضه سوى أمثلة حية وشاهدة على هذا السياسة الأمريكية المنفلتة من عقالها .
المنطق والعقل يقولان لماذا اكتسبت الولايات المتحدة الأمريكية كل هذا الكم الهائل من االكراهية من الشعوب والأمم المضطهدة ؟ والعقلانية تقتضي البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت بالولايات المتحدة إلى هذا التدهور ؟
إنَّ السياسة الأمريكية تقوم على دعامتين :
الأولى،إنَّ الإدارة الأمريكية تمارس العنف،و تستخدم القوة في فرض سطوتها على العالم .
الثانية،الرياء،وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية تحاول دائما أن تتغطى بالرياء،مادامت تستطيع ذلك.ولذلك فان استخدام القوة الغاشمة ،والمتاجرة بالسلاح ،وتعميم القتل،والتغطية على جرائم الكيان الصهيوني،وتبرير سياسته الإرهابية ،يترافق مع الحديث عن الديمقراطية و حقوق الإنسان .
في عصر العولمة الليبرالية المتوحشة،الدول الرأسمالية الغربية،وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية هي العدو الرئيس للديمقراطية ليس في داخل الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية ،أو ما يسمى مركز النظام الرأسمالي العالمي فحسب،بل في معظم بلدان عالم الجنوب، أوما يسمى أطراف النظام العالمي أيضًا،ويبدو أنَّ إمكانيات الإنتقال الديمقراطي في البلدان العربية ما بعد ما يسمى “الربيع العربي 2011” تتناسب عكسًا مع الهيمنة الإمبريالية بوجه عام، ومع هيمنة الإمبريالية الأمريكية والصهيونية على النظام الدولي بوجه خاص.
غير إنَّ الإسلام السياسي الذي يدعي زورًا وبهتانًا أنه مفجر “ثورات الربيع العربي “أصبح متحالفًا مع الولايات المتحدة الأمريكية ،وتحول طيلة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إلى أحد الركائز الأساسية في المخططات الإمبريالية الأمريكية والصهيونية والتركية في سبيل تفكيك الدول الوطنية العربية، بدءًا من سورية والعراق والسودان مرورًا بليبيا و تونس والجزائر،ذلك أنَّ مفهوم السيادة الوطنية قد شاخ وأصبح باليًا حسب رأي الإمبرياليين الأمريكيين والصهاينة وعملائهم من حركات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية والإنفصالية التي تستهدف “تفكيك” الثقافات الوطنية والمؤسسات الوطنية المناهضة للإستعمار و الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية.
ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها على النظام العالمي عملت على صياغة العالم على شاكلتها ومثالها.فأمراض الرأسمالية الأمريكية المتوحشة تتجسد في أربع ظاهرات أساسية:
أولاً:العنصرية بوصفها أحدأسباب الانفجار الشعبي الأمريكي
شكل مقتل المواطن الأسود “جورج فلويد”، جراء عنف الشرطة، الأسبوع الماضي جريمة عنصرية جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، تشير إلى تجذُر العنصرية بجميع أشكالها في أميركا رغم النصوص الدستورية التي تحرم ذلك.فالحكام الفاشيون في الإدارت الأمريكية المتعاقبة ,مارسوا سياسة القمع الداخلية تجاه الشعب الاميركي نفسه ،الذي يُعَدُّ قطيعًا من البقر في نظر حكامه.ولا يرى رجال الإدارة الأمريكية سواء أكانت جمهورية أو ديمقراطية في المواطنين الأميركيين سوى بقر تمكن قيادتها كقطيع من ناحية نفسية إلى أي اتجاه يرغبون به مستخدمين الأكاذيب لتحويلهم إلى مواطنين أغبياء تتدفق الضرائب منهم لصالح الحكام الفاشيين.
كما أنَّ المجتمع الأمريكي المستند إلى قاعدة حضارية هشة، تتحكم فيه العصبية الطائفية للبيض الأنغلوساكسون،التي تعبر عن المبدأين المتنافسين : التمييز العنصري و العمومية.فالمجتمع الأمريكي عبارة عن تجمع ناتج عن اندماج المهاجرين الذين قدَّمتهم جميع الشعوب الأوروبية. و قد أظهرت النواة الإنكليزية الأولى قدرة مطلقة على امتصاص أفراد من إثنيات مختلفة.وبعد أن توقفت الهجرة خلال النصف الثاني من العشرينات ،استؤنفت في الستينات،وشملت هذه المرَة أفرادًا من آسيا و أمريكا الوسطى و الجنوبية.
ولكن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن توصف أيضا بالأوصاف المناقضة، أي بالتمييز العنصري المطلق.ففي تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، كان دائمًا مفهوم الآخر،المختلف، غير الفاعل،للاندماج والمحكوم عليه بالفناء في أكثر الأحيان بالفصل.فالرجل الأسود مازال يمثل إلى ألأمريكيين البيض،دور الرجل المختلف.ولما كانت الفئة المتنفذة في النظام الأمريكي متكونة من الأنكلوساكسون،وأصلهم إنكليزيا، فقد تعلم الأمريكيون استيعاب الأوروبيين جميعا بعد تردد ملحوظ حول منح المساواة للإيرلنديين والإيطاليين واليهود.ولقد سمحت فئة “البيض” باعتماد هذا التوسع الجزئي مع إبعاد الهنود والسود والآسيويين إلى ماوراء الحدود الذهنية التي تفصل المماثل عن المختلف.
وفيما بين 1950-1965 حدث توسع جديد إذ قبل الآسيويون والهنود المحليون كأمريكيين تماما بكامل حقوقهم، وفي الوقت عينه طرحت مسألة السود نفسها مجددًا، وتسببت بظهور توتر شديد بين العمومية و التمييز العنصري: فعلى المستوى الوعي السياسي، حاولت حركة النضال من أجل الحقوق المدنية دمجهم في الفضاء المركزي، وعلى مستوى اللاوعي للمعتقدات العميقة لم يتغير الوضع شيئا، ولم ينقص التمييز العنصري ضد النساء السوداوات بالنسبة إلى الزواج إلا ما ندر.
ولا تزال بعض المدن الأمريكية الكبرى مثل نيويورك وواشنطن وشيكاغو وميامي، تقسم فيها الأحياء السكنية حسب الجذورالإثنية، ويختار المواطن الأمريكي مكان سكنه حسب اللون وليس الدخل. كما أنَّ أسعار المساكن في المدن الرئيسية تحدد حسب جذورسكان الحي.
على الصعيد المالي، تشير تقارير أمريكية إلى أنَّ العنصرية الاقتصادية في أمريكا أصبحت مؤسسة متكاملة تمارسها البنوك والشركات وأسواق المال،وكذا في الفرص الوظيفية المتاحة في الأعمال التجارية.وبالتالي يتزايد الغبن الاجتماعي وسط السود والأقليات في الولايات المتحدة ويهدد بتمزق المجتمع الأمريكي وحدوث ثورات شعبية غاضبة.
على صعيد العنصرية التجارية والمالية التي تمارسها المصارف ومؤسسات القروض في أميركا ضد السود، يقول تقرير صادر عن مصرف الاحتياط الفدرالي، البنك المركزي الأمريكي، للعام الجاري، إن أصحاب الأعمال التجارية من السود حينما يتقدمون بطلبات للمصارف التجارية للحصول على تمويل لأعمالهم التجارية، يحصلون على التمويل بنسبة فائدة أعلى من نظرائهم البيض،وأعلى كذلك من منافسيهم وذوي الأصول الآسيوية.
وعادة ما تطلب المصارف الأميركية من مؤسسات الأعمال التجارية التي يملكها سود، ضمانات ورهونات وشروطا قاسية ومعقدة قد لا تتوفر لديهم، مقارنة بالسهولة التي يحصل عليها صاحب العمل التجاري من البيض.وحسب بيانات الاحتياط الفدرالي، تبلغ نسبة رفض المؤسسات المصرفية لطلبات السود 53% مقارنة مع نسبة الرفض للبيض البالغة 25% ونسبة 35% لذوي الجذور الآسيوية و39% لذوي الجذور الإسبانية. على صعيد القروض الممنوحة لشراء المساكن أو الاستثمار العقاري، تعاني الطبقة الوسطى من السود من أزمة التمويل، وبالتالي تستهلك معظم دخلها في الإيجارات.
وفي ذات الصدد، يقول رئيس مصرف الاحتياط الفدرالي في فيلاديلفيا، ولاية بنسلفانيا، باتريك هاركر،في تعليقات في نهاية الشهر الماضي،إنَّ الولايات المتحدة دخلت جائحة كوفيد 19 وهي تعيش فوارق خطيرة في الدخل والثروة والفرص.وبينما تزداد ثروة الأغنياء في الولايات المتحدة ويكسب المليارديرات من جائحة كورونا أكثر من مائتي مليار دولار في أقل من شهر، تزداد نسبة الفقر بين المواطنين السود وذوي الأصول الإسبانية الذين يخسرون وظائفهم بنسبة عالية مقارنة بنظرائهم البيض.
ويلاحظ أنَّ ثروة المليارديرات في أمريكا الذين يتكون معظمهم من البيض ارتفعت بحوالى 282 مليار دولار بين 18 مارس/ آذار و10 إبريل/ نيسان 2020،في ذات الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة البطالة في أميركا إلى 40 مليون عاطل جزء كبير منهم من السود والأقليات العرقية الأخرى. وفي ذات الشأن، يشير مسح أجرته صحيفة “واشنطن بوست” في مايو/أيار الماضي إلى أنَّ 20% من ذوي الأصول الإسبانية و16% من السود فقدوا وظائفهم خلال جائحة كورونا الحالية مقارنة بحوالى 11% من البيض.
وتشير بيانات معهد السياسات الاقتصادية بواشنطن الصادرة أخيراً، وهو معهد تابع للكونغرس، إلى أن دخل العائلات البيضاء في الطبقة الوسطى يتراوح بين 37.301 دولار و61.328 دولارا في السنة، بينما يبلغ متوسط دخل العائلات السوداء من نفس الطبقة 11 ألف دولار.ومن جانبها، تقول وكالة تطوير الأعمال التجارية للأقليات في الولايات المتحدة في تقرير حول “العنصرية المالية” في أمريكا،إن الأعمال التجارية التي يملكها السود تحصل على قروض بنسبة فائدة أعلى تصل في المتوسط نسبة 7.8% مقارنة بتلك التي يحصل عليها اصحاب الأعمال التجارية البيض(نقلاً عن صحيفة العربي الجديد تاريخ 3يونيو/حزيران 2020).
ثانيًا:دور العبيد السود في تطور الرأسمالية الأمريكية
يعود تاريخ العبودية للسود في الولايات المتحدة الأمريكية إلى نشوء زراعة القطن في الجنوب الأمريكي في القرن التاسع عشر، حيث أسهمت تجارة العبيد السود من أصل إفريقي في نشوء العديد من الأسس الاقتصادية لأمريكا ،التي ساهم بعضها، بشكل أو بآخر، في بروز قوة الولايات المتحدة على الساحة الدولية.وكانت الولايات المتحدة، إبان الانقسام الحاد بين الشمال والجنوب، ومن ثم الحرب الأهلية، في القرن التاسع عشر، لم يكن لديها عملة موحدة وبنك مركزي واحد.
كانت مزارع القطن أول نشاط تجاري كبير في تاريخ أمريكا، وكان أول “أخ كبير” في مواقع العمل يتمثل في شخص المراقب،وكان العنف يتربص من وراء كل خطة ماكرة وكل ضبط دقيق للمنظومة.كان أصحاب المزارع يستخدمون مزيجا من الترغيب والترهيب لاستخلاص أكبر قدر من الجهد من عمالهم المسترقين،وكان بعض العمال يفقدون وعيهم من الضرب وشدة الألم، ثم إذا ما أفاقوا يستفرغون،وبعضهم كان “يرقص” أو “يرجف” مع كل ضربة.
وثّق أحد الشهود ما وقع أمامه ذات يوم في عام 1829 في إحدى مزارع ألاباما، حيث كان المراقب يعاقب النساء اللواتي ارتاب في تقاعسهن عن قطف المحصول بالزج برؤوسهن في سلال القطن، ثم يشق عن ظهورهن وينهال عليهن ضربا. يقول المؤرخ إدوارد بابتيست إنَّ الأمريكيين قبل الحرب الباردة “كانوا يعيشون في اقتصاد تروسه السفلى هي التعذيب والتنكيل”.
ثمة راحة في نسبة التوحش الكامن في العبودية إلى العنصرية البلهاء. قد نتصور أنَّ الألم الذي كان يصب على العبيد كان ينزل عليهم بشكل عشوائي، يوزعه عليهم مراقب أبيض سيطرت على مشاعره وسلوكه القولبة والنمطية، فهو وإن كان حر الإرادة إلا أنه فقير.لكنَّ الواقع كان غير ذلك.
فكثير من المراقبين كانوا لا يسمح لهم بأن يجلدوا العبيد كما يشاؤون.بل كانت العقوبات تملى من قبل من هم في رأس الهرم من أصحاب النفوذ. لم يكن ذلك ناجما عن سخط فقراء البيض في الجنوب، وإنما عن جشع الزراع الأثرياء من البيض، الذين كانوا يشيرون بأصابعهم فتنزل السياط لتلسع ظهور المسترقين. لم يكن العنف تعسفيا ولا تطوعيا،وإنما كان له منطق، وكان رأسماليا، وكان يشكل جزءا أساسيا من تصميم منظومة مزارع القطن في ذلك الوقت.
كتب المسترق السابق هنري واتسون في عام 1848 عن ذلك قائلا: “حيث إن كل فرد يكون قد حدد له عدد الأرطال التي ينبغي أن يقطفها من القطن، فقد كان كل ما ينقص عما حدد له يعوض جلدا بالسياط التي تلسع ظهر العبد المسكين”.
ونظرا لأن المراقبين كانوا يرصدون بدقة قدرات كل واحد من العمال المسترقين على القطف، كانوا يحددون لكل واحد من العمال حصته الخاصة به، فإذا ما قصر عن قطف الحصة المخصصة له، فغالبا ما يكون مصيره الجلد. ولكن في الوقت نفسه، قد يسبب له نجاحه في قطف أكثر مما خصص له بؤسا وشقاء في اليوم التالي؛ لأن السيد المالك قد يقرر بناء على ذلك رفع حصته من القطاف.
كانت العبودية تضيف إلى العمال البيض ما أطلق عليه دبليو إي بي دوبوا “مكافأة شعبية ونفسية”، تسمح لهم بالتجول بحرية مطلقة والإحساس بأن لهم حق التميز.ولكنَّ حتى هذا الأمر كان يخدم مصلحة المال، إذ كانت العبودية تتسبب في انخفاض أجور العاملين. ففي المدن كما في الأرياف، كان أرباب العمل يجدون أمامهم نبعا مرنا من العمالة التي تتكون من العبيد ومن الأحرار.وكما هو عليه الحال في الاقتصاد في أيامنا هذه، كان عمال المياومة في عصر الرق يعيشون في العادة في ظروف من الشح وعدم اليقين، وكانت الأعمال التي من المفروض أن تتم في شهور قليلة تستمر مدى الحياة. لم يكن للعمال في حينها حول ولا قوة؛ لأن أرباب العمل كان بإمكانهم الاختيار بين أن يشتروا الناس أو يستأجروهم، أو أن يتعاقدوا مع الخدم لآجال طويلة، وكان بإمكانهم أن يختاروا بين استخدام الصناعيين المتدربين أو استخدام الأطفال والسجناء.
لم ينجم عن ذلك فقط انعدام المساواة وزرع الشقاق ما بين العمال أنفسهم، بل كان “كل ما عدا الرق يبدو حرية”، كما كتب المؤرخ الاقتصادي ستانلي إنغرمان. كان البيض يشعرون بسبب ما يشاهدونه من فظاعات ترتكب بحق العبيد بأن ما هم عليه من حال ليس الأسوأ، فكانوا يقبلون عموما بأوضاعهم، وباتت الحرية الأمريكية تعرف بشكل عام على أنها كل ما ناقض العبودية، كانت حرية تفهم ما الذي كانت في مواجهته وليس ما الذي ينبغي أن تكون عليه، وكان نمطا  من الحرية سيئ التغذية، نمطا خسيسا، يبقيك خارج الأغلال ولكن لا يوفر لك لا الخبز ولا المأوى. كانت تلك حرية شكلية.
ثالثًا:الصهيونية اليهودية وغير اليهودية
في الولايات المتحدة الأمريكية تواجهنا الصهيونية اليهودية و الصهيونية غير اليهودية بالتلازم،و الدعم غير المشروط الذي تقدمه الإمبريالية الأمريكية للكيان الصهيوني، ليس دعمًا لدولة أجنبية، بل هو دعم لدولة لا تعدو كونها مظهرًا من مظاهر الفاشية الإمبريالية.إنَّ انفراد الإدارة الأمريكية اليوم في مواجهة الأمم جميعا ليس في صالحها أبدا.و لقد ألمح الصهيوني البارز هنري كيسنجرالى خطورة وضع الولايات المتحدة الجديد الذي يجعلها تظهر متفردة علنا في الحياة الدولية.وهذا السلوك الأمريكي،هو سلوك كل رئيس أمريكي ،وكل رئيس دولة إمبريالية لأنه يعبر عن سياسة رأسمالية كاملة .
إنَّ حكومة الولايات المتحدة الأمريكية و حكومة الكيان الصهيوني،متفقتان على تفتيت الوطن العربي،وإخضاع كل القوى فيه .أما ما سرّ الحملة الأوروبية – الأميركية –الصهيونية الشرسة على تفكيك الدول الوطنية العربية و اتهامها بممارسة انتهاك حقوق الإنسان،فانَّ هذه الحملة جزء من المعركة السياسية – العسكرية التي تخوضها الحكومات الصهيونية و الأميركية.وهدف هذه الحملة أن تترسخ صورة الدولة الوطنية العربية في كل أوساط الرأي العام العا لمي دولة ديكتاتورية،ليكون مبررا للقيام بغزوات و هجمات ،كالاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، والتدخل الأطلسي في ليبيا لإسقاط نظام العقيد القذافي في عام 2011، والحرب الإرهابية الكونية ضد سورية لإسقاط الدولة الوطنية السورية، و حرب الإبادة الصهيونية التي يشنها الحكام الفاشيون الصهاينة ضد االشعب الفلسطيني الأعزل، و احتمالات القيام بمعارك جديدة أوسع و أشرس ضد العرب .وتخدم هذه الحملة الكيان الصهيوني والإمبريالية الأميركية ، لأنهما يعملان من أجل تصفية الصراع العربي- الصهيوني، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية.
رابعًا:الحروب العدوانية الأمريكية كمشروع تجاري عالمي
العدوانية السافرة، واستخدام الحروب الإقليمية وسيلة لدفع شبح الأزمة الداخلية التي تنذر بالانفجار في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، العدوانية المنفلتة من عقالها، بل الهيمنة التي تمارسها الإمبريالية الأمريكية ضد الأمم و الشعوب و الدول الوطنية في إقليم الشرق الأوسط التي تبدي نزوعًا إلى الاستقلال و التنمية المستقلة، أو فك الروابط مع الإمبريالية و الخروج من منطق التوسع الرأسمالي، تعكس درجة التوحش الأمريكية.
ما هي المعطيات المتعلقة بالمبالغ التي أنفقتها حكومات الولايات المتحدة الأمريكية من أجل شن الحروب واسعة النطاق في أفغانستان 2001، وفي العراق 2003، و في سورية 2011،حسب التقديرات وصل مجموع نفقات الولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية 2017 على الحروب التي دخلتها في أفغانستان و العراق وسورية، حوالي 7000مليار دولار(بسعر صرف الدولار لسنة 2008) ،وهورقم فلكي، في حين أنَ الزعيم الصيني دينغ شياوبينغ،قاد التنمية في الصين و التحديثات الأربعة بنحو 240 مليار دولار، قدمتها البرجوازية الصينية(الدياسبورا) التي كانت تعيش في المنافي(هونغ كونغ، فورموزا،اليابان، كوريا الجنوبية،دول جنوب شرق آسيا) ، واستثمرتها على طول الساحل الصيني ، في بداية عقد الثمانينات من القرن العشرين.
و في الواقع ،مادامت القوى الظلامية والإقطاعية العربية يمكن استخدامها ضد القوى اليسارية و القومية والديمقراطية في الوطن العربي ،نجد الولايات المتحدة الأمريكية في مقدمة الداعمين لها.هذه الأعمال ” المارقة ” التي تمارسها الإمبراطورية الأمريكية أسهمت في تعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية المحلية في البلدان المعنية ،مثل فرض الحصار الاقتصادي،والقيام بالحملات العسكرية العقابية أفغانستان، وإيران، والعراق، وليبيا، وسورية، والسودان، واللجوء إلى اختطاف الأشخاص المطلوبين ،و دائما تمارس هذه الأعمال تحت اسم العدالة ، والحرية والديمقراطية .
و قد حظيت هذه الأعمال ” المارقة “بكل تأكيد بدعم الأمم المتحدة وتعاون حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي،ومن قبل الدول الخليجية.وفي الوقت عينه ،ترفض واشنطن دفع ديونها ومستحقاتها إلى الأمم المتحدة ،وتستخدم حق النقض ضد كل الجهود التي تطالب الكيان الصهيوني بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وكذلك أيضا ممارستها الخاصة لإرهاب الدولة الوقائي .
و منذ عقدين من الزمن،والوطن العربي يشهد تراجعًا واضحًا للقوى اليسارية والقومية مقابل تقدم حركات الإسلام السياسي، والتنظيمات الجهادية المتطرفة ،التي أصبحت تشكل مركز استقطاب كبير،والشكل السياسي الوحيد للاحتجاج الممكن .فمن خلال غرسها لثقافة إرهاب الدولة في النظام العالمي عرقلت الإمبراطورية الأمريكية القواعد القائمة في قيادة السياسة الدولية،خدمة لمصالحها الإمبراطورية.لأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية،هي إمبراطورية وليست قوة عظمى،إمبراطورية من حيث السيطرة والجشع إلى الهيمنة يفوقان سيطرة وجشع الإمبراطورية الرومانية.
الولايات المتحدة الأمريكية ليست كما تعلن عقيدتها السياسية من أنها البلد الأكثرجمالا ،والأكثر ديمقراطية،والأكثر حرية في العالم .إنَّها بلا شك الإمبراطورية الأكثر قوة في التاريخ بالقياس إلى قوتها الاقتصادية و العسكرية ،و تأثيرها الثقافي والإيديولوجي .وتعتبر هذه السيطرة الإمبراطورية الكونية فريدة جدًّا،وهائلة،وهي تمارس بطريقة غير مباشرة ورسمية ، عن طريق القواعد العسكرية ،والأساطيل البحرية القارية التي تطوق كل الكرة الأرضية .
و الحال هذه،فمن غير المدهش،أن تغذي هذه السيطرة الإمبراطورية الأميركية -التي لا مثيل لها ،و لا منافس لها،الكراهية و الحقد عليها في بلدان عالم الجنوب.و بينما يطأطىء شركاء الإمبراطورية الأميركية من الدول الأوروبية و اليابان رؤوسهم أمام الغطرسة الأميركية ،فإنَّ القسم الكبير من العالم الثالث يقاوم هذه الهيمنة الأمريكية،لأنه هوالذي يتحمل كل ثقلها.وليست المقاومة التي بدأت تشكل استقطابًا كبيرًا في الوطن العربي والإسلامي ضد الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية( الصمود الإيراني،وهزيمة المشروع الأمريكي-الصهيوني في سورية وما يجري الآن في أفغانستان من تسوية تفضي إلى خروج القوات الأمريكية )إلا دليلاً قاطعًا على دخول هذه المقاومات في مواجهة الإمبراطورية الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ،إذْ تمارسُ الولايات المتحدة إرهاب الدولة الذي يتخذ أشكالًا مختلفةً، مثل:التهديد العسكري وشن الحملات العسكرية ،والتستر على الفساد المالي،وفسخ ديون الأنظمة الديكتاتورية و دعمها لخنق البديل الديمقراطي في بلدانها.
خاتمة:
مشهد الغضب العارم في عموم الولايات المتحدة، على خلفية مقتل المواطن الأسود “جورج فلويد”،جراء عنف الشرطة، الأسبوع الماضي،واستمرار الاحتجاجات بوتيرتها الغاضبة حاليا، وتسببها بتغيير مشهد الولايات المتحدة الذي عرفه العالم منذ عقود،وموت في طول أمريكا وعرضها ما لا يقل عن مائة ألف شخص من مرض لم يسمع به أحد تقريبًا في العام الماضي، وارتفاع معدلات البطالة إلى حوالي 40مليون عاطل عن العمل،بسبب وباء كورونا الذي كشف عن جريمة انعدام المساواة في قطاعات الصحة والاقتصاد، وجموع من المراهقين لا يجدون ما يفعلون،وعنف الشرطة،واليمينيون الذين يتوقون إلى شن حرب أهلية ثانية،ورئيس أحمق وعنصري متحفز لصبِّ الزيتِ على كل واحدة من هذه النيران،كل هذه العوامل تقود إلى إنَّ الإمبراطورية الأمريكية قد دخلت في طور الأفول،لأنَّها لا تقدم أية أجوبة سياسية للتحدّيات التي يواجهها العالم ،ولا تمتلك أي مشروع سياسي و اقتصادي تقدمه للعالم الثالث،سوى البربرية والفاشية والإفقار المطلق كإحدى إفرازات العولمة الرأسمالية المتوحشة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى