الأحزاب السياسية وسلطة إعادة التوزيع في الدولة اللبنانية
بقلم : تامبراس فاخوري*
قام المركز اللبناني للدراسات باستطلاع رأي خبراء بارزين للإجابة على سؤال واحد: “هل ستؤدّي الأزمة المالية التي ازدادت حدّتها مع فيروس كورونا الى تعزيز سلطة الأحزاب السياسية الحاكمة في لبنان أو ستخفّف من سلطتها؟” ندعوكم لقراءة وجهات نظرهم المختلفة في الأيام القليلة المقبلة.
للوهلة الأولى، قد يُخيّل لنا أنّ نضوب الموارد الاقتصادية واحتجاجات عام 2019 على مصداقية السياسات الاستغلالية التي اعتمدتها الأحزاب، ستدفع بالأحزاب السياسية الحاكمة في لبنان الى التراجع خلال المرحلة المقبلة. وقد يُخيّل لنا أيضًا أن قدرتهم على التصرف كمسؤولين عن إدارة الأزمات وكمستنبطين للحلول وكمصادر لتوفير الخدمات في زمن فيروس كورونا ستتأثر سلباً. لكن القضية ليست بهذه البساطة.
في الواقع، قد يساهم هذا المنعطف الحرج في تمتين قاعدة نفوذهم. ففي سياق تسوده التبعية الاقتصادية وضعف المواطن، من المرجح أن يتسبّب فيروس كورونا الذي فاقم الانهيار الاقتصادي في لبنان الى إعطاء دفع أكبر لشبكات المحسوبية الخاصة بالأحزاب السياسية ولقدرتها على لعب دور “الحاكم” و”المنقذ” في زمنٍ تتعثّر فيه الحلول الوطنية.
من شأن تحليلٍ تاريخ الأحزاب السياسية في لبنان إعطاء لمحة عن الدورات المتعددة للسلطة التي حافظت من خلالها على نفوذها، والأهم من ذلك، سمحت لها بتبرير سيطرتها على الموارد الاقتصادية من ناحية، وعلى إدارة الأزمات من ناحية أخرى.
لطالما كانت الأحزاب السياسية، منذ نشأة لبنان، جهات فاعلة حكومية وغير حكومية على حد سواء شغلت وظائف مختلفة. فقد ادّعت أنها تمثّل دوائرها الانتخابية في المجالس التشريعية للدولة، كما فاوضت أيضًا وبشكل غير رسمي على صفقات السلام، ووفّرت الوظائف وخدمات البنية التحتية لأتباعها. وطوال الحرب الأهلية في البلاد، أعاد البعض تنصيب نفسه كوصي على الإقطاعيات فخلق أنظمة مالية بديلة واقتصاديات حرب لضمان بقائه وبقاء جماعته.
على هذه الخلفية، اضطلعت الأحزاب السياسية بوظائف مهمة في صميم ما نسميه “سلطة الدولة في إعادة التوزيع”، والمعروفة عمومًا في الديمقراطيات الفعلية بأنها سلطة تحويل الأموال من الأغنياء إلى الفقراء. لكن في لبنان، أعادت هذه الأحزاب السياسية صياغة هذا المفهوم ليتحوّل إلى سلطةٍ تنقل – أو تحجُب – الموارد الاقتصادية بطريقة تضمن هيمنتها، وبالتالي، استقرار النظام الذي تدّعي وصايتها عليه.
في ما يلي ثلاث طرق معقدة نجحت من خلالها الأحزاب السياسية في إدامة سيطرتها على سلطة إعادة التوزيع وإعادة نشرها في زمن كورونا المليء بالتحديات:
أولاً، تاريخياً، وطّدت عملية وصولها إلى الموارد من خلال إقناع دوائرها الانتخابية بأن دولة صغيرة مثل لبنان فيها موارد قليلة وقدرات صناعية محدودة، لا يمكنها البقاء إلا بوجود سياسة عدم التدخل في الاقتصاد حيث تجيد الأحزاب السياسية الحاكمة كيفية تقسيم “الموارد النادرة” بين الجماعات على اختلافها. وفي هذا الصدد، تتشابك حياة المواطنين اليومية بشكل وثيق مع الممارسات الليبرالية المتجددة للأحزاب السياسية.
ثانياً، اعتمدت الأحزاب السياسية اللبنانية للوصول إلى سلطة إعادة التوزيع هذه من خلال وسائل كالتسنيد والاستحواذ. وفي خلال العديد من الأزمات ذات الطبيعة المالية والجيوسياسية، نشرت روايات مفادها أن لبنان دولة مقسمة متعددة الطوائف معرّضة للاضطرابات وللحرب الطائفية. وقد حاجج قادة الأحزاب السياسية أن من مصلحة دوائرها الانتخابية الإبقاء على الوضع كما هو تجنّباً للمشاكل.
ثالثًا، اعتبرت الأحزاب السياسية التقليدية أن تشجيع إصلاح النظام السياسي قد يؤدي إلى صعود الجماعات ذات الأغلبية الديمغرافية. حيث من شأن ذلك أن يهدد الميثاق الوطني الهش الذي يعود الى عام 1943. وفي أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011 وثورة لبنان عام 2019، روّجت الأحزاب الحاكمة للسردية القائلة بأن الثورات وتغيير النظام ينطويان فقط على مخاطر قد تُسيء الى التعايش الاجتماعي في لبنان.
خلاصة القول، من خلال نشر مجموعة من السرديات الخطابية والجيوسياسية والأمنية، حرصت الأحزاب السياسية على تأمين قبضتها على الموارد الاقتصادية من خلال ممارسات سياساتية وخطابية معقدة.
في هذا الوضع السائد، خلقت الجائحة لهذه الأحزاب تربة خصبة لتعود فتحيي وتشدّ قبضتها على التركيبات الاجتماعية والاقتصادية. عندما تفشى الوباء في لبنان، اتّضح جلياً أن بنى الدولة وخدماتها، لا سيما في مجال الرعاية الصحية والخدمات الطبية، تكاد تكون معدومة. فسارعت الأحزاب السياسية لتنصّب نفسها كأطراف مسؤولة عن إدارة الأزمات يمكنها التدخل وتوفير سبل العيش والحماية لجماعاتها. وفي سياق غابت عنه سياسات الرعاية، تنافست على تقديم التبرعات وإنشاء شبكات للأعمال الخيرية. كما أعاد البعض تنشيط جناحه الطبي وشبه الخيري ضمن ما يُسمى بالجهود لملء “فراغات الحكم” في الدولة.
إن تفكيك ممارسات الأحزاب السياسية اللبنانية والكشف عنها وتعطيلها من خلال الكتابات على الجدران والشعارات والبيانات يُعد إنجازاً رئيسياً حققته ثورة لبنان حتى الآن. ولكن، يبقى التحدّي الأبرز في إنشاء آلية بديلة قابلة للتطبيق ومستدامة لسلطة إعادة التوزيع. وتزداد هذه الضرورة إلحاحاً في زمن الانهيار الاقتصادي الذي تفاقم بسبب جائحة مدمّرة.
*أستاذة مساعدة في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية، ومدير معهد العدالة الاجتماعية وحل النزاعات. @tamyfakhoury