الاعتماد على الذات / ما بعد الجائحة التاجية

ما المقصود بالإعتماد على الذات، وهل نمتلك مقومات ومعطيات الإعتماد على الذات؟
في البدء كان الكلمة والكلمة نعم ممكن،
المقصود بالإعتماد على الذات،
أولاً، الاقلاع عن نهج “الإعتماد على المساعدات الخارجية والقروض الميسرة” لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، نهج فرض على الأردن منذ التأسيس، بهدف فرض إرادة المستعمر البريطاني، ومصادرة القرار الوطني المستقل، منذ الانتداب الأول البريطاني، واستمراره مع الانتداب الثاني الأمريكي، ومن ثم انتداب صندوق النقد والبنك الدوليين، منذ ثلاثة عقود لحد الآن، أداة السيطرة على القرار الوطني ( من يدفع للزمار يحدد اللحن)، تعتمد سياسة المساعدات والقروض، على فرض مديونية مستدامة ومتنامية على الدولة، سياسة القاتل الاقتصادي، وفرض على المجتمع سياسة “لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم” ومنع الاندماج بين المجاميع الماقبل رأسمالية لتشكل مجتمع حديث منتج، ضمن سياسة تفتيت المجتمع وفرق تسود، وحين الضرورة تأليب هذه المجموعات ضد بعضها البعض، بما يخدم مصالح قوى الهيمنة، والشواهد أمامنا واضحة ومتعددة، العراق ليبيا سوريا السودان الصومال اليمن…ألخ
وثانياً، تغيير سمة الاقتصاد الريعي ونهج الاستهلاك، وإعتماد نهج الإنتاج والتنمية، وتلبية شروط التنمية المتمحورة حول الذات الوطنية، والمقصود توفير مقومات وشروط التنمية الوطنية المتمثل بجناحين، التراكم الرأسمالي الوطني، وهو متوفر حيث تطرقنا في حلقات سابقة، والتراكم المعرفي بشقيه التقني والمعرفي، حيث أكثر من 18% من المجتمع الأردني يحمل شهادات عليا ما فوق الدبلوم، وهي من النسب العالية في العالم، والاقلاع عن التعامل مع الأزمة القائمة من الزاوية المالية، والتقدم باتجاه طبعتيها الحقيقية، ومن منظور أزمة بنية اقتصادية ريعية مستهلكة، غير منتجة، والأقلاع عن تعمية وتزييف وعي المجتمع، بالتعامل مع الدورة الاقتصادية بمقياس النمو والربح والخسارة، وهو مقياس مالي يخص الشركات والأفراد، والتوجه إلى مقياس التنمية والمردود، وهو مقياس اقتصادي يخص الدول والمجتمعات.
– الاعتماد على الذات يعني التوجه فوراً نحو تنمية قطاعات الإنتاج وعلى كافة الصعد: الاقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية والروحية،
– الاعتماد على الذات يعني تفعيل أدوات الإنتاج المتاحة، بدءاً بتفعيل أراضي الدولة المعطلة عن الإنتاج، والتي تبلغ حوالي 86% من مساحة الأردن، أي حوالي ( 77 ألف كم 2، أو ما يعادل 77 مليون دونم) بحيث يتم تأسيس جمعيات تعاونية زراعية وتوزيع هذه الأراضي عليها، جمعيات تضم المهندسين الزراعين وأطباء البيطرة والجيولوجيين وعمال الزراعة والخبرات والكفاءات الفنية والإدارية، هل تتصورا حجم المردود؟ محاربة مشكلة البطالة، ومجابهة آفة الهجرة من الريف إلى المدينة، وتوفير الأمن الغذائي زراعة وثروة حيوانية، تم التطرق إليها في الحلقات السابقة، تفعيل قطاع الثروات الطبيعية والمقدرات الوطنية، وهي هائلة، وتفعيل قطاع السياحة، الفريد في العالم، لناحية الأنماط السياحية المتاحة، ..ألخ،
هل هذه معطيات خفية على قوى الحكم في السلطة وفي السوق، الجواب بالتأكيد كلا، ولكنها قوى تابعة لا تمتلك قرارها المستقل،
– الإعتماد على الذات يعني حشد الطاقات والثروات والمقدرات والقوى العاملة والخبرات والكفاءات والنخب ضمن مشروع تنمية وطنية متمحورة حول الذات الوطنية، وعناصر ومعطيات التنمية متوفرة حقيقة، بالفعل وفي الواقع، في كافة القطاعات المنتجة والخدمية، كما بيّنا في الحلقات السابقة،
– الإعتماد على الذات يعني تغيير البنى الثقافية الرسمية والمجتمعية السائدة، ثقافة الاستهلاك، ثقافة التخلف والإتكالية الغيبية الانتهازية، لصالح تنمية ثقافة الإنتماء للذات الوطنية وللمجتمع المنتج والدولة المنتجة، ويعني محاربة ثقافة الاستهلاك والتغريب والتجهيل وثقافة مفوته غيبية، وإعادة إنتاج حضارة ممتدة على مسافة (27 آلف عام ) من الزمن، بما يخدم مشروع الإعتماد على الذات الراهن، بصورة خلاقة مبدعة، تخدم التقدم إلى الأمام وليس العودة إلى الوراء، كما فعلت مجتمعات كثيرة، والصين اليوم خير دليل.
– الإعتماد على الذات يعني محاربة سياسة الفساد والإفساد، وسياسة الخوّات والشللية والمناطقية والإقليمية، ومحاربة لصوص المال العام، ومحاربة الثقافة العامة السائدة التي تعتبر الفساد والإفساد فهلوة، وتعتبر سرقة المال العام ذكاء ( أموال تعود ملكيتها لدافعي الضرائب وللمجتمع بكله) ، كلّف المجتمع الدولة بإدارتها، تحت سقف الخدمات العامة، بناء على عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع.
الاعتماد على الذات، لا يعني الانعزال والتقوقع على الذات، بل يعني في المنظور القريب، بناء الدولة الوطنية المنتجة والعمل على بناء دولة الأمة، لأن العالم المعاصر لا يسمح، ولا يمنح فرصة الحياة، خاصة للدول والمجتمعات الصغيرة، للتقوقع والإنعزال، بل يمنح الحياة لمن يسعى الى الانخراط في تكتل اجتماعي كبير، يحقق مزايا سوق إنتاج واستهلاك ضخمة ( سوق تعداده أكثر من 500 مليون شخص) لكي يتمكن في ظل صراع التكتلات العملاقة في عالم اليوم من الاستمرار في البقاء، وبناء دولة الأمة هو شرط البقاء والتنمية والتطور لدول الأمة العربية جمعاء، ومنها الأردن.
ما بعد الجائحة التاجية ليس كما قبلها، مقولة أصبح عليها اجماع شبه كلي، بين كافة المتحاورين وفي وسائل الاعلام وعلى الفضائيات وبين النخب، ويتمحور الحوار حول مقاربتين: نظام عالمي جديد يتشكل، بمفهوم اعادة اقتسام العالم بين قوى عالمية عظمى، بناء على موازين دولية جديدة،
ومقاربة نقيضة، تحت عنوان عالم جديد يتشكل، نتيجة ثورة اجتماعية عالمية تحملها طبقات وشرائح اجتماعية كادحة ومنتجة، قوى اجتماعية رافضة لتحمل وزر أزمة وتداعيات، لم تكن من انتاجها، فمسبب الأزمة عليه دفع أثمانها.
بعد الجائحة يمكن استخلاص حقائق ومعطيات جديدة:
– انكماش شديد في الاقتصاد العالمي، كساد اقتصادي، وخاصة في دول المركز الرأسمالي العالمي، وتراجع حاد لأسعار النفط، انعكس سلباً على الاقتصاد الأمريكي والسعودي بشكل مضاعف، وعلى الاقتصاد العالمي عموماً.
– من الصعوبة بمكان إعادة تدوير الكتلة المالية متاحة في دورة اقتصاد كاسد ومأزوم، مما سيسبب التضخم أي ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل هستيري.
– ما زالت دول المركز الرأسمالي العالمي، والدول التابعة لها، تعالج الأزمة البنيوية القائمة من الزاوية المالية، وليس معالجة علة وسبب الأزمة بكونها ازمة بنية المنظومة الرأسمالية ذاتها، والتي توّلد على التوالي أزمة تلو الأخرى.
– بوادر انهيار الرأسمالية المضاربة العالمية، ولم يعد ممكناً إعادة احياء الأسواق المالية المضاربة، كما كانت.
– تزايد نسب البطالة وتوسع دوائر الفقر وتهتك شبكات الحماية الاجتماعية، الصحية والتعلمية والخدمية
– التصعيد العدواني الأمريكي في كل الاتجهات بدءاً في الصين مروراً في فنزويلا وايران وسوريا، يؤشر الى ضعف وهبوط وليس قوة ومناعة ونمو.
– اعادة انكفاء الدول على ذاتها، والبحث عن حلول خاصة بها، واعطاء الأولوية للعق جراحها ذاتها، أي ستشح أن لم تنعدم المساعدات والمنح، وستعم وتطبق مقولة ” كل واحد يقلع شوكه بيده”.
الأردن دولة ريعية مستهلكة تابعة، اعتمدت المساعدات الخارجية والقروض الميسرة لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، وبسبب هذا النهج تراكمت على الدولة وعلى الشرائح الكادحة والمنتجة ديون أكبر بكثير من القدرة على الوفاء بها مع استمرار هذا النهج، ولا حتى الوفاء بسداد خدمة المديونية، ونتجية العجز المستمر والمتراكم في ميزانية الدولة منذ التكوين ولحد اليوم.
الأردن دولة مستهلكة غير منتجة، والمجتمع أيضاً مجتمع استهلاكي، والثقافة السائدة ثقافة الاستهلاك، والوعي الجمعي بخصوص حضارتنا المتراكمة، شبه معدوم، وتبعاً فالهوية الوطنية مغيبة، وبدلاً من الهوية الوطنية الجامعة، تسود هويات مجاميع الماقبل رأسمالية: العشائرية والطائفية والأثنية والأقليمية والمناطقية والشللية… ألخ.
ما المطلوب من القوى الاجتماعية لمجابهة مرحلة ما بعد الجائحة التاجية؟
التحولات الإجتماعية قادمة لا محالة، وحماية الأمن الاجتماعي واجب مقدس على جميع الوطنيين، حمايته من فعل قانون “الجوع أبو الكفار” الذي يفتك بالأمن الاجتماعي، ثورة اجتماعية قادمة لا محالة، على الصعيد الوطني والأقليمي والعالمي، ثورة اجتماعية عالمية، لسبب بسيط أن الشرائح الكادحة والمنتجة في العالم، لن ترضى بعد اليوم بالظلم والنهب والاستغلال والاستعباد والجوع والفقر والبطالة الممارس عليها، تحت عنوان حل الأزمة يفرض ذلك، وبالرغم من التضحيات الجسام التي قدمتها لم تحل الأزمة بل تفاقمت وتحولت الى ازمة خانقة، لا يمكن الخروج منها بأدوات هي سبب الأزمة، حل الأزمة عن طريق دعم شركات عملاقة مسببة للأزمة على حساب الشرائح والطبقات الكادحة في كل أزمة ثبت عقمه لا بل ثبت أن مسبب الأزمة يخرج مستفيداً وحيداً منها، هي أزمة متكررة بسبب بنية النظام الرأسمالي ذاته، عبر عمر هذا النظام، لن ترضى الطبقة العاملة أن تكون حطب وقود لمصالح الشركات العملاقة متعدية الجنسيات، وتحالف السلطة والمال، ولن تسمح لنفسها أن تكون كبش فداء على مذبح الطغمة المالية،
لن يرضى شعبنا الأردني، وفي مقدمته الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة، وكل الفقراء والمهمشين والمعذبين، أن يكونوا وقودا لقوى التبعية في الحكم وفي السوق ولصوص المال العام.
لن يرضي شعبنا أن يكون كالجمل الذي يحمل الماء على ظهرة وهو يعاني من العطش في الصحراء، بسبب نهج التبعية، لدينا ثروات طبيعية هائلة ولدينا مقدرات وطنية وقوى إنتاج تمكّن من تكون مرحلة ما بعد الجائحة التاجية فرصة للإنعتاق الأبدي من التبعية والفقر والجوع والبطالة بشرط:
· بناء مرجعية وطنية عليا على الصعيد الوطني وعلى صعيد المحليات، من ممثلي الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة ومن الفعاليات المجتمعية والقوى الوطنية التقدمية ومنظمات المجتمع الوطني: نقابات عمالية ومهنية واتحادات ومنتديات وجمعيات
· بالإعتماد على الكفاءات والخبرات الوطنية المختصة، صياغة مشروع تنمية وطنية متمحورة حول الذات الوطنية، بناء على حقائق ومعطيات وعلى امكانات متوفرة الآن ومتاحة في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد
· طرح آليات وجدول زمني لإنفاذ مشروع التنمية الوطني، وحشد الطاقات والخبرات والكفاءات الوطنية والشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة حول مشروع التنمية هذا، الإرادة تصنع المستحيل، ومشروع النهوض ممكن وليس مستحيلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى