رصد في تداعيات جائحة كورونا على النظام الليبرالي العالمي

بات في حكم الإجماع من قبل الأطباء والعلماء المختصين في الأوبئة ،والفلاسفة وكبار المفكرين والمحللين الاستراتيجيين في هذا العالم أنَّ فيروس كورونا الملقب علميًا تحت اسم “كوفيد 19” تحول إلى وباءٍ عالميٍ بحكم تفشيه المتسارع في كامل أصقاع الكرة الأرضية.
فقد أصبح أكثر من ملياري نسمة على سطح الكوكب يعيشون تحت وطأة قوانين الدفاع والطوارئ والأحكام العرفية،والحجر الصحي في منازلهم،نتيجة الإجراءات الحكومية الضرورية التي اتخذتها العديد من الدول في هذا العالم لِلْحَدِّ من انتشارِهذا الوباء الفتاك، والسيطرة عليه، في انتظار اكتشاف لقاح جديد و أدوية جديدة لمعالجته .
ظهور “فيروس كورونا الجديد،الذي بدأ في الصين،وتحديدًا في مدينة ووهان،عاصمة مقاطعة هوبي،مركز انتشار المرض ،يصيب الجهاز التنفسي، (وحتى منتصف ليلة الجمعة الماضي ، أصاب كورونا قرابة 530 ألف شخص حول العالم، توفي منهم ما يزيد على 23 ألفا و700، فيما تعافى أكثر من 122 ألفا)،ليس الجيل الأول بل الجيل السادس من فيروسات كورونا التاجيّة، نسبة الموت فيه قليلة مقارنة بالأوبئة الكبرى التي اجتاحت البشرية.إذْ يُعْتَقَدُ أنَّ فيروس كورونا الجديد انتقل إلى الإنسان نتيجة عادات غذائية منتشرة في بعض مقاطعات وسط الصين، تقوم على أكل كائنات مثل الخفافيش والحشرات والثعابين وغيرها، وهي عاداتٌ غذائية تواصلت من زمن الفقر وانعدام الموارد الغذائية التي عاشتها تلك المقاطعات إبّان المراحل التاريخية التي شهدتها الصين، خلال الاحتلالات العسكرية قبل تأسيس الدولة المعاصرة، وانتقل ذلك الفيروس بالعدوى من الحيوان إلى الإنسان،نتاج تلك العادات الغذائية السيئة لدى بعض الصينيين التي بدأت بالانحسار كثيراً في السنوات الأخيرة ، بسبب التنمية الصناعية و الزراعية التي عرفتها البلاد، وتأثيراتها المختلفة على مستوى تطور الحياة ، ونمط الغذاء في الصين الجديدة.
أهم الأوبئة التي عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل
جائحة فيروس كورنا المستجد يُعَدُّ وباءًا عالميًا جديدًا، لكنّه ليس الأول،بل إنَّ التاريخ البشري شَهَدَ العديد من الأوبئة العالميّة التي اجتاحت العالم أجمع أو معظم الكرة الأرضيّة،ووصلت إلى معظم التجمعات السكانيّة،وأصابتها في مختلف جوانب حياتها،لا الصّحّية فحسب بل وكانت لها تداعيات تاريخية جذرية لجهة التغيير في الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة والفكريّة السائدة أيضًا،وفي تغيير موازين القوى العالمية،سواء لجهة اندثار دول امبراطورية قديمة،أو لجهة ولادة دول امبراطورية جديدة.
أولاً:الطاعون الأنطوني
أول وباءٍ تحدث عنه القُدامى، كان الوباء الذي وقع عام 165م في روما وايطاليا ومعظم البلدان الرومانية، إذ كانت تُسيطر الدولة الرومانية على البحر الأبيض، شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وإسبانيا وكذلك بلاد الشام، سنة 165 اجتاح الامبراطورية طاعون قاتل، أطلق عليه لاحقا الطاعون الأنطوني Antonine Plague، وقد استمر فترةً من الزمَن، ومن المعروف أنّه كان من أحد الأسبابِ التي أضعفت الدولة الرومانية الغربية وقادت الى انهيارها، حيث بدأت القبائل الجرمانية باجتياحها، فالطاعون أضعفَ الجيش الروماني فلم يستطع تأمين حدود الإمبراطورية أمام القبائل االجرمانيّة في الشمال، فبدأت تُهاجم دون أن يصدّها أحد، فسقطت الدولة الرومانية بعد ذلك بشكلٍ كاملٍ في القرن السادس الميلادي.
لم يهدم الطاعون العصب العسكري للدولة الرومانية فحسب، بل أذن ببداية انهيار الأديان الرومانيّة، وكان من أحد الأسباب التي بعثت الديانة المسيحيّة في معظم أرجاء الدولةِ الرومانية، وصولًا إلى اعتناق الدين المسيحيّ وتثبيت أركانه من قبل الامبراطور قسطنطين في مطلع القرن الرابع ميلادي 315-333م ، وأصبح بعدها الدين المسيحي هو الدين الرسميّ للدولة الرومانيّة.
ثانيًا:طاعون “جستنيان” في عهدالإمبراطورية البيزنطية- 541م إلى 542م.
يُعَدُّالطاعون الثاني الذي له أهمية تاريخية بالنسبة للمسلمين ،هو جستنيان. فقد كان جستنيان إمبراطورًا من أهم أباطرة الدولة الرومانيّة الشرقيّة والتي أطلق عليها (البيزنطينية)، وهو قائدٌ مهم، أرسى قواعد القوة البيزنطية وحارب الدولة الفارسية وكان له دور مهم في تشكل العالم بما في ذلك دوره في الحبشةِ واليمن، وله إنجازات كثيرة، منها قانون جستنيان الشهير، الذي أصبح ثقافةً عالمية، ومبادئه ما زالت تتداول في القوانين الأوروبية، وبعد سقوط روما في يد القبائل الجرمانية، حاول جستنيان توحيد الدولة الرومانية الشرقية والغربيّة تحت قيادته، إلا أن الأقدار كانت تخبئ له شيئا آخر.
فقد اجتاح طاعونٌ مميت الدولة البيزنطية ابتداء من عام 541م إلى 543م، بدأ بمصر وانتقل إلى القسطنطينية والأناضول وبلاد الشام وعدد من المناطق التابعة لها، وأصاب كذلك الدولة الساسانية، وسُميّ فيما بعد باسم الإمبراطور “طاعون جستنيان” Plague of Justinian.
​الطاعون الذي ظهر قبل ثلاثين سنةٍ من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم أضعف الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية ضعفًا شديدًا، لأنّنا نعرف أنّه قتل ما يُقارب نصف سكان القسطنطينية، وقُطعَت طُرق التجارة مع مصر التي ظنوا أنّها مصدر الوباء -وقد أكدّ الباحثون المعاصرون أنّ الوباء لم يبدأ في مصر إنّما انتقل إليها من وسط آسيا عبر السفن التجارية من خلال الفئران التي تنقله إلى الإنسان عن طريق “البق” وهيّ حشرةٌ صغيرة يصاب بها النّاس أحيانا عندما ينامون في فُرشهم.
كان طاعون جوستنيان أحد الأسباب الكُبرى التي أدت إلى إضعاف الدولتين البيزنطية والفارسية، وهو ما مهد لانهيار الامبراطوريتين الاثنتين معا على يد المسلمين بعد ستة عقود، وبداية تشكل الإمبراطورية العربية الإسلامية في عهد الفتوحات الإسلامية اللاحقة، مع انتشار الإسلام في العديد من البلدان الآسيوية والإفريقية…
ثالثًا :طاعون الموت الأسود وميلاد النهضة الأوروبية
مع غزو المغول في القرن الثالث عشر الذي عطل الزراعة والتجارة في الصين ومناطق آسيا الوسطى،وأدى إلى مجاعة واسعة النطاق ،وانخفاض في عدد السكان من نحو 120 إلى 60 مليون ، انطلق هذا الطاعون من مقاطعة هوبي الصينية عام 1331. ففي عام 1348م، أصاب البشرية فناء عظيم، طاعون مدمر يسمى بالموت الأسود أو الطاعون الكبير(Black Death)، اجتاح العالم بأسره، وقتل في وسط آسيا والصين مقتلةً عظيمة، في الصين قُتل 40% من سكانها، ونسبة الوفاة كانت تزيد عن 90% من المصابين، من يُصاب به لا يعيش إلا يوما أو يومين.و تشيرالدلائل إلى أن مهد المرض هو آسيا الوسطى حيث كانت نقطة عبور الشرق والغرب على طولطريق الحرير، التي كانت خاضعة تحت سيطرةالمغول وقد كان من الطبيعي للجيوش والتجار الاستفادة من الفرص التي تتيحها حرية المرور داخل الإمبراطورية المغوليةالتي قدمها مونغوليكا باكس. كان يقال لأوروبا للمرة الأولى في مدينة “كافا Caffa” التجارية في شبه جزيرة القرم في 1347. وبعد الحصار الذي طال أمده كان يعاني جيش المغول تحت جاني بيغ من المرض،حيث عمدوا إلى إلقاء الجثث المصابة فوق أسوار المدينة مما تسبب في إصابة السكان.وبالتالي هرب تجار جنوى، وبذلك انتقل الوباء بحرا إلى جزيرة صقلية وجنوب أوروبا، ومنه انتشرفي باقي الارجاءإلى أوروبا واستغرقت رحلته خمسة عشر عامًا، فطرق التجارة كانت بطيئة.
يقدر عدد ضحايا الطاعون الأسود في القرون الوسطى بمائة مليون، وهذا عدد ضخمٌ مقارنةً بعدد سكان العالم المقدر آنذاك بنحو475 مليون، أي أن حوالي الثلث قضوا في سنة 1348م، هذا الوباء في ثلاثة أشهر ما يزيد عن 20% من سكان العالم، ثمّ استمر بعد ذلك يقتل النّاس لسنواتٍ طويلة، إلى أن بلغ عدد ضحاياه مائتي مليون إنسان وفق تقدير الباحثين.
كما كان طاعون جاستنيان إيذانا بنهاية الدولة البيزنطية وولادة الدولة الإسلامية، كان الطاعون الكبير إيذانا بانتهاء العصور الوسطى في أوروبا وبداية عصر النهضّة. وهذا عائد لأسبابٍ كثيرة، فعندما وقع هذا الطاعون كان أكثر ضحاياه من الفقراء،وفي القرن الرابع عشر كان النظام الاقتصادي يعتمد على الإقطاع، وقد وصل ذروته في أوروبا؛ النبلاء يُسيطرون على أراضي شاسعة والفقراء يعيشون فيها عبيدا يُمارسون الزراعة لمصلحة النبلاء؛ بعد الطاعون وجد النبلاء أنفسهم بدون عمال لفلاحة الأرض، فقد مات منهم خلق كثير، وأصبح عددهم قليلًا، فصار العمال يطالبون بحريات أكبر وحقوقٍ أكثر، وصولًا إلى إنهاء الرق والإقطاع في أوروبا.
الكنيسة فسرت الطاعون بأنّه غضبٌ الله قد حلّ على الناس بسبب معاصيهم، لكنها فشلت في تقديم حلول لرفع البلاء، عندها اهتدى الناس إلى دروب أخرى لمحاولة استكشاف الحقيقة وصولًا إلى ميلاد ما نعرفه بالعقلانية الأوروبية التي تسربت بداياتها من الأندلس تحديدًا، وصولًا إلى النهضة الأوروبية الشاملة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
يؤرخ المؤرخون بالطاعون الكبير بداية لعصر النهضة الأوروبية، ويعتقدون أنّه كان أحد البواعث الكبرى لإنهاء الإقطاع وانطلاق مرحلة التعقل والعقلانية الأوروبية وصولا إلى مرحلة النهضّة الأوروبية في القرن السادس عشر ، ثمّ انحسار التأثير الكهنوتي على الحياة العامة، لاسيما الحياة السياسية والعلمية.لم تسجل الإنسانية منذ ظهور الطاعون الأسود ولا قبله خسائر بشرية كالتي سجلتها وقتئذ، واحتاجت البشرية إلى مائتي سنة لكي تُعوّض الذي ماتوا في هذا الوباء.
رابعًا:وباء الإنفلونزا
الوباء الرابع هو الأنفلونزا الإسبانية، الذي سببه فيروس H1N1، من سنة 1918م إلى 1920م، أي بعد الحرب العالمية الأولى، ويسمى بالانفلونزا الإسبانية ليس لأنّه بدأ في إسبانيا، بل لأن الذين تحدثوا عنه ونشروه كانوا من الإسبان، والصحف الإسبانية كانت تملك قدرًا من الحرية، بينما كان العالم غارقا في آثار الحرب العالميّة الأولى.
نشر موقع “فوكس” مقابلة للصحافي شون إيلينغ مراسل “سي أن بي” مع المؤرخ جون بري، للمقارنة بين كيفية تعامل السلطات مع فيروس كورونا اليوم وبين تعاملها مع وباء الإنفلونزا عام 1918.ويلفت الكاتب إلى أن أكبر درس من وباء الإنفلونزا عام 1918، بحسب المؤرخ جون بري، الذي ألف كتابا مهما عن وباء 1918، هو أن على الزعماء أن يقولوا الحقيقة مهما كانت قاسية، فالكذب بشأن حدة الأزمة عام 1918 خلق المزيد من الخوف والمزيد من العزلة والمعاناة للجميع.
ويقول جون بريفي المقابلة، التي ترجمتها “عربي21″، بتاريخ 25مارس/آذار 2020،في بداية عام 2009 وقع تفشي فيروس H1N1، وكانت هناك مخاوف حقيقية بأنه سيكون سيئا، لكنه كان خفيفا، ولولا علم البيولوجيا الجزيئية ما كان أحد لينتبه لهذا الفيروس، فلا شيء رأيناه منذ عام 1918 قريبا لما نراه اليوم، وإن كان هذا فيروسا واحدا في كل جيل فسنكون محظوظين.لكن أين وجه الإختلاف بين فيروس كورونا وفيروس الإنفلونزا لعام 1918؟
يقول جون بري   في هذا الصدد:أكبر فرق يتعلق بالفئات العمرية المتأثرة من السكان، ففي عام 1918 كان معظم الذين ماتوا ما بين 18 و45 عاما، وقد يكون حوالي ثلثي الوفيات من تلك المجموعة العمرية… (ويمكنك القول) إنَّ أكثر من 90% من الوفيات الزائدة كانت أعمارهم لا تتجاوز 65 عاما، ولذلك من الواضح أنَّ كبار السن في عام 1918 كانوا قد أصيبوا بفيروس ضعيف في شبابهم أكسبهم مناعة طبيعية ضد فيروس عام 1918.
والفرق الآخر هو فترة حضانة الفيروس، التي كانت في الإنفلونزا يومين إلى أربعة أيام وليس أكثر، في الوقت الذي يكون فيه معدل حضانة كورونا أكثر من الضعف، ويمكن أن تمتد لفترة أطول، وهو أمر جيد وسيئ في الوقت ذاته، الجيد هو أنه يمنح وقتا للاتصال والتعقب والعزل وأمور شبيهة، وهو ما كان شبه مستحيل خلال وباء الإنفلونزا، والأمر السيئ هو أنه يعني أن الفيروس يمتد على فترة أطول بكثير ويصيب المزيد من الناس، حيث يبدو أنه معد بشكل أكبر من الإنفلونزا.
وهناك فارق إيجابي آخر: بالرغم من كونه (كورونا) معديًا بشكل أكبر، إلا أن نسبة الوفيات بسببه أقل من إنفلونزا 1918، فبعدما خرج الناس من رحى الحرب العالمية الأولى، والتي كانت من أسباب انتشار الطاعون من خلال الجنود الذين عادوا إلى بلدانهم بعد قتالهم في مختلف أنحاء أوروبا، فنقلوا إضافة إلى احتفالات النصر الفيروس القاتل، فانتشر انتشارا مُريعًا.
وأدت جثث قتلى الحرب في تلك المرحلة والفقر الشديد إلى مضاعفة الأنفلونزا، ويقدر عدد الذين أصيبوا به 500 مليون، وقتل ما لا يقل عن 70 إلى 100 مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم ما نسبته 20 إلى 30%، ونسبيا تأثيره أقل من تأثير الطاعون الأسود لأن عدد سكان العالم كان في حدود مليار و900 مليون.
هل يقود وباء كورونا إلى انهيار النظام الدولي أحادي القطبية؟
نشر مركز كلوب فالداي الروسي تقريرا تحدث فيه عن فيروس كورونا المستجد وتأثيره على العديد من دول العالم، ومن بينها الدول الأوروبية التي أغلقت حدودها حتى بين بعضها البعض، مما يطرح العديد من التساؤلات حول حجم الوحدة بين دول الاتحاد الأوروبي وتأثير ذلك على النظام الليبرالي العالمي
.وقال المركز، في تقريره الذي ترجمته “عربي21″، بتاريخ 20مارس/آذار2020: وفي الوقت الراهن، تشهد أوروبا ظروفا صادمة أجبرتها على غلق جميع حدودها، وذلك دليل على “الأنانية الوطنية”. فهل ستكون جائحة كورونا “اللعبة الأخيرة” التي ستدمر التكامل الأوروبي الذي لم يعد قادرا على الاستمرار؟وأورد المركز الروسي أن القادة الأوروبيين لم يتوقعوا احتمال وقوع وباء من هذا النوع عندما أجبروا سلطات إيطاليا وإسبانيا واليونان على خفض تكاليف الرعاية الصحية بشكل كبير من أجل التغلب على أزمة سنة 2013.
فبعد الحرب العالمية الثانية،عانت أوروبا من خسائر كبيرة، وسعيا لاستعادة النمو الاقتصادي خسرت سياستها المستقلة، وأصبحت متورطة بشكل أو بآخر في خضم الصراع الثنائي بين الولايات المتحدة وروسيا،الذي انخرطت فيه الصين في وقت لاحق.وذكر المركز الروسي أنَّ هناك العديد من الافتراضات من قبل خبراء أوروبيين تفيد بأن أوروبا د تتحول إلى “عملاق اقتصادي، بينما تبقى قزما سياسيا”.
والجدير بالذكر أن أوروبا لا تبالي بمصير الإنسانية من حولها في سبيل تحقيق مبتغاها. وفي الوقت الراهن، تثبت الصين العكس وذلك من خلال تقديم المساعدة للأوروبيين (إيطاليا)، مؤكدة من خلال ذلك أن النهج الذي تتبعه سواء في مواجهتها لوباء كورونا أو بشكل عام هو نهج صائب. في المقابل، تثبت أوروبا أن النهج السياسي الذي تتبعه غير ناجح.
وأكد المركز أن أوروبا خلال تطورها بعد الحرب كان في مقدورها إلى حدٍّ كبيرٍ التغلب على مشكلة تفاوت الإمكانيات بين الدول الأوروبية. ولكنَّ حل هذه المشكلة لا يتطلب فقط مؤسسات رسمية وإنما يتطلب أيضا ثقافة سياسية خاصة في العلاقات بين الشعوب.
من الضروري أن يعمل الاتحاد الأوروبي على إيجاد أعلى أشكال التنظيم الاجتماعي لضمان حقوق الضعفاء الأساسية بغض النظر عن مساهمتهم في التنمية العامة. ولكنَّ، على مدى العقود الأخيرة، لم تتمكن أوروبا من التغلب على هذا العائق.وأفاد مركز كلوب فالداي الروسي بأن سلوك الدول الأوروبية الأناني، في ظل الظروف الطارئة التي تستوجب على كل دولة ضمان أمن مواطنيها، لن يؤدي إلى التدمير الفوري للسبب الرئيسي لإنشاء الاتحاد الأوروبي ألا وهو السوق الأوروبية المشتركة.
لكن أثبت التاريخ مرارًا وتكرارًا أنَّ الاعتبارات السياسية هي التي تهيمن على المكاسب الاقتصادية على أرض الواقع.ومن الممكن القول إن “النظام الليبرالي العالمي” يعيش أيامه الأخيرة، وهو أمر جيد إذا لم يكن انهياره رهين اندلاع حرب عالمية جديدة. ولكنَّ من غير المحتمل أن يظهر أي نظام عالمي قوي وعادل بشكل مثالي، ذلك أن المشاكل التي قد تواجهها الدول القوية التي تقود هذا النظام ستمنعها من إيجاد حيّز من الوقت لرعاية حقوق ومشاعر الضعفاء.
وفي الختام، أشار مركز كلوب فالداي الروسي إلى أن النظام الليبرالي ليس الوحيد الذي يواجه أيامه الأخيرة، وإنما أوروبا التي كانت يوما ما جنة للإنسان تمر بأيام عصيبة أيضا، وربما شهورها أو سنواتها باتت معدودة. وفي الحقيقة، لم يعد بإمكان الاتحاد الأوروبي محاولة محاكاة سمات يوتوبيا أو المدينة الفاضلة.
أما مجلة فورين بوليسي الأمريكية الصادرة بتاريخ 21مارس/آذار 2020،فترى أن جائحة كورونا، شأنها شأن أحداث مفصلية في التاريخ كسقوط جدار برلين أو انهيار بنك ليمان براذرز، حَدَثٌ عَالَمِيٌ مُدَّمِرٌ يَصْعُبُ تَخَيُّلَ عواقبه على المدى البعيد. وسعيًا منها للكشف عن ملامح النظام العالمي بعد انحسار جائحة كورونا، نشرت الصحيفة توقعات 12 عالما ومفكرا بارزا من مختلف أنحاء العالم، إليكم أبرزها:
يرى العالم ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأميركية، أن جائحة كورونا ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، وأن الحكومات في مختلف أنحاء العالم ستتبنى إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة.كما توقع أن يسرع انتشار الوباء وتيرة تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق، ويدلل على ذلك باستجابة دول شرقية لمواجهة المرض مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، كما أن تعاطي الصين مع الوباء كان جيدا بالرغم من تعثرها في البداية عند اكتشاف الفيروس. وقال إن الاستجابة البطيئة والمتخبطة في أوروبا وأميركا من الأشياء التي شوهت الهالة التي طالما أحاطت بالتعامل الغربي.
ووفقا لوالت فإنَّ الوباء الحالي لن يسهم في تغيير السياسة العالمية السائدة التي يطبعها الصراع، ودلل على ذلك بأنَّ الأوبئة التي مرَّتْ على البشرية من قبل لم تضع حدًّا للتنافس بين القوى العظمى ولم تكن نقطة بداية لحقبة جديدة من التعاون العالمي.وخَلَصَ إلى أنَّ المعركة ضد الوباء الحالي سينقشع غبارها عن عالم أقل انفتاحًا وأقل ازدهارًا وحرية نظرًا لتضافر عوامل عدة، من ضمنها الفيروس القاتل والتخطيط غير المناسب والقيادات التي تفتقر للكفاءة مما يضع البشرية على مسار مثير للقلق.
نهاية العولمة
أما روبن نيبليت، الرئيس والمدير التنفيذي لـ”تشاثام هاوس” المعروف بالمعهد الملكي للشؤون الدولية ومقره بريطانيا، فيرى أن جائحة فيروس كورونا قد تكون القشة التي قصمت ظهر بعير العولمة الاقتصادية.ويُرجع نيبليت ذلك إلى عوالم قبل ظهور الوباء، من ضمنها القلق الأمريكي من تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية للصين والذي أدَّى إلى إجماع سياسي على فصل الصين عن التكنولوجيا العالية التي تمتلكها الولايات المتحدة ومحاولة حمل حلفاء أمريكا على أن يحذو حذوها.كما أن الضغط الشعبي والسياسي المتزايد لخفض انبعاثات الكربون حماية للبيئة، أثار تساؤلات حول اعتماد العديد من الشركات على سلاسل التوريد من مسافات بعيدة.
ووفقا لنيبليت فقد أجبر تفشي “كوفيد-19” الحكومات والشركات والمجتمعات أيضا على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية،ومن المستبعد في ظل كل ما سبق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي طبعت أوائل القرن الحادي والعشرين.
كيشور محبوباني :عولمة محورها الصين
رأي آخر مختلف عن سابقه حول تداعيات وباء كورونا على الاقتصاد العالمي، حيث يرى كيشور محبوباني، الباحث في معهد آسيا للبحوث بجامعة سنغافورة الوطنية ومؤلف كتاب “هل فازت الصين؟” حول تحدي الصين للهيمنة الأميركية، أن الجائحة لن تؤثر كثيرا على الاتجاهات الاقتصادية العالمية، ولكنها ستسهم في تسريع تغيير كان قد بدأ بالفعل، هو الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى عولمة تتمحور حول الصين.
وأشار محبوباني إلى أن هذا السيناريو بات مرجحا في ظل فقدان الشعب الأميركي الثقة بالعولمة والتجارة الدولية، والذي بات أيضا يرى أن اتفاقيات التجارة الحرة أصبحت سامة سواء في ظل حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو غيره.
وفي المقابل، لم يفقد الصينيون ثقتهم بالعولمة والتجارة الدولية نظرا لعدة أسباب بعضها يعود لأسباب تاريخية، حيث يدرك القادة الصينيون جيدًا الآن أن قرن الذل الذي عاشته الصين من عام 1842 إلى عام 1949 كان نتيجة لتهاونها والجهود غير المجدية التي بذلها قادتها لقطعها عن العالم.وقد أثمر انفتاح الصين على العالم خلال العقود القليلة الماضية انتعاشا اقتصاديا وعزز ثقة الشعب الصيني بثقافته، فبات الصينيون يؤمنون بقدرتهم على المنافسة في أي مكان من العالم.
أميركا لم تنجح في اختبار القيادة
ترى نائبة المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، كوري شاك، أن عالم ما بعد فيروس كورونا لن يشهد استمرار زعامة الولايات المتحدة للعالم.وقالت شاك في توقعاتها التي نشرتها فورين بوليسي، إن العالم لن ينظر إلى الولايات المتحدة بعد الآن كقائد دولي نظرا لسلوك الإدارة الأميركية الذي يقوم على تغليب المصالح الذاتية الضيقة وافتقار تلك الإدارة الفادح للكفاءة.
وأشارت إلى أنه كان بالإمكان التخفيف من الآثار العالمية لهذا الوباء إلى حد كبير من خلال قيام المنظمات الدولية بتوفير مزيد من المعلومات في وقت مبكر، الأمر الذي سيمنح الحكومات الوقت الكافي لإعداد وتوجيه الموارد للأماكن التي تعد أكثر حاجة إليها، وكان بمقدور الولايات المتحدة الاضطلاع بهذا الدور وتنظيم تلك الجهود لتثبت أن اهتمامها لا ينصب فقط على الشأن الداخلي الأميركي.وختمت شاك بأن واشنطن قد فشلت في اختبار القيادة وأن العالم قد بات أسوأ حالا نتيجة لذلك الفشل.
المعادون للصين بأمريكا يصفون كورونا بأنه “دعوة لليقظة”
ونشرت مجلة “ذي أتلانتك” مقالا للكاتب يوري فريدمان،بتاريخ 13مارس/آذار2020 يقول فيه إن الرئيس دونالد ترامب وفى بشكل ما بوعوده الانتخابية بخصوص مواجهة الصين، فشن حربا تجارية عليها، ودعا الحلفاء للحد من العلاقات مع الصين، وأعاد توجهات واشنطن باتجاه التنافس مع بكين على المدى البعيد.
وينقل الكاتب عن مدير مكتب سياسات التجارة والتصنيع، لي نافارو، قوله بأن وباء الكورونا يبين كيف أن أمريكا “تعتمد على المصادر الأجنبية” للحصول على الأدوية واللوازم الطبية.ويعلق فريدمان قائلا، إن “معظم الكمامات الجراحية والتنفسية المستخدمة في أمريكا، مثلا، مصنعة في بلدان أجنبية، مثل الصين والمكسيك، ما تسبب بنقص خلال الأزمة الحالية، لكن التحدي يتجاوز اللوازم الطبية الضرورية لتفشي فيروس كورونا.
ويورد الكاتب نقلا عن خبير الصحة العالمي في مجلس العلاقات الخارجية، يانزونغ هوانغ، قوله إن الصين أكبر مصدر للمعدات الطبية لأمريكا، وبأن حوالي 80% من المركبات الفعالة الضرورية لصناعة الأدوية تأتي من الصين والهند، وأضاف: “تستحوذ شركات صناعة الأدوية الصينية على 97% من السوق الأمريكية للمضادات الحيوية، وأكثر من 90% من السوق لفيتامين سي. وفي عام 2018 كان 95% من الأيبوبروفين و91% من هيدروكورتيزون و70% من إسيتامينوفين و40-45% من هيبارين (مميع الدم) التي استوردتها أمريكا من الصين”.
انهيار نظام العولمة الليبرالية و العودة إلى تأكيد دور الدولة
لقد أتثبت كورونا للعالم قاطبة أن الضرورة تقتضي مراجعة نظام العولمة الليبرالية ، الموروثة عن عالم ما بعد الحرب  العالمية الثانية، فما جرى ويجري حاليا في دول عديدة فرض إعادة النظر في النموذج الاقتصادي المعتمد بها. خصوصا، بعد عجز دول “صناعية” كبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، عن توفير أبسط الحاجيات، من قبيل القفازات والكمّامات الطبية وأجهزة التنفس، لإنقاذ مرضاها، حيث انتظر الجميع قدومها من الصين الذي وكِلت إليه المهمة؛ فهو “مصنع العالم” بدون منازع. وقد دفع هذا الوضع بأصوات أوروبية إلى الحديث عن انهيار الغرب؛ فأوروبا اليوم ضمن دول العالم الثالث، بحسب الفرنسي ميشال أونفري، بعدما عجزت عن تقديم العلاج لجميع مواطنيها. خصوصا أن نسبة مهمة من الوفيات؛ المسجلة في كل من إسبانيا وإيطاليا، مرتبطة بنقص في الوسائل والمعدّات الطبية. يضع هذا المعطى التجارة الدولية موضع اتهام، وتحديدا عند حلول الأزمات والكوارث، ما يستدعي العودة عاجلا غير آجل إلى سياساتٍ صناعة وطنية، بدل الارتهان الكلي للخارج.
طوال السنوات الأخيرة، سارع مفكرون كثر إلى نعي الدولة؛ بعد التراجع الملفت في أدوارها،
بسبب الضغط الرهيب لنظام العولمة عليها، قبل أن يقرّر فيروس كورونا إعادتها بقوة إلى الواجهة. حوّلت غزوة كورونا الدولة، تدريجيا، إلى الفاعل الرئيسي الوحيد القادر على خوض هذه المعركة، بما تملكه من قوة وسلطة وصلاحيات، مستغلة أجواء الخوف والتوتر التي دفعت المواطنين إلى التخلي، طوعيا، عن حرّياتهم ضمانا للأمن والسلامة. خصوصا، بعد وقوفهم على دور الدولة الحقيقي المتجسد في الحماية والرعاية، بعيدا عن الاختزالات المغلوطة التي تربط الدولة بالرأسمال؛ محوّلة إياها إلى مجرد مقاولة كبيرة.
(حسب رأي الكاتب محمد طيفوري في صحيفة العربي الجديد بتاريخ 27مارس2020).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى