الغناء والإنشاد بين عرف أهل الفن وغلو أهل الرفض
بقلم : د. نضير الخزرجي*
لطالما أكثر الفنانون وبخاصة في مجال الموسيقى والغناء من انتقاد موجة الأغنيات والتقليعات الموسيقية التي غزت الساحة الفنية وتلقفتها الطبقات الشعبية تلقف الطفل للجمرة، وهي القائمة على الموسيقى الصاخبة والكلمات المائعة، والتي تستثير في المستمع غرائزه وتفقده توازنه العقلي والبدني، ولطالما رأيتم ورأينا من يقود السيارة وهو لا يستقر على مقعده كأن تحته شيطان يغرز فيه قازوقه وقد رفع من صوت المذياع أو الإسطوانة حتى لكأن السيارة بكاملها تهتز وهي كذلك وتهز معها السيارات التي تمر بجانبها أو تعترضها، وتصك الأغنية الصاخبة آذان من يقف على بعد عشرات الأمتار.
ولطالما سألت نفسي وأنا أرى مثل هذه المشاهد الغريبة: كيف يستذوق هذا المتشذي على مقود سيارته سماع هذا الفن النشاز؟ وصار عنده صك الأذن وضربها بمطرقة النوتات الماجنة بديلا عن تشنيف الأسماع بما هو مباح وزيادة الإمتاع في كل مساء وصباح.
ولكن أعود وأقر أن لا معنى للإستغراب لأن الرجل واقع تحت تأثير موسيقى عالية النوتات وأغنية مرتفعة الترددات حالت بينه وبين عقله واستقرار بدنه، وهو كالذي يقع تحت تأثير الخمرة وهو يقود سيارته لا يقر له قرار، وأنّى له ذلك وقد التبس عليه الأمر وألبسه الشيطان جلباب المجون وصار إلى المنون أقرب ولا هم يحزنون.
فأهل الفن ينتقدون هذا النوع من الصحيات الغنائية، لأنهم يدركون بذائقتهم السماعية الفنية أن الغناء المتموسق على غير سجية والفاقد للروحية خرج عن مسار الفن الرفيع وتجاوز حدود الذائقة الفنية، وإذا قال أهل الفن قولتهم فهم أهل الحجة والبيان، وهم فيما يفتون في الفن بما آل كالمفتي إذا أفتى وقال والطبيب إذا شخَّص الحال.
ولكن ماذا عن فتيا أهل الشرع؟
هذا السؤال الذي ربما يعتبر غريبا على شباب اليوم بلحاظ شيوع فن الموسيقى والغناء بحيث صار جزءًا من حياتهم اليومية، يجيب عليه الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في الكتيب الجديد الصادر نهاية العام 2019م في 48 صفحة من القطع المتوسط عن بيت العلم للنابهين في بيروت وضمَّ 76 مسألة فقهية و41 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وقد تصدر الكتيب بكلمة للناشر وأخرى للمعلِّق وثالثة للكرباسي مهّد فيها لشريعة الغناء.
الغناء ومصداق اللهو
يعتبر الغناء واستعمال آلات الموسيقى، من التراث القديم الذي كان سائدًا في العصر الجاهلي وكان معروفا لدى الإمبراطورية الرومانية ولدى المجتمع المسيحي، وقد اشتهر لدى العرب غناء حدي الإبل والترنم بالشعر وبخاصة المعلقات، وكانت آلات اللهو محدودة كما كان الغناء ديدن النساء بشكل عام والترنم بالشعر ديدن الرجال، وأخذ الغناء طريقه الى المجتمع المسلم في العصر الأموي وازداد في العصر العباسي.
ولم ترد في القرآن الكريم صراحة كلمة “الغناء” برسم حروفها إلا بالمعنى كما في قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) سورة لقمان: 6، وقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) سورة الحج: 30، حيث فسّر المعصوم “لهو الحديث” بالغناء وكذلك “قول الزور”، من ذلك قول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): “الغناء مما أوعد اللَّه عزَّ وجل عليه النار، وهو قوله عزَّ وجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ….)”، وكذلك وصفه عليه السلام لقول الزور بالغناء.
فالغناء في اللغة هو الصوت، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (يقال غنّى أي صوَّت كما يقال غنّى الشعر أو بالشعر إذا ترنَّم به بالغناء، والغناء من الصوت ما طُرب به، وفي مصطلح الفقهاء هو إنشاد الشعر بترجيع الصوت الصادر عن حنجرة الإنسان ومدّه بشكل يوجب الطرب سواء كان في قول باطل أو قول حق بأي لغة كانت)، فالغناء بتعبير أهل الفن هو رفع الصوت وموالاته أو التطريب والترنم بالكلام، ولما كان الشعر قائما على الوزن والقافية والروي ومحسنات الألفاظ وبديع الصور فهو المادة الأولى للغناء وجوهره، وقد دأب الإنسان على التغني به والترنم بألفاظه الموزونة والمقفاة والمسجّعة، ومثلما استعمل الكهّان بديع الكلام المسجَّع والمقفى في استمالة الناس إليهم لحملهم على التصديق بألغاز نبؤاته، كذلك استعمل المغني ذكرا أو أنثى الكلام المقفى والمنمق في ترنيمه واستمالة الآخرين إليه.
وكيف يتحقق الغناء؟
يضيف الفقيه بقوله: (لا شك أنَّ الغناء إنما يتحقق بالصوت الخارج من حنجرة الإنسان ولكن بصورة معينة مما يوجب الطرب، أي شدة الحزن أو الفرح، بمعنى حصول النشوة الروحية مائلة إلى إحدى طرفي الحالة النفسية بشكل مفرط، وفي الواقع هو تلاعب بالصوت ونغماته بمد وترجيع وارتفاع في نبراته وانخفاضه والتحكم في حركاته وسكونه والتنسيق فيما بينها وفي طول المد وقصره بشكل متوازن بالإضافة إلى غلظة الصوت وتليينه، وتحسين أدائه في بعض الأحيان حسب ما يتطلبه وفق قوانين يعرفها أهل الفن)، فالمعيار في الحرمة والحلية هو الطرب والتطريب الذي يعبر عنه بخفة العقل بما تخرج المغني او المستمع إليه من حد التوازن والإعتدال، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (إنَّ الإعتبار هو ما يذهب إليه أهل الفن والذي يجمع بين الترجيع والمد والتحكم في إخراج الصوت ورفع أوتاره وانخفاضه ودرجات المد والإنخفاض والإرتفاع معًا وهو ما يسمى بالغناء، وهذا هو الذي يوجب الطرب ويسيطر على النفس الأمّارة بالسوء ويخرجها من حالتها الطبيعية ولا تخضع آنذاك للإرادة)، وعلى هذا فإن إنشاد الشعر مع تحسين في الإلقاء والذي فيه إراحة للنفس وإمتاعها يستثنيه من الغناء المطرب المخرج للإنسان عن مائز الإعتدال، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (وما ورد في الشريعة هو قول الزور واللهو في الحديث، وهما منصرفان إلى المضمون الذي يحتويه الإنشاد، فإن كان مضمون الشعر قولًا باطلًا كما لو كان فيه ما يحكي عن الأمور المثيرة للشهوة الجنسية أو التغزل بالنساء وما إلى ذلك، أو كان في ذلك مدح للظالم أو تشجيع للمحرَّمات فهو من قول الباطل، واما لهو الحديث فالمنصرف منه ما صرف الإنسان عن ذكر الله وأبعده عن طاعته)، إذًا: (فالمقصود بحديث اللهو وقول الزور هو الغناء فهو من الباطل الذي لم يُرض الله سبحانه وتعالى، وهو من اللهو المحرَّم).
الغناء والعرف الفني
يجمع أهل الفن فضلا عن فقهاء الشريعة أنَّ من الغناء المصاحب للموسيقى الشاذة ما يكون مدعاة للإنحراف والخدش بنفسية المتلقي وروحيته تدفع به عن آدميته ليس أقل في زمن استماعه وخروجه عن ميزان الإعتدال، وحتى لا يصل الإنسان إلى هذا المستوى من التدني الروحي، وردت الأحاديث الناهية عن الغناء، ومن ذلك قول الرسول الأعظم (ص): (إيَّاكم واستماع المعازف والغناء، فإنَّهما يُنْبِتان النِّفاق في القلب، كما يُنبت الماءُ البقل)، ولبيان دعوته قال رسول الإسلام (ص): (إنَّ اللَّه بعثني رحمةً للعالمين، ولأُمْحِقَ المعازف والمزامير، وأمور الجاهلية)، وذات مرة سُئل الإمام محمد بن علي الباقر (ع) عن الغناء، فقال عليه السلام للسائل: (ويحك إذا فُرِّق بين الحق والباطل، أين ترى الغناء يكون؟ قال: مع الباطل والله جُعلت فداك. قال عليه السلام: ففي هذا ما يكفيك).
والغناء في روايات المعصوم دافع للدعاء وجالب للبلاء، فقد ورد عن الرسول الأعظم (ص): (بيت الغناء لا تُؤمن فيه الفجيعة، ولا تُجاب فيه الدعوة، ولا يدخُلُه الملك)، بل ومن علامات البلاء كما يؤكد رسول الرحمة: (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، فقيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: إذا كان المَغْنَمُ دُولًا، والأمانة مَغنمًا، والزكاة مَغرمًا، وأطاع الرجلُ زوجته، وعقَّ أمَّه، وبرَّ صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيمُ القوم أرذلَهم، وأُكرم الرجل مخافة شره، وشُربت الخمور، ولُبس الحرير، واتخذت القَيْنات والمعازف، ولعن آخرُ هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، أو خسفًا، ومسخًا).
ولكن للغناء علامات وشروط، ومن ذلك كما يشير الفقيه الكرباسي: (أن يخرج من الحنجرة، وأن يكون فيه ترجيع، وأن يوجب الطرب)، والمراد بالطرب: (الطرب أعمّ من الحزن والفرح، والمهم في الطرب التأثير في النفس بحيث يخرجها من حالتها الطبيعية)، والطرب مناطه العرف وعامة الناس: (فمن طرب هو محرّم، ومن لم يطرب فليس بمحرّم، بل هو عرفي، فلو لم يكن لشخص إحساس فلا يُعتدُّ به) وبهذا السياق: (إذا أخرج الصوت من غير الحنجرة وإن كان مطرباً لا يسمى غناءً)، ، نعم: (إذا أخرج الصوت من آلة فلا يُعد غناءً، وإن حرم بسبب آخر)، وعلى هذا المنوال: (إذ أخرج الصوت من الحنجرة ولم يكن فيه ترجيع فلا يعد غناءً وإن كان مطرباً كما لو خرج من حنجرة فتاة ناعمة الصوت حسنة، وإن حرم على فرض المثال فليس لأنه غناء)، وكذلك: (إذا خرج صوت من الحنجرة وكان فيه ترجيع ولكنه لم يكن مطربًا فليس بمحرّم)، وعليه: (الصوت الحسن ليسس بغناء وليس محرَّما)، من هنا: (قراءة القرآن بالترتيل لا يعد غناءً) أو التجويد الحسن بحيث لا يصل حد الطرب، على أن الفقيه الغديري يرى أن: “الطرب يلاحظ بحسب نوعه في جميع الموارد، فيحرم استماع قراءة القرآن إذا كانت توجب الطرب بوجه”.
وماذا عن النشيد والإنشاد؟
يضيف الفقيه الكرباسي بقوله: (قراءة الأشعار والمدائح بشكل النشيد لا يُعد من الغناء)، ومثل ذلك: (إن قراءة مجموعة معًا بعض الأشعار وبنسق واحد وهو الذي يقال له بالنشيد فليس بمحرَّم إن لم يحتوي على محرّم أو لم يرافقه محرَّم آخر)، ومثل ذلك فإن: (قراءة كل غرض من أغراض الشعر بلحنٍ خاص لا يحوِّله إلى غناء، فقراءة أشعار الرثاء بشكل شجي، وقراءة أشعار المدح بروح الفرح، أو قراءة شعر الحرب بروح حماسية كل ذلك حلال وليس بغناء، وليس حليتها من باب الإستثناء بل لعدم صدق الغناء عليها)، والأمر عائد للعرف العام: (العرف الذي يعتمد عليه ليس هو عرف المتزمِّتين بل عرف أهل الخبرة والفن)، فالمتزمتون الذي يرون كل جديد حراما وينغصُّون على الناس فرحتهم وسعادتهم لا يُعتد برأيهم، ويضيف الفقيه الكرباسي: (إذا كان العربي لا يطرب من غناء الهنود فلا يُعدُّ غناءً في العرف العربي والعكس صحيح أيضا) على أنَّ: (الغناء لا يختص بلغة دون أخرى، فالإستماع إلى الغناء بأي لغة كان فهو محرَّم، كما أن الغناء يحرم على لغة المغني، كذلك يحرم على لغة غير المغني)
وإذا كان شبه إجماع المدارس الفقهية على حرمة الغناء مع آلات الطرب، وحليته عند البعض القليل من دون آلات طرب، وكراهيته عند أكثر المذاهب الفقهية مجردًا من آلات الطرب، فإن الغناء يأخذ في بعض الموارد موقع الخمر كدواء، ولهذا يرى الفقيه الكرباسي: (إذا أصبح الغناء علاجًا، فإذا انحصر العلاج فيه فيحل للمعالج والمريض ذلك دون غيرهما).
وهناك مسائل أخرى تناولها الفقيه الكرباسي كلها تدخل في باب الغناء من الحرمة والحلية، منتقدا بعض الروايات المتعلقة بالغناء والتي تطعن بشخص الرسول (ص) وحرمته من حيث يراد مدح الصحابة وتجليلهم، مع تعليقات مستفيضة، ولأن الحكيم لا يصدر منه إلا الحكمة المتعالية التي فيها خير البشر بما أفاض ونشر، فإنه إن أحلّ أمرًا أو حرّمه، لأن في الأول يرشح عنه طيب وطيبات وفي الثاني رجس وخبائث، وبتعبير الفقيه الغديري: “في أوامره جهة خير وسعادة، وفي نواهيه جهة شر وشقاوة، فما من حكم من الأحكام في الشريعة الإسلامية الغراء إلا وفيه تلاحظ المصالح والمفاسد العامة والخاصة، المعنوية والمادية، الدنيوية والأخروية، الثابتة والمؤقتة، العلمية والعملية”، والإنسان في هذه الدنيا يدور مدار الخير والشر: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) سورة الشمس: 7- 10.
*الرأي الآخر للدراسات- لندن