اختارت الغالية إطلالة الفجر وتفتح الأزهار وانتثار الندى لكي تودعنا بابتسامة وادعة وتنام طويلا ولا ترحل ، وكنت قبل ساعات من رحيلها قد أمسكت بيدها مترجياً أن لاتغيب وقلت لها همساً وبقلب محب : حتى وإن شاء القدر أن ترحلي فأنت من النساء اللاتي يستقررن في الكيان والضمير ، وقد ترحلي ولكن رائحة إنسانية منك سوف تبقى تهب علينا وتفوح في دواخلنا وفي كل زاوية ومكان .
وكانت “هدى” قد جاءت للحياة بداية ربيع واختارت نهاية ربيع لترحل وكان ذلك امتيازا إنسانياً لها أن تختار الزمان الجميل لتكون والزمان النديّ لترحل ، وليس ذلك امتيازا فريدا لها إذ أنها نثرت بين الزمانين كل ماهو انساني وجميل وألقاً من نوع مختلف وجمالا فائضاً في الروح والخلق والصبر ورفيع المزايا وأختارت أن تكون إلى جانب الحياة المخصبة وليس الحياة الرتيبة وبقيت كما قال لي طبيبها مثالا غريباً في الصمود والاحتمال واستعدت للموت بأسلحتها الثقيلة ، ووددت لو أقول اعتدادا بها أن لا أحد غيري يعرف أسلحة هدى التي واجهت بها الحياة وتعودت على إشهارها وقت الشدائد .
سوف أحتار بعدها في التعامل مع المكان والزمان ، وأنا أراها وسأراها راسخة مستقرة فيهما ، وسوف أحار في كيفية تحويل هذا الغياب المحزن والقاسي إلى حضور مديد ، وسوف يفتقدها الربيع كلما تفتحت زهرة وولد الندى ، وسوف تبقى تحدث أخبارها وتطل علينا وعلى الناس بهذه الذكريات الباقية بعد أن أبقت لكل من عرفها حصة من المحبة والمودة وطيب المعشر .
اشتاق إليها الأحفاد وبكوها بحرارة بعد أن بدأت تدربهم على الشيم والشمائل النبيلة التي اعتادت عليها وتعودها الناس فيها ، وعرفوا فيها الصبر وتلبية النداء وهذا الاحتضان الغريب الذي يدمجهم فيها ويولّد فيهم محبة عميقة وراسخة ، قلت لهم لا تحزنوا فقد تركت رائحتها داخل أرواحكم وبذرت بذرتها فيكم فاجعلوا جدتكم تولد فيكم دائماً واجعلوها باقية فيكم ومعها أسلحتها الإنسانية النبيلة وروحها الشفافة ولا تنسوا أن تحتفوا بها كلما أطل الربيع ونيسان .
طلبت وهي الوفية والمخلصة لكل الناس أن يمر رفاتها على أهلها وأن تودع صاحب البيت الرجل الجليل النبيل والدها ووالدتها وأخوتها وأخواتها والأشجار التي جلست تحتها والفضاء الإنساني والأخلاقي الذي رعاها وأخرجها إلى الحياة ، وأحبت وداع كل الأشياء التي أحبت ، ورأيت أشجار دار أبو سليمان تنحني وتمد يديها لتسلم عليها بمهابة وإجلال وحزن كبير .
سوف نبقى نراها بهذا التاريخ الإنساني المحبب العميق وسوف تبقى واقفة أمام عقلنا وأرواحنا ، أنا وأسيل وفاتن وأحمد ومحمد وسوف ننحني على قبرها كلما عنّت لنا الطيبة والحنان والتسامح وسوف نتذكرها لا بد كل ربيع لأنه زمن ميلادها وزمن رحيلها .. والأحبة لا يرحلون .
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال