الرئيس سَعيَّدْ مِنْ دُونِ بَرْنَامَجٍ وطنيٍّ لِمُحَارَبَةِ وَبَاءِالْفَسَادِ

في ظل أزمة الوباء المنتشر على صعيد عالمي،وباء كورونا،أوما يطلق على تسميته علميا وباء كوفيد 19، الذي أدخل الرعب والإضطراب في كل الدول الصناعية المتقدمة والدول الفقيرة على حدٍّ سواء.
اجتمع مجلس الأمن القومي التونسي برئاسة الرئيس قيس سعيَّدْ في قصرقرطاج يوم الثلاثاء 31مارس 2020،وهي المرة الثالثة على التوالي التي يجتمع فيها خلال شهرٍواحدٍ،ليعلنَ عن المزيد من القرارات والإجراءات جلّها تهدف إلى دعم جهود الحرب على تفشي فيروس كورونا في تونس، الذي أصاب (أكثر من400شخص) كما أوْدَى بحياة 10ضحايا منذ الإعلان عن أول إصابة به يوم الثالث من شهر مارس/آذار الماضي.
وفي هذا الاجتماع الأخير ألقى رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيَّدْ كلمة ،تحدث فيها بشكل خاص عن امتناع عدد من رجال الأعمال والمؤسسات الخاصة على معاضدة جهود الدولة في حربها على هذا الوباء، حين دعا إلى التفكير في خطة يتم فيها إجبار رجال الأعمال المتورطين في الفساد إلى المساهمة في المجهود الحربي للدولة، وضرورة استرجاع أموال الشعب بإبرام صلح جزائي مع المتورطين في الفساد تحت إشراف لجنة وتوزيع هذه الأموال على الجهات بشكل تفاضلي من الأكثر فقرا إلى الأقل فقرا..
لا شك أنَّ هذا المقترح المقدم من قبل رئيس الجمهورية في اجتماع مجلس الأمن القومي ،ليس مقترحًا جديدًا،بل هو يعود إلى اقتراح قدَّمه في سنة2012 ،ويتمثل في إبرام صلح جزائي مع من تورطوا في قضايا فساد مالي،علمًا أنَّ الصلح الجزائي منصوص عليه في أكثر من نص قانوني،ويكون ذلك في إطار قضائي،ثم يتم ترتيب المعنيين ترتيبًا تنازليًا بحسب المبالغ المحكوم بها عليهم.ويتم ترتيب المعتمديات ترتيبًا تنازليًا من الأكثر فقرًا إلى الأقل فقرًا،ويتعهد كل محكوم عليه بإنجاز المشاريع التي يطالب بها الأهالي في كل معتمدية (طرق،مؤسسات استشفائية، مؤسسات تربوية…) وذلك تحت إشراف لجنة جهوية تتولى المراقبة والتنسيق.
ولا يتم إبرام الصلح النهائي إلا بعد أن يقدم المعني بالأمر ما يفيد إنجازه للمشاريع في حدود المبالغ المحكوم بها عليه.
وكانت الحكومة التونسية برئاسة السيد إلياس الفخفاخ قد أعلنت تخصيص مبلغ 2500  مليون دينار(حوالي 830مليون دولار) من ميزانية الدولة لتوفير النفقات المختلفة التي ستترتب عن تفشي فيروس كورونا أبرزها نفقات القطاع الصحي ونفقات مساعدة المؤسسات الاقتصادية المتضررة من الحظر الصحي الشامل الى جانب النفقات الاجتماعية الموجهة للفئات الأكثر تضررًا.
وفي الفترة الأخيرة أعلن الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الافريقي وبعض الدول توجيه مساعدات مختلفة لتونس.. كما أعلنت البنوك المحلية التبرع بمبالغ محترمة إلى جانب التبرعات الأخرى التي تلقاها صندوق 1818.
وتوزعت التمويلات والمساعدات والتبرعات المعلن عنها إلى حد الآن كما يلي:
-* حوالي 785 مليون دينار (260مليون دولار)هبة من الاتحاد الاوروبي
-* حوالي 200 مليون دينار(70مليون دولار) هبة أخرى من الاتحاد الاوروبي لتمويل برنامج ” الصحة عزيزة”.
8-* حوالي 1100 مليون دينار(370مليون دولار) مساعدة من صندوق النقد الدولي
-* حوالي 155 مليون دينار(32مليون دولار) قرض من إيطاليا ( متفق عليه منذ فترة ما قبل كورونا وموجه لمساعدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة) حوالي 112مليون دينار(30مليون دولار) تبرعات البنوك في تونس حسب الجمعية المهنية للبنوك.
ومن المنتظر ان تؤدي الهبات والتبرعات والمساعدات المختلفة إلى تغطية مبلغ 2500 مليون دينار الذي خصصته الحكومة. غير أنَّ ذلك قد لا يكفي في ظل توقعات بتواصل الأزمة و في ظل تواصل ارتفاع حجم التداعيات السلبية المترتبة عنها وأيضا ارتفاع حجم احتياجات القطاع الصحي.وهو ما يحتم على الحكومة مزيد الاستعداد لتعبئة موارد أخرى في الفترة القادمة. ويامل المراقبون في أن يقع توجيه هذه الاعتماداعات  فعلاً إلى القطاع الصحي ولمساعدة كل من تضرر من الازمة وليس انفاقه في مجالات أخرى….

هل يشكل اقتراح قيس سعيَّدْ فرصة للمصالحة مع الفاسدين؟
يُعَدُّ ملف محاربة الفساد ملفاً مفصلياً في نجاح أي حكومة ما بعد الثورة.فالمراقب للوضع السياسي التونسي يلمس بوضوح أنَّ الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الترويكا السابقة بقيادة حركة النهضة(2011-2014)،أم في عهد رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد (2016-2029)،لم تبلورخطة حقيقية لمقاومة الفساد،وإقرارالحوكمة الرشيدة ،بل إنَّ جميعها همشتْ ملف الفساد.فالأحزاب المكونة لحكومة الترويكا السابقة،أوالتي تشكلت منها حكومة الحبيب الصيد،وحكومة يوسف الشاهد السابقتين،لم تطرحْ في برامجها السياسية  مسألة محاربة الفساد كمسألة محورية،وإن كانت تدرج هذا الملف ضمن شعاراتها الانتخابية.
و الحال هذه أصبحت الحكومات المتعاقبة الثماني منذ تشكلها في سنة 2011 ولغاية 2020 فاقدة لكل إرادة سياسية لمحاربة الفساد،لأنَّ الأحزاب الموجودة في صلبها تتجَّنَبُ الإحراجَ في طرح هذا الملف نظرًا لعلاقتها بالمال السياسي الفاسد،وأيضا لعلاقتها برجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد.وكان ملف رجال الأعمال النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة .
يذكر بهذا الصدد قائمة رجال الأعمال وتضمُّ 126 شخصًاتحصلوا على حوالي 7000 ملايين دينار(أي حوالي 6مليار دولار)من البنوك العمومية التونسية ،ولم تسترجع إلى اليوم.وكان الرئيس قيس سعيَّد تقدم تقدم في سنة 2012بمقترح إلى عدد من المنظمات من بينها برنامج الأمم المتحدة للإنماء حول القيام بمصالحة مع رجال الأعمال المورطين في قضايا فساد في العهد السابق يهدف إلى تمويل مشاريع تنموية في عدد من الجهات،واقترح كذلك أن تقوم الدوائر المتعلقة بالفساد الإقتصادي والإداري في الهيئة العليا للعدالة الإنتقالية بمراقبة الإستثمار في هذه المناطق وعلى أساس الترتيب التفاضلي للمعتمديات وعددها 264 معتمدية من الأكثر إلى الأقل فقرا وترتيب ثاني يخص رجال الأعمال سيقع توزيع المشاريع التنموية على الجهات من طرف رجال الأعمال . وفي نفس السياق أفاد قيس سعيد أن مصدر حكومي أكد له أن المبلغ المطلوب من 460 رجل أعمال ممنوع من السفر يتراوح بين 10 و13.5 مليار دينار (حوالي 10مليار دولار)أي ما يناهزأقل من نصف ميزانية تونس .
إنَّ التركيز على موضوع المصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين في هذا الظرف السياسي والتاريخي الذي تمر فيه تونس، ليس بريئاً لأسباب داخلية وأخرى خارجية. فحزب “نداء تونس” وزعيمه التاريخي السيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية التونسية السابق وقع في الخطأ التاريخي عينه الذي وقعت فيه حركة “النهضة” الإسلامية عندما استلمت السلطة عقب انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وهو عدم إدراك أنَّ الشعب التونسي الذي صنع ثورته،وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد،وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي التي أدّت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة،وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة التي تعد أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس.
لا يختلف طرح الرئيس قيس سعيَّدْ القديم-الجديد فيما يتعلق باسترداد الأموال المنهوبة من قبل رجال الأعمال الفاسدين خلال حكم النظام السابق عن قانون “المصالحة الاقتصادي” الذي طرحه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ،بوصفه رديفاً طبيعياً لقانون المصالحة السياسية الذي أشرف على رعايته منذ 2013 الرباعي الفائز بجائزة نوبل للسلام،والذي سمح لفئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد،ونهب المال العام ،والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق،والذين في معظمهم ينتمون إلى “حزب التجمع ” المنحل،أن يخوضوا الانتخابات التشريعية في سنة 2014،فركبوا موجة “حزب النداء” الذي أصبح حاكمًا في البلاد في سنة 2015 في إطار سياسة “التوافق” مع حركة النهضة الإسلامية.
وكانت رؤية الباجي قائد السبسي آنذاك للمصالحة الوطنية على طي الملفات الكبرى التي لا تزال موضوع خلاف في المجتمع التونسي، بين فئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق، بما أن “حزب نداء تونس “كان يمثل استعادة لجزء أساسيٍّ من “حزب التجمع” المنحل بنحو 50 نائبًا،إذ ضمَّ الحزب في صفوفه أيضاً رجال أعمال متورطون في قضايا فساد وسياسيون وأمنيون متهمون بالضلوع في قضايا تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان زمن حكم بن علي، وبين طبقة سياسية جديدة استولت على السلطة بعد انتخابات23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وأصبحت تلقب بطبقة “الأثرياء الجدد في زمن الثورة” التي لم تكن لها نظرية للاقتصاد، بل هي انساقت في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية عقب وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008،ولم تقمْ بمراجعة نقدية للأنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائدًا في تونس،حيث وصل إلى مأزقه المحتوم،وأسهمَتْ سياساتها في التساهل والتغاضي عن تنامي ظاهرة الإرهاب و التهريب اللذين اسْتَوْطَنَا في تونس.
لقد تعرض الرئيس قيس سعيَّدْ في إطار ترؤسه لمجلس الأمن القومي إلى فساد فئة رجال الأعمال الذين نهبوا أموالاً طائلةً من البنوك العمومية إبَّان زمن النظام السابق،إذ لم تتمْ مساءلتهم ،ولا محاسبتهم،و لا مصادرة أموالهم و إرجاعها إلى خزينة الدولة،من قبل الحكومات التونسية المتعاقبة، لكنَّه تغاضَى كُلِّيًا في خطابه عن الفساد الذي تغول في زمن حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية(2011-2014)،وما بعدها في ظل ما بات يعرف في تونس بالحكم المعولم بين الشيخين “الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي”(2015-2019).

سعيَّدْ يُغْمِضُ عَيْنَيْه عن انتشار الفساد في ظل حكم الترويكا وظهور”الأثرياء الجدد”
لم يتطرق الرئيس قيس سعيَّدْ في اجتماعه الثالث بالمجلس الأمني القومي لظاهرة الفساد خلال حكم الترويكا وتجربة “التوافق” بين الشيخين ،بينما أجمع عدد من المختصين والعارفين على أنَّ “أثرياء الثورة الجدد”هم في الأساس تجار التهريب وتبييض الأموال إلى حدّ أنَّ أحد المختصين قال إنَّ المجتمع التونسي صار شَبِيهًا بالمجتمع الإيطالي الذي تسيطر عليه المافيات.وأظهر تقرير مؤسسة “ويلث إكس” السنغافورية المتخصصة في جمع المعلومات حول أثرياء العالم وتوزيع الثروة للعام 2013 أي بعد عامين على رحيل نظام بن علي أن عدد الأثرياء في تونس ارتفع بنسبة 16.2 بالمئة مقارنة بالعام 2012 ليبلغ عدد الأثرياء التونسيين الذين يملكون ثروات تفوق المليارات إلى 70 شخصا تقدر ثروتهم معا بـ9 مليار دولار (27مليار دينار تونسي) أي ما يعادل 357 مليون دينار للشخص الواحد ما جعل تونس تحتل المرتبة السابعة من حيث مجموع الأثرياء في القارة الإفريقية .وحسب ذات التقرير فإنّ 25 مهرّبا يتصدّرون قائمة أثرياء تونس كما أنّ تونس تحتلّ المركز الأوّل في المغرب العربي في قائمة أصحاب الثروات التي تتجاوز قيمتها 58 مليون دينار .
ووفق مؤشّرات إحصائيّة احتلت تونس المرتبة الخامسة عالميّا في تبييض الأموال حسب تقرير منظمة الشفافيّة الدوليّة ويعتبر التهريب المتزايد من أبرز أسباب هذه الظاهرة. ولاشكّ أنّ تفشي ظواهر  التهريب وتجارة المخدرات والسلاح والدعارة والتجارة الموازية ينمّ عن غياب آليات المراقبة ووسائل الردع، في ظلّ انتشار الرشوة والفساد.والمؤكد أنّ المنظومة التي نسجوا خيوطها ستتضخّم إذا لم تستعد الدولة سلطتها لفرض تطبيق القانون ولمحاسبة كلّ الذين  أثروا بطريقة غير مشروعة،إِذْ إِنَّ وجودهم يشكل خطرًا على الاقتصاد الوطني.
غير أنَّ الخبراء الماليزيين يقولون إنَّ النسبة العامة للأثرياء التونسيين ارتفعتْ خلال السنوات الأربع الماضية إلى حوالي 20 بالمئة لتستحوذ على حوالي 80 بالمئة من ثروات البلاد، في مجتمع تصل فيه نسبة الفقر في الجهات المحرومة وفي الأحياء الشعبية إلى 70 بالمئة، الأمر الذي يعد مؤشرًا قويًا على أنَّ التونسيين لم يجنُوا من سنوات الثروة سوى حالة عميقة من الفوارق الاجتماعية،والفقر،والبؤس الاجتماعي،في وقت كانوا ينتظرون فيه أنْ تقودَ ثورتهم إلى مجتمع أكثر توازنًا بين فئاته من خلال تأمين الحدِّ الأدنَى من العدالة في تقاسم عائدات الخيرات.
ويرجع الخبراء هذا الارتفاع السريع لعدد الأثرياء في تونس مابعد الثروة إلى “فوضى الاقتصاد المتوحش المنفلت من أية ضوابط”، وهي فوضى انتشرت خلال السنوات الأخيرة نظرا لغياب المراقبة خاصة على الحدود التونسية الغربية مع الجزائر والحدود الشرقية مع ليبيا. ويرتبط “الأثرياء الجدد” بتنامي ظاهرة تهريب الأسلحة التي نشطت بكثافة خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب تهريب المخدرات والمنتجات الصينية، ومختلف المواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية.
ويعرف الخبير الاقتصادي معز الجودي “أثرياء تونس الجدد” بـ”أثرياء التهريب والإرهاب وتهريب السلاح والبضائع الذين “تمعشوا “(استفادوا)من الثورة وضعف أجهزة الدولة الرقابية”.ويشدِّدُ الجودي على أنَّ “هناك مافيا كبرى تعمل في مجال المحروقات وغيرها ومليارات يتم استعمالها لتهريب السلع من الجزائر وليبيا ويستثمرون في تهريب السلع”، مفيدا أنَّ “هذا الاقتصاد الموازي ينخر الاقتصاد الرسمي إضافة إلى أنه يولد الإرهاب والتهريب ويفضي إلى تبييض الأموال”. واحتلت تونس المرتبة الخامسة عالميا في تبييض الأموال، حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية. ووفق تقرير نشره البنك الدولي في كانون الاول/ديسمبر 2013، يتكبد الاقتصاد التونسي سنويا خسائر بقيمة 1.2 مليار دينار (حوالي 1 مليار دولار) بسبب “التجارة الموازية” مع الجارتين ليبيا والجزائر. وذكر البنك أنَّ التهريب والتجارة غير الرسمية يمثلان “أكثر من نصف المبادلات مع ليبيا”.
وتقول السلطات التونسية إنَّ ممارسة التجارة الموازية ضخت خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من 5 مليار دينار (حوالي 2.5 مليار دولار) لفائدة شبكات الإرهاب التي يقودها “الأثرياء الجدد”.أنماط استهلاك تظاهرية مع بروز “طبقة الأثرياء الجدد” اخترقت المجتمع التونسي ظاهرة مايعرف في علم الاجتماع بـ”أنماط الاستهلاك التظاهري” لتتفشى سلوكيات استهلاكية لا تعكس فقط حدة الفوارق الاجتماعية، وإنما تؤجج لدى أكثر من 70 في المئة من التونسيين المنتمين للطبقتين الوسطى والفقيرة نوعا من الحقد الاجتماعي، يرافقه سخط على السلطة السياسية التي خذلت غالبية التونسيين بعد أن ساهمت سياساتها الفاشلة وغير العادلة في تقسيم الخارطة الاجتماعية إلى” ثلاث جزر” كل جزيرة تمثل “مجتمعا قائما بذاته”: “جزيرة الأغنياء” التي تعلو سلم الهرم الاجتماعي، “جزيرة الفئات الوسطى المتآكلة” و”جزيرة الفقراء”الغارقة في مستنقع الدرك الأسفل من الهرم.
خلال أربع سنوات فقط زج الثراء الفاحش بالأثرياء الجدد في أنماط استهلاكية استفزازية بعد أن انسلخوا من “بيئتهم الاجتماعية”،إذ ينحدر 75 بالمئة منهم من فئات اجتماعية متواضعة، نزحوا من أحيائهم السكنية الشعبية ومن الجهات الداخلية ليلتحقوا بأحياء من سبقوهم في الثراء مثل حي النصر وأحياء المنازه الواقعة شمال تونس العاصمة، بل زاحموا حتى العائلات الأرستقراطية التي ورثت الثراء جيلا بعد جيل، خاصة في أحياء قرطاج على ضفاف مياه البحر الأبيض المتوسط، ليسكنوا في فلل فاخرة يتجاوز سعر الفيلا الواحدة 3 ملايين دينار (حوالي 1.5 مليون دولار) فيما يقطن 30 بالمئة من فقراء تونس في “بيوت”غير صحية،ومتواضعة جدَّا.
وكان البنك الدولي نشر تقريرًا مع مطلع سنة 2015،شَخَّصَ فيه وضع البنوك التونسية وأكَّدَ أنَّه بعد 4 سنوات من الثورة لم يتغير كثيرًا لا سيما على مستوى التشريع. واعتبر البنك الدولي أنَّ تحسين كفاءات النظام البنكي تَمُرُّ عبرإعطاء الأولوية لتطبيق القوانين التنظيمية للبنوك بكل دقة وصرامة مع ضرورة تعديل طرق اتخاذ القرار ودور الدولة في الجهاز المصرفي.وأكدَّت ْوثيقة البنك الدولي على الحاجة المُلِحَّة لتعزيز التشريع وخاصة في مسائل تصنيف القروض والمخصصات وإشراف البنك المركزي التونسي على بسط رقابة فعلية على جميع مؤسسات الائتمان. والأهم تسليط عقوبات صارمة عند انتهاك قواعد التصرف السليم. فالقطاع البنكي في تونس مريض اليوم لذلك لا يمكن توقع لا نمو ولا استثمار إذا ما ظل القطاع على حاله.أما الفَسَادَ فهو أحد عِلَلِ القطاع وأكبر دليل أن حوالي 12 مليار دينار(6مليارات دولار) ديون مصنفة ومشكوك في استرجاعها، وذلك جرَّاء غياب الْحَوْكَمَةِ وعدم احترام قواعد التصرف الحذر والمعايير الدولية المعمول بها.فنسبة استرجاع الديون في البنك لا تتجاوز 13 بالمائة ما يؤشر على ضعف الحوكمة الرشيدة وعدم احترام معايير التصرف.ولم تفعل الحكومات المتعاقبة أي شيىءلإصلاح القطاع البنكي ، من جراءغياب الإرادة السياسية ،ماجعل الحكومات ما بعد الثورة تتجه فقط لموضوع الرسملة.

تفاقم الصراع بين قصر قرطاج وقصر باردو
تونس اليوم لا تعاني من وباء كورونا المستجد فحسب، بل ومن وباء الصراع السياسي البارد والحامي بين قصر قرطاج وقصر باردو حيث يترأس الشيخ راشد الغنوشي البرلمان التونسي،وبين السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية حول مسألة تفويض صلاحيات البرلمان لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ طبقًا للفصل 70من الدستور التونسي،كي يتم إصدار المراسيم الحكومية من دون العودة للبرلمان لخوض الحرب على وباء كورونا.وهو مايؤكد للمراقبين في تونس أنّ هناك مناخاً من عدم الثقة بين الأطراف السياسية، ومخاوف متبادلة بسبب التنازع على السلطة بين رئاسة الجمهورية، ورئاسة البرلمان، ورئاسة الحكومة.
وكان الرئيس قيس سعيَّدْ نفسه كشف أكثر من مرَّة في تصريحات مختلفة،عن عمق هذا الصراع، بإشارته إلى ضرورة احترام كل سلطة لصلاحيات الأخرى، فضلاً عن تأكيده خلال اجتماع مجلس الأمن القومي يوم الجمعة الماضي، أنَّه “لا مجال لأخذ قرارات من قبل أي سلطة محلية أو جهوية من دون الرجوع إلى السلطة المركزية والتنسيق معها”، مُشَدِّدًا على أنّ “هناك دولة واحدة موحدة، ولا مجال في تونس لمن يريد أنْ يضعفَ الدولة ومؤسساتها.
فخلال استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيَّدْ لرئيس الحكومة الياس الفخفاخ أخيرًا، كان هناك تشديد على أنْ يعمل كل طرف في إطار الصلاحيات الدستورية، في تلميح واضح لرئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي عمل على قيادة الأزمة، واجتمع مع العديد من الجهات في مكتب البرلمان، في محاولة للتدخل في صلاحيات السلطة التنفيذية.
وكانت لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية صادقت في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء31مارس 2020 على النسخة النهائية لمشروع قانون التفويض للحكومة في إصدار مراسيم.فقدتوصلت اللجنة الى اتفاق نهائي يقضي بتحديد مهام رئيس الحكومة خلال مدة التفويض والتي تم التقليص فيها من شهرين الى شهر واحد كما تمت مراجعة المجالات الواسعة التي طالبت بها الحكومة والحد منها لتشمل الحرب على الكورونا.
تقليص قابله محاولة حكومية في البداية لإطلاق يدها عبر البحث عن إجراءات واسعة شملت 15 تدخلًا منها ماهو مرتبط بالحرب على الكورونا ومنها ما لا علاقة له بهذه الأزمة الصحية.
وفي هذا الإطار تقدمت الحكومة بمشروعها  المقترح والمتكون من 3 فصول أهمها الفصل الأول والذي يحدد مجالات التدخل خلال مدة التفويض.
وينص الفصل الاول من المشروع المتعلق بالتفويض الذي طالب به إلياس الفخفاخ على إمكانية تدخل الحكومة في مجال تنظيم الجيش وتنظيم قوات الأمن الداخلي والديوانية وتنظيم العدالة والقضاء بالإضافةإلى التدخل في إجراءات الحريات وغيرها من المجالات.وحدَّدَ هذا الفصل 15 نقطة يمكن للفخفاخ وحكومته أنْ يتدخلَ فيها بمقتضى مشروع قانون التفويض المقترح بالفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور التونسي.
كما أنَّ البرلمان التونسي الذي يرأسه الشيخ راشد الغنوشي تحَوَّلَ إلى بؤرةٍ حقيقيةٍ للفسادِ،فضلاً عن أنَّه يعاني من التفكك،وعدم الإستقرار،والهدوء،وغياب الوحدةبين نوابه منذ انطلاق أعماله، حتى أنَّ “السياحة البرلمانية” أصبحت إحدى سماته، ولم تعد ظاهرة تبعث على الاستغراب.
وما يؤكد أنَّ البرلمان التونسي تحول إلى بؤرة فساد تُدَافِعُ عن الطبقة الرأسمالية الجشعة، وبارونات التهريب،ولوبيات الفساد، تنزيل المبادرة المقدمة للبرلمان من قبل 47 نائبًا يقودهم النائب عن كتلة “تحيا تونس”بالبرلمان المبروك كورشيد ويدعو فيهاإلى:” تعديل الفصلين  245 و 247 من المجلة الجزائية لِ”أَخْلَقَةِ” الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ عبر التصدِّي إلى الجريمة الإلكترونية المتعلقة بِهَتْكِ الأعراضِ والمساسِ من شرفِ الأفرادِ والجماعات دون وجهِ حقٍّ .. مما يفرض سنّ قانونٍ رادعٍ لحمايةِ الديمقراطيّةِ من العبثِ وتوجيهِ الرّأي العام عن طريق الإشاعة والأخبار الزائفة.
وبموجب هذه المبادرة التشريعية يعاقب مرتكب القذف الالكتروني بالسجن مدة عامين وبخطية مالية تتراوح بين 10 آلاف و20 ألف دينار ويرفع العقاب إلى الضعف إذا كان القذف واقعا أثناء عملية انتخابية أو في الستة أشهر السابقة لوقوع الانتخابات. ويضاعف العقاب إذا تم القذف من شخصيات مستترة أو متنكرة تحت أي مسمى. ويضاعف العقاب في حالة العود.طبعًا الضغط الكبير الذي واجهته مبادرة كورشيد يوم الاحد29 مارس2020 من كل مكونات المجتمع المدني ومن ” شعب الفايسبوك ” جعله يسحبها على أن يعمل عليها بعد أزمة الكورونا .

خاتمة:
إنَّ السؤالَ المطروحِ تونسيًا: هل يمكن للرئيس قيس سعيَّدْ انتهاج سياسة واضحة لمكافحة الفساد على المستوى الوطني، لا سيما أَنَّ تونسَ قد تكون مقبلة على ثورة اجتماعية جديدة للجياع والمهمشين، تُطِيحُ بالطبقة السياسية الحاكمة،و”اللوبيات ” المرتبطة بالمراكز الغربية “ومافيات ” الفساد،وتُحْدِثٌ تغييرات عميقة في كل المجالات ،من جراء التداعيات الاجتماعية والأمنية والسياسية لوباء كورونا وطنيا وإقليميا ودوليا ؟
إنَّ مكافحة الفساد في تونس،تَتَطَلَبُ توافر الإرادة السياسية للرئيس قيس سعيَّدْ،ومشاركة المجتمع المدني،وتقوية المؤسسات، فضلاً عن وجود قضاءٍ مستقلٍ ونزيهٍ .فالقضاء على التداعيات السلبية للفساد على عملية التنمية ومسيرة التقدم في تونس،يتطلب وضع استراتيجية وطنية تونسية لمكافحة الفساد،إضافة إلى تغيير البنى المجتمعية التي تفرز الفساد وتسانده وتبرّره وتجعله مُكَوِّنًا من مكونات الثقافة السائدة في المجتمع التونسي. كما أنَّ مكافحة الفساد تعني نضالاً اجتماعيًا ضد سيطرة القوى الطبقية من الرأسمالية الطفيلية ،والأحزاب السياسية المرتبطة بالمال السياسي الفاسد،التي تحمي البنى التي تفرز الفساد وتحميه.
إِنَّ الفساد في تونس،استفحل بعد الثورة جراء تراخي الحكومات المتعاقبة وتخاذلها في معالجة المسألة وغياب الإرادة السياسية في مكافحة هذه الظاهرة،إضافة إلى ضعف الدولة وبروز عصابات الفساد في المجالات كافة.ويطالب الخبراء بضرورة دعم أجهزة الرقابة ومراجعة التشريعات والقوانين الموروثة عن النظام السابق لمكافحة ظاهرة الفساد إلى جانب ترسيخ ثقافة مقاومة الفساد لدى المؤسسة القضائية.في تونس اليوم القضاءُ فاسدٌ، لا توجد أي إرادة سياسية لمعالجة ظاهرة الفساد،نظراً لتضارب مصالح الأحزاب،لا سيما أنَّ القرارات السياسية في الوقت الراهن تتجه نحو تكريس هذه الظاهرة من خلال الدعوة إلى المصالحة دون محاسبة.
إنّ محاربة الفساد، تتطلب من الرئيس قيس سعيَّدْ أن يخوضَ معركة استرداد الأموال المنهوبة في تونس سواء من رجال الأعمال الفاسدين،أو من الأموال التي أودعت في حسابات بنكية بالخارج من قبل العائلات المافياوية سواء في عهد النظام السابق أو في مرحلة ما بعد 2011 من قبل “الأثرياء الجدد”،والتي تقدر مابين 29و32مليار دولارحسب تقديرات الخبراء،أي ما يعادل ضعف ميزانية الدولة التونسية التي تعيش على الاستدانة الخارجية.
إِنَّ الغطاءَ السياسيَّ للفسادِ في تونس متينٌ ومتنوعٌ: أغلب الأحزاب المؤثرة في المشهد السياسي اعتمدتْ على “الأموال الفاسدة”(النهضة و النداء وغيرهما) لتمويل حملاتها الانتخابية ولشراء الأصوات،وهي أموال مصدرها يكون في غالب الأحيان من رجال أعمال مستفيدين من التهرب الضريبي ومن الاقتصاد الأسود، إلى درجة أن تونس صارت دولة للمافيات المالية التي تمتلك الإعلام والصحف، ولها مرتزقة في كل مكان.
والملاحظ أن نصف نواب البرلمان التونسي المنتخَبون بطريقة شرعية ونزيهة هم رجال أعمال خاضوا غمار السياسة بعد الثورة، ليس بفضل شعبيتهم وبرامجهم الانتخابية، بل بفضل تأثيرهم المالي على الأحزاب التي ترشحوا في قوائمها،الأمر الذي يعني أنَّ الديموقراطية بمعناها الانتخابي لا تمنع الفساد بل من العكس من ذلك،فالفساد صار يستفيد من الديموقراطية في تونس، بالتوازي مع المنظومة الاقتصادية الليبرالية المتوحشة التي تتيح لقوى السوق أن تتنفذ بفعل المضاربات والتهرب الضريبي. الفساد في تونس صار أقوى من الحكومات المتعاقبة، في ظل غياب المشروع الوطني و الديمقراطي لإعادة بناء ىالدولة الوطنية!
الطبقة السياسية الحاكمة في تونس لا يستطيب لها العيش إلاَّ في ظلِّ الدولة الغنائمية القائمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى