أي مستقبل للدولة في الوطن العربي ما بعد كورونا؟
بقلم : توفيق المديني

أعادت جائحة كورونا المستجدة المنتشر ة في العالم منذ ثلاثة أشهر،إحياء الجدل عن العلاقة بين الدولة التسلطية و المجتمع في الوطن العربي،لا سيما أنّ أصابع الاتهام في الوقت الحالي تتوجه وأكثر من أي وقت مضى، إلى عملية اندماج الدول العربية في نظام العولمة الليبرالية التي تقودها الإمبريالية الأمريكية، إذْ إنَّ الدول العربية التسلطية حسب رأي المفكرين والنقاد العرب مسؤولة عن زيادة التفاوتات الاجتماعية وتدمير الطبقات المتوسطة في البلدان العربية،وعن انتشار الفساد البنيوي والإفقار المطلق في المجتمعات العربية، منذ مطلع القرن العشرين وإلى يومنا هذا،لجهة انعكاس تعقيداتهما على بُنية المجتمع،وعلى نمط علاقاتهما الاجتماعية والثقافية؛ بحيث أصبح من الضروري القيام بإصلاح ديمقراطي جذري للدولة العربية من أجل محاربة الفساد،ومكافحة الفقر،من خلال إعادة تنظيم عالَم العمل والصحّة والتعليم والرعاية والمجالات الأخرى.
كما أظهرت جائحة كورونا الحاجة الماسة لتغيير النموذج الاقتصادي والاجتماعي القائم في الوطن العربي،وتغيير أيضًا العديد من المفاهيم الخاصّة بتعريف السياسات الاجتماعية ومنها ما خصّ مشكلات الأمّية والبطالة والفقر،والتصدّي لهذه المشكلات والاهتمام بالتنمية المجتمعية لتحقيق الأهداف المتمثّلة بتحسين نوعيّة الحياة للعامّة، وتغيير هذا المجتمع العربي بواسطة المجتمع ذاته، ومن أجله أيضاً، كعملية شاملة حتّى ولو كانت معقّدة. فالمُشارَكة المجتمعية ضرورية لرفع مستوى التنمية والتكامل ما بين العناصر المختلفة والانسجام بين سياسات الحدّ من الفقر وآليّات تنفيذها للوصول إلى الأهداف عبر وسائل وأدوات مُلائمة.
فشل سياسة العصرنة مع ميل الفئات الميسورة العربية إلى الاستهلاك التفاخري
في الحقبة مابعد الاستعمارين الفرنسي و البريطاني للوطن العربي، ومع حصول الدول العربية على الاستقلال السياسي، انقسم الوطن العربي إل فئتين من الدول، فئة الدول الحديثة العهد التي اختارت “الطريق الرأسمالي للتطور” وحافظت على التقسيم الدولي للعمل في إطار النظام الرأسمالي العالمي، ولكنَّ من دون أن تتبلور فيها قوى برجوازية، قادرة على تحقيق السيطرة الوطنية على عملية التراكم البدائي لرأس المال. وهذه الدول تتمثل بالمملكة العربية السعودية، وإمارات الخليج، وعمان والأردن وتونس والمغرب ولبنان،قد ربطت مصيرها بمصير الرأسمالية العالمية ككل، لأنَّها ليست بدول برجوازية وطنية، حتى وإن سيطرت البرجوازية الكمبرادورية على جهاز الدولة،إلا أن عملية التراكم ظلت خارج سيطرتها. وحافظت هذه الدول على نمط السلطة التقليدية، وعلى الإيديولوجيا التقليدية، التي ترفض وبإطلاقية عملية تسييس الشعب، التي انطلقت سيرورتها في الحقبة الكولونيالية بفعل آلية التحديث بدون تصميم ولا إرادة من السلطة الكولونيالية.
أما الفئة الثانية، فهي الدول العربية التي قامت فيها انقلابات عسكرية ضد أشكال الحكم التقليدية، ولعبت فيها الطبقة المتوسطة دوراً رئيسياً،مثل مصر وليبيا والعراق والجزائرواليمن واستولى الجيش في هذه الدول على السلطة، حيث كانت خلفيته الاجتماعية من أصول ريفية، وضباطه من أبناء الطبقة المتوسطة. واتخذت الحكومات التي شكلتها الانقلابات العسكرية اجراءات لاستصلاح الأراضي، والقيام بإصلاح زراعي لاستقطاب العناصر الأكثر عدداً وقوة في الريف وبناء القاعدة الاجتماعية، وانتهجت سياسة جديدة، فضربت العلاقات مع الامبريالية،وأنشأت علاقات صداقة مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية سابقاً،وضربت الاقطاع والكمبرادور،وأنشأت القطاع العام. ولكنَّ هذه النظم التي نصَّبَ فيها الجيش نفسه حكماً على القيم الوطنية والقومية، واعتنق مبدأ الوطنية، واستمد شرعيته انطلاقاً من الوعود التي قدمها للمستقبل، ومن تبنيه للعصرنة السياسية، لم تستطع أن تبني مؤسسات سياسية ثابتة، وأن تطور بنية سياسية توطد أسس مبدأ شرعي مايتعلق بالمشاركة السياسية للشعب.
وهكذا،فشلت هذه الدول في إقامة علاقات صحيحة مع الجماهير الشعبية، وانتهجت سياسات غير ديمقراطية بمجلمها لأن العسكر الذي خاض اللعبة السياسية،واكتسب الشرعية، أصبح عائقاً رئيسياً أمام قيام مؤسسات سياسية جديدة، بسبب مواقف العسكريين الذاتية من السياسة ومن أنفسهم، ونفورهم من النشاط السياسي بصورة عامة، ومن الأحزاب بصورة خاصة (في ليبيا والجزائر)، وشعورهم بأنهم في حالة صراع بين أولوياتهم وتقويماتهم الذاتية، وبين الاحتياجات الموضوعية لبناء مؤسسات سياسية قادرة على القيام بمهمات العصرنة السياسية لمجتمعاتهم.
مع حلول السبعينات كانت معظم الأنظمة العربية أنظمة معصرنة باعتمادها أنماط حديثة مشوهة وناقصة، تنطوي على ازدواجية أساسية، السطح الخارجي المعصرن، يخفي واقعاً مجتمعياً تقليدياً داخلياً يرتكز على العائلة والعشيرة والطائفة بقي يتمتع بمقاومة عنيدة قل نظيرها في مواجهة تأثيرات الميول والاتجاهات المعصرنة. هذه الازدواجية التي تعكس انعدام الأصالة بمضامينها العصرية ومضامينها التقليدية على حد سواء، والتناقض والتوتر،أصبحت تشكل السمة البارزة في الحياة المجتمعية العربية، فضلاً عن أنها تشكل العمود الفقري للدولة العربية المعصرنة نصف التقليدية نصف العصرية. وبات الاعتماد على الروابط المناطقية والاقليمية والعشائرية والطائفية في معظم البلاد العربية، يمثل شرطاً أساسياً للاحتفاظ بالسلطة من جانب السلطات الحاكمة في الوطن العربي.
لم تحدث العصرنة التي قامت بها الدولة التسلطية العربية (على اختلاف تلاوينها الدينية القروسطية أوالسلطانية،أو دولة العسكر،أو الدولة الطائفية)،وبخاصة منها تلك المتعلقة بعمليات التحديث والتنمية السريعة، سواء التي ارتبطت عضوياً بالثروة النفطية الطارئة، أم التي ارتبطت بالاشتراكية العربية التقليدية،بسيرورات التحولات الاقتصادية – الاجتماعية التي تنقل المجتمع العربي انتقالاً تاماً وناجزاً، من مجتمع ماقبل القومية الحديثة والأمة، إلى مجتمع الأمة العصرية البرجوازية بهذا المعنى. وقد نجم عن عمليات ارتفاع معدل التغيير نحو العصرنة، الاجتماعية والاقتصادية بروز مجموعة من التناقضات والاختلافات في المجتمع العربي شكلت مصادر للتوتر وعدم الاستقرار السياسي.
لقد أسهمت التنمية السلبية والاستهلاكية السريعة في إحداث انعدام الاستقرار، لأنها وإن أوجدت قطاعات اقتصادية “حديثة” : صناعات متوسطة وخفيفة،إنتاج منتجات زراعية وصناعية وتصديرية، تجارة، وبنت قطاع الدولة الاقتصادي، والمؤسسات والورش المدارة بصورة مشتركة من قبل الدولة والشركات الأجنبية و(الاقتصاد المختلط)،إلا أنَّ هذه الاستراتيجية الموظفة قد قادت إلى التوسع والتخصص في الانتاج الأحادي المنتج،أي إنتاج وتصدير سلعة واحدة قابلة للنضوب وهي النفط،أو مواد أولية أخرى. وأصبح القطاع النفطي وقطاع الإنتاج التصديري للسوق الرأسمالية العالمية هما المحركان الرئيسيان لمجمل هذه التنمية الاستهلاكية التي أجهضت تحت بوارقها العصرية المشروع النهضوي التاريخي،ومزقت التكتلات والبنى الاجتماعية التقليدية (العائلية، والقبلية، والطائفية، والعشائرية)، والتشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية ماقبل “راسمالية”، التي امتزجت في تشكيلات اقتصادية رأسمالية حديثة تابعة للاقتصاد الرأسمالي العالمي، أدت إلى تفتيت المجتمع التقليدي، وتقويض الروابط الاجتماعية، وتشجيع على نحو خاص الهجرة السريعة من المناطق الريفية إلى المدن، وعدم بناء اقتصاد انتاجي حديث، بل اقتصاد خدمات تابع عمق التبعية الاقتصادية والمالية والأمنية والعسكرية والغذائية والثقافية لمعظم الوطن العربي، إزاء المراكز الرأسمالية الغربية.
وقد أدَّى هذا الوضع إلى تبلور طبقة برجوازية كمبرادورية، حيث كانت الشريحة البيروقراطية السياسية والعسكرية المسيطرة على المراكز القيادية لجهاز الدولة متحالفة مع النخب التقليدية من حلف التجار وكبار الملاك، وحصلت على ثروات فاحشة بسبب من هيمنتها على مصادر الثروة القوة في المجتمع، خلقت لها بالتالي فرصة بناء قوة اقتصادية تخصها، عبر المضاربة بالأراضي من خلال رسملتها، وفي مجال الخدمات والتجارة، ونقل الأموال إلى مصارف أجنبية المودعة في حسابات خاصة.
وبالمقابل أو جدت عمليات التنمية الاستهلاكية هذه اختلاطاً طبقياً وتشويهاً اجتماعياً كبيراً، انعكس في وجود الضواحي للمدن التي تضم عدد كبير من العمال الأميين، الذين لا يملكون أي تأهيل مهني، أو لديهم القليل من الدراية، وتكون جيش من العاطلين عن العمل الذين يعيشون عالة على أقاربهم أو بين قومهم، وفي تدهور أوضاع كتلة الفلاحين الأساسية، بسبب من تحطيم النظام الاقتصادي والاجتماعي الموروث، وبخاصة ندرة الأرض الزراعية، وانحصار الوسائل المخصصة للريف في إقامة بنية تحتية زراعية تكون متخصصة لإنتاج السلع التصديرية للسوق الرأسمالية.
وبالمقابل تعزز هذه السوق الدولية بوصفها عاملاً مؤثراً بنيوياً الشكل الخاص للتبعية، والتفكيك، وهيمنة قطاع التصدير، وتنمية الميل العام للاستهلاك التفاخري للسلع الغربية من جانب الفئات والطبقات العربية الميسورة، التي تلعب دوراً وسيطاً كمبرادورياً، غير مهتمة بتنمية الصناعة الثقيلة، بمقدار ماهي مهتمة بتنمية التجارة الداخلية والخارجية، تصدر سلعاً ومنتجات، وتستورد سلعاً ومنتجات. والحال هذه، فإن التبعية التي تعني هيمنة نموذج التراكم المتروبولي الرأسمالي الغربي، الذي يقرر بصورة جوهرية معايير الانتاج والاستهلاك في النظام الرأسمالي العالمي، تعني أيضاً تبعية نموذج الاقتصاد التصديري في الاقطار العربية لرأس المال المتروبولي.
أزمة الدولة الريعية العربية والعلاقة بين الفقر والبطالة
تُعَدُّ الدولة في الوطن العربي دولة ريعية بامتياز،إذ تعتمد في نشاطها الاقتصادي على مورد طبيعي أحادي لتوليد الدخل ،أي أنها تعتمد على صادرات البترول والغاز التي تمثل حوالي 90 % من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، كمصدر أساسي في كل مداخيل الدولة من العملة الصعبة .وعلى الرغم من وجود خطط للتنمية في كل دولة عربية على حده، ومن تفاوت، نوعية هذه الخطط ومستوى جديتها، إلا أن هناك مايكفي من الدلائل على ازدهار وتصدير السلع الخام، وأهمها النفط، الفوسفات، القطن، وتنفرد كل مجموعة من الدول العربية بسلعة، واتساع نطاق استيراد السلع المصنعة والغذائية، واتساع قطاعات الخدمات على حساب الصناعة والزراعة، وتدهور الزراعة تدهوراً ملحوظاً، مع سقوط الأنظمة الرجعية التقليدية، وانفجار الثروة النفطية، وضآلة حجم التبادل الاقتصادي بين الأقطارالعربية، واتساعها بين كل قطر والمراكز الرأسمالية الغربية.
هناك علاقة عضوية بين الفقر والبطالة في البلدان العربية، إذ تُعتبر البطالة من بين أهمّ التحدّيات التي تُواجِه الدول العربية قاطبة، باعتبارها ظاهرة تمسّ عشرات الملايين من العرب، ومن مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في العالَم العربي. وتُعَدّ البطالة السبب الأوّل لتفشّي ظاهرة الفقر في الدول العربية، وما ينجرّ عنها من آفاتٍ اجتماعية خطيرة تهدِّد أمن المجتمعات العربية.
وفي ظروف الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وتداعياتها العربية، تعاني اقتصادات العالَم العربي في معظمها من البطالة التي باتت تهدِّد تماسك المجتمعات العربية واستقرارها، لما ينتج عنها من تأثيرات مدمِّرة تنعكس على الجانب الاجتماعي بالدرجة الأولى، ثمّ الجانب الاقتصادي الذي سيُحرم من طاقات بشرية تصنَّف من ضمن الطّاقات المُعطَّلة. بينما تقتضي الديناميّة الاقتصادية الاستغلال الأمثل لهذه الطّاقة الإنتاجية المُعطَّلة، من أجل دفع عجلة التنمية إلى الأمام للخروج من أزمة الفقر والتخلّف التي تَسِم الدول العربية. وممّا زاد أزمة البطالة استفحالاً في العالَم العربي، دخول الاقتصادات العربية في سيرورة العَولمة اللّيبرالية المتوحّشة، واتّساع هوّة الاختلالات الهيكلية لاقتصاداتها.
تُعَدُّ البطالة التي تفوق نسبتها الـ 20% في العالَم العربي مقابل 6 % عالميّاً، من أخطر المشكلات التي تُواجِه الدول العربية. ومن المتوقَّع أن يصل عدد المتعطّلين عن العمل خلال العام الحالي إلى أكثر من 35مليون عربي، ما يتطلّب استحداث 5 ملايين فرصة عمل سنويّاً لمُعالجة هذه المشكلة الخطيرة. وتعاني الدول العربية هوّة واسعة في مستويات الدخل والمعيشة، ما أدّى إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى 30 %؛ وإذا ما بقيت معدّلات النموّ في الناتج المحلّي العربي منخفضة نسبيّاً، فكيف سيتمّ توفير فرص العمل وتوظيف الإمكانات الهائلة للشباب العربي في التنمية الاقتصادية؟
وفي النظام الريعي العربي ، تحكم الدولة قبضتها على الثروات، وهي ثروات تفتقر إلى قيمة مُضافة مصدرها البلد نفسه وقيمتها مرتبطة بالطلب الخارجي. ويترتّب عن مثل هذه الأنظمة بروز عدم تناظر سياسي بين الدولة والمجتمع . فالدولة تُراكم الثروات ولا توفِّر فرص عمل. وليس خلق الثروات شاغل الدولة. فقد تفاقمت ظاهرة البطالة في الدول العربية الريعية التي لا تدعو مواطنيها إلى العمل، ولا تحفّز العمل وسوقه. وهذا مثبت في إحصاءات كثيرة. ففي سلّم البطالة في العالَم، وهي تقاس من أدنى المعدّلات إلى أعلاها، تتربّع مصر في المرتبة 107، والمغرب في المرتبة 109، والجزائر في المرتبة 110، والأردن في المرتبة 139، وتونس في المرتبة 140، واليمن في المرتبة 185. وعليه، قد يصحّ رسم خريطة الثورات العربية بناءً على معدّلات البطالة والعمل.
ولعلّ من أهمّ أسباب ما شهدته المنطقة العربية من انتفاضات وثورات، تفشّي البطالة وارتفاع نسب الفقر، ما أدّى إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي وأَسَّس لثورات الشباب. وقد وصفت منظّمة العمل العربية الوضع الحالي للبطالة في الدول العربية بـ”الأسوأ بين جميع مناطق العالَم من دون مُنازع”، وأنّه ” في طريقه لتجاوز الخطوط الحمر”. ويجب على الاقتصادات العربية ضخّ نحو 70 مليار دولار، ورفع معدل نموّها الاقتصادي من 3 % إلى 7 %، واستحداث ما لا يقلّ عن خمسة ملايين فرصة عمل سنويّاً، حتى تتمكّن من التغلّب على هذه المشكلة الخطيرة.
انتشار الفساد ونزع السياسية من المجتمع
يساعد الفساد على زيادة حدّة الفقرفي الوطن العربي ، وخصوصاً عندما يسرق مسؤولون على مستوىً رفيع الأموالَ من خزائن دولهم أو يسيئون إدارة موارد عامّة يقصد بها تمويل تطلّعات شعبهم لحياة أفضل. ويعرَّف الفساد السياسي في معناه الواسع بأنّه إساءة لاستخدام السلطه العامّة (الحكومية) لتحقيق أهداف غير مشروعة وغالباً ما تكون لتحقيق المصالح الشخصية، وأهمّ أشكاله: المحسوبية والرشوة والابتزاز ومُمارسة النفوذ والاحتيال ومُحاباة الأقارب. ويُعَدُّ الفساد السياسي أخطر أنواع الفساد إطلاقاً، لأنّ القابضين على السلطة السياسية ينهبون المال العامّ، ويفسدون موظّفي الخدمة العامّة في مؤسّسات الدولة والمجتمع، من خلال مَنْح مناصريهم وظائف كبيرة لا تتوافق مع مؤهّلاتهم العلمية وخبراتهم وشراء الذمم والتستّر على فضائح الرشاوى والفساد.
والفساد في البلاد العربية، ارتبط بشكل عضوي بظهور الدولة التسلطية العربية، التي تمارس الاحتكار الأعمى والفعال لمصادر الثروة والقوة للنخبة الحاكمة فيها، سواء كانت هذه النخبة، عائلة أو حزب شمولي مهيمن، أو طائفة ادعت لنفسها أنها حاملة راية العصرنة السياسية، والعلمنة، أو الاثنين معاً، أوعسكر، حيث أن الفساد شديد اللصوق بغياب كل أشكال المشاركة السياسية للمواطنين.
لقد أدت السياسات الاجتماعية – الاقتصادية التي قادتها النخب السياسية والعسكرية في الوطن العربي إلى ظهور طبقة برجوازية كمبرادورية جديدة مضطلعة بقيادة القطاع العام، وتتكون أساسً من قيادات الحزب الحاكم، وكبار رجال الدولة مدنيين وعسكريين كما هو الحال في مصر والجزائر والعراق، ودخلت هذه الطبقة الرأسمالية البيروقراطية في حلف طبقي مع برجوازية القطاع الخاص من أجل تحقيق الأرباح شريطة أن تتخلى هذه الأخيرة عن دورها السياسي وتلتزم بتوجيهات الدولة. وامتد هذا التحالف ليشمل القادة والمدراء في الشركات العامة، وزعماء النقابات والاتحادات المهنية،الذين لعبوا دوراً رئيساً في تطويع العمال والفلاحين والطلاب وتدجين النقابات بوساطة القمع السياسي البوليسي. وأصبح هذا الحلف الطبقي يهيمن على مجموع الاقتصاد الوطني في معظم البلاد العربية ويديره، ويعيد توزيع الدخل القومي وِفْقاً لمصالحه وأهدافه.
وهكذا تفشى الفساد داخل الأجهزة الحزبية، وأجهزة الدولة عموماً، تفاقم مع تصاعد التسلل الهرمي السياسي، بدءاً من الموظفين المحليين، ومدراء القطاع العام، والوزراء الذين هم أكثر فساداً من بين هؤلاء، وقد كشفت التجربة التاريخية أن تفشي الفساد وازدهاره هو التعبير الصارخ عن التناقض بين سيادة القانون والنزعة التسلطية للحاكم العربي، أي التناقض بين حقيقة الدولة الموضوعية المادية، وشكلها السياسي الاستبدادي على الصعيد العربي. فالطبيعة السياسية للفساد تكشفها المعوقات البنيوية التي تضعها الدولة التسلطية العربية نحو التقدم باتجاه الديمقراطية والمساواة الفعلية أمام القانون. فالدولة العربية التي تهيمن فيها مصلحة الحاكم، أو العائلة أو العشيرة، أو الطائفة، أو الحزب السياسي المهيمن ليست حيادية في شأن الفساد، بل إن الفساد يشكل عاملاً أساسياً فيها، نظراً لكونها لم تعد (أي الدولة) قضية عامة أو الشأن العام أولاً، ولانفصالها عن المجتمع المدني وغربتها عنه ثانياً.
الربيع العربي والخراب الذي أحدثة الإسلام السياسي
كان المشروع القومي العربي بشقيه الناصري والبعثي متصادمًا مع المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، وكان ينادي بتحقيق الثورة العربيّة المصبوغة بفكر النهضويّين العرب في نهاية القرن التاسع عشر،وبداية القرن العشرين ،القائم على الوحدة العربيّة، انطلاقاً من القوميّة الإيديولوجية العربيّة الجامِعة، التي لَم تكُن حريّة الإنسان وحقوقه، والديموقراطيّة مطلباً جوهريّاً في الفكر القومي العربي، بل كانت الوحدة أو الاتّحاد هدفاً شامِلاً جامِعاً، يسود الاعتقاد أنّه بتحقيقه سيتمّ تحقيق كلّ ما يصبو إليه العربي الثائر.
لكنَّ هذا المشروع القومي العربي هُزِمَ هزيمةً تاريخيةً أمام المشروع الإمبريالي الأمريكي، والمشروع الصهيوني ،حين هُزمت الجيوش العربيّة من الدولة الصغيرة إسرائيل في العام 1967، وأقامت الأحلاف الغربيّة وجهاً جديداً للاستعمارالأمريكي-الصهيوني المتحالف مع الأنظمة العربية.
في هذا الفضاء الأسود، والروح العربيّة المكسورة والمُهانَة الخائفة، جاء ما يسمى ب”ربيع الثورات العربية” في سنة 2011،فأطلّ علينا الإسلام السياسي (المتحالف مع الإمبريالية الأمريكية ،ومع النظام التركي بقيادة السلطان العثماني الجديد رجب طيب أردوغان الحالم بإعادة عرش الإمبراطورية العثمانية من جديد)،والمترصِّد والطامع في الحُكم، إيماناً منه بأنّ خلاص الأمّة ليس في عروبتها، ولكنْ في إسلاميّتها. فأقام الإخوان المُسلمون شعاراتهم، ونظَّموا صفوفهم وأحزابهم، وجمعوا إخواناً لهم في كلّ بلد عربي، وركبوا موجات انتفاضات الربيع العربي رغم أنهم لم يقوموا بها، ووصلوا إلى السلطة في كل من تونس ومصر، وليبيا،وبسرعة عبدوا الطريق لتجنيد الحركات الإرهابية و التكفيرية لتفجير الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي، وهانحن بعد تسع سنوات في الوطن العربي نعيش ذلك الصراع بين حركات الإسلام السياسي على اختلاف مسمياتها وبين المشروع الوطني و الديمقراطي لإعادة بناء الدولة الوطنية العربية في كل بلد.
ورغم أنّ تونس بلد الاستثناء في عملية الانتقال الديمقراطي ما بعد الربيع العربي،بحكم أنَّها ورثت الدولة المدنية الوحيدة في كل الوطن العربي التي بناها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة،في حين فشلت كل الإيديولوجيات الأخرى، القومية و الاشتراكية والإسلامية في بناء أي دولة مدنية ،وحققت أشواطًا بعيدة في تبني الحداثة بكل منطوياتها الفكرية و السياسية ،متفوقة على العديد من المفكّرين العرب الأوائل، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ثمّ المتأخّرين منهم في أواخر القرن العشرين، وبينهم: محمّد عابد الجابري، وجورج طرابيشي، وطيّب تيزيني، ومحمّد أركون، وعبد الإله بلقزيز وغيرهم،هؤلاء جميعاً مع اختلاف بسيط، لم يقطعوا بضرورة فصل الدّين عن السياسة في الدولة العربيّة الإسلاميّة وأهميّته،و أخذوا بمَنهج التوفيق والتلفيق، وابتعدوا عن الرأي القاطع في الفصل بين الأمرَين، ومع ذلك فإنَّ تونس الدولة المدنية الحداثية لا تزال مُمْسِكَةً بالإسلام السياسي أو مُعتقِلةً له،إِذْعاث فيها فسادًا وخرابًا في مرحلة الربيع العربي .. كما لم ينجح الإسلام السياسي في الخليج العربي وفي مصر وتونس والمغرب، والسودان، والأردن، والعراق، والجزائر، مع اختلاف التواريخ، في تحقيق الديموقراطيّة والحرِّية والعدالة وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصاديّة، والوحدة… وهي جميعاً مَطالِب كلّ فرد عربي.
ومثلما فشلت السياسة العربيّة القوميّة والثوريّة والعسكريّة من قبل، فشل الإسلام السياسي في تحقيق آمال وأهداف المُواطن العربي والدولة القطريّة والأمّة، بل إنّ الاسلام السياسي زرع في الوطن العربي المجموعاتٍ الإرهابية و التكفيرية مثل “القاعدة” و”داعش”،التي تحولت إلى جيش من المرتزقة في خدمة أهداف المشروع الإمبريالي الأمريكي-الصهيوني-التركي -الخليجي القائم على تفكيك الدول الوطنية في كل من سورية و العراق وليبيا ومصر،والجزائر ، وتقسيمها على أساس طائفي ومذهبي وعرقي.
خاتمة:
جاءت جائحة كورونا لتؤكد أن الدولة القطرية العربية ليست قادرة صحيًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا لمواجهة أزمة كوفيد-19،بل إنَّ وباء كورونا كشف ،وعرّى ،وأعلن فشل نظام العولمة الليبراية ،بل إنَّ شِدَّةَ الْأزْمَةِ وردِّ الْفِعْلِ الْحِمَائِي لِلدُوَلِ صَبَّ في صالح الدولة القومية على حساب العولمة.
فالشيء الوحيد المؤكد في هذه المرحلة هو أنَّ الفيروس العالمي هاجم بشكل خطير أسس النظام الدولي المهتزة بالفعل الذي ترسب منذ القرن العشرين،وأكّدأيضا فشل الدولة العربية القائمة من كونها دولة رأسمالية طرفية تشكل “رأس جسر” للبرجوازية الامبريالية في المراكز الرأسمالية المتقدمة، ومفوضة ووكيلة للشركات المتعددة الجنسيات، والرساميل الدولية،وتلبي المتطلبات لسيرورة التراكم الرأسمالي المندمجة في نطاق السوق الرأسمالية العالمية،بقدر ما تتقاطع مع سيرورة ضمان سلطة الأقلية المهيمنة التي لا تعبر عن الوعي الوطني والقومي،والمصالح الوطنية والقومية لمجموع الأمة،وتفتقر إلى سياسة عقلانية، تلبي موضوعياً المصلحة الوطنية أو القومية.
جائحة كوروناالتي أكَّدت هزيمة النيوليبرالية ،تُشَكِّلُ فرصةً تاريخيةً للطبقات الوسطى والشعبية في الوطن العربي التي تملك مشروعاً ثورياً وشمولياً، وتاريخياً لإنجاز ثورة ديمقراطية جذرية لإعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة، والتأكيد عليها في مواجهة البنى التضامنية (من المؤسسة الدينية، والعائلة والعشيرة، والطائفة وتحالف الملاك والتجار)،التي تشكل أساس الدولة التقليدية، حيث أنَّ مهام هذه الثورة القومية الديمقراطية تتمثل في تحقيق الاندماج القومي كشرط لازم، للتقدم، وتسييس الشعب العربي لتكوين حركات شعبية وأحزاب سياسية تصبح متورطة بشكل مباشر في النشاط السياسي العام، عبر الخوض في قضايا سياسية عامة وطنية وقومية، تؤثر على المجتمع ككل، وتنقل الوعي الديمقراطي الجديد إلى صفوف الشعب، وتشكل في الوقت عينه محرك سيرورة بناءأنموذج جديد من التنمية قائم على بناء الاقتصاد الاجتماعي .
إنَّ الشرط المؤسِّس لنجاح أيّ شكلٍ من أشكال إعادة بناء الدولة الوطنية العربية ،يتمثل في تتبنى الطبقات الوسطى و الشعبية في الوطن العربي فلسفة الاشتراكية الديمقراطية التي طبقت بنجاح في العديد من البلدان الأوروبية (مثل ألمانيا والنمسا)، إلى جانب دول الشمال الأوروبي (مثل الدنمارك وأيسلندا والنرويج والسويد وفنلندا) والتي تتبنى نظام الرفاهية الشاملة والمفاوضة الجماعية على المستوى الوطني، مع نسبة عالية من القوى العاملة النقابية، وفي الوقت نفسه، تقوم على الأسس الاقتصادية لرأسمالية السوق الحرَّة، وتتبنى شكلا من “الرأسمالية الماركسية “ذات الطابع الإجتماعي .
والحالة هذه، يمكن أن تتبنى الدولة الوطنية العربية النموذج الاشتراكي الديمقراطي أو الشمال الأوروبي صاحب الفرصة في عالم ما بعد كورونا، لكي ترتقي بالحالة القطريّة في أي بلد عربي إلى مستوىً عالٍ من الاستقرار السياسي والاقتصادي القائم على اكتساب الفرد العربي في كلّ قطر،حريّته وحقوقه السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. هذا البناء للإنسان العربي يجب أن يكون الأساس الذي يقوم عليه هيكل الدولة الوطنية ،فهي من هذه الزاوية دولة ديمقراطية اجتماعية بمعنى كونها دولة المجتمع التي يشعر كل مواطن بأنها صورته السياسية وملاذه، وضامن حقوقه، وحرِّيته.