تقدير موقف: “صفقة القرن” وسيناريوهات الضم .. رصيد مفتوح

إعداد : رازي نابلسي/ مركز مسارات

 

مع إعلان التفاهمات الأميركيّة – الإسرائيليّة المُسمّاة “صفقة القرن”، رسّمت الإدارة الأميركيّة عمليًا موافقتها على كافة السياسات والخطوات والمنظومات التي فرضتها إسرائيل على أرض الواقع في الضفّة الغربيّة منذ العام 1967 وحتّى يوم إعلان الصفقة: المُستوطنات جميعها؛ الطرقات جميعها؛ الحدود مع الأردن؛ القدس؛ قضية اللاجئين. وهذه حقيقة الصفقة التي صاغها الطرفان الأميركي والإسرائيلي كما جاء في الإعلان ذاته. وعلى صعيد عمليّ: يُعدّ كُل ما استعمرته إسرائيل في الضفّة شرعيًّا من طرف الإدارة الأميركيّة بوصفها القوّة العظمى الأولى عالميًا، ولإسرائيل الحريّة في ضم ما تشاء وفرض القانون الإسرائيليّ على ما تشاء وفقًا لحساباتها الداخليّة والخارجيّة في إطار التفاهمات، فهذا شأنها. وهذا حرفيًا ما قاله مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأميركيّ، في لقاء مع شركة الأخبار الإسرائيليّة، عندما سألته المُذيعة: هل يستطيع نتنياهو إعلان ضم هذه المناطق؟ فأجاب: هذا شأن إسرائيليّ، يسير بحسب قوانين إسرائيل وما يسمح به القانون الإسرائيليّ. ومن جانبنا، هذا كلّه شرعيّ، وتستطيعون إحالة القانون عليه وضمّه وفقًا لظروفكم، وما ترونه مناسبًا. وباختصار شديد: منحت الإدارة الأميركيّة إسرائيل رصيدًا مفتوحًا قدره كافة المستوطنات في الضفّة، وتستطيع إسرائيل استعماله كما تشاء. ولهذا، يُضاف التعهّد الأميركيّ في مُجابهة كافة القرارات الدوليّة التي من الممكن أن تصدر ضد إسرائيل في حال بدأت باستغلال الرصيد.
في هذا السياق، ستعمل الورقة على فهم إسقاطات الصفقة على السياسة الإسرائيليّة، ومعناها، وكيفية التعامل معها، ورصد الموقف الإسرائيليّ، ودلالاته السياسيّة، ومن ثمّ تطرح سيناريوهات المُستقبل ما بعد الصفقة من موقع إسرائيل.

الصفقة في إسرائيل: ترحيب وانبهار، ولكن …
ينقسم الموقف الإسرائيليّ العام من الصفقة إلى قسمين وعلى مرحلتين: الترحيب والقبول والاحتفال أولًا؛ والتعويل على الرفض الفلسطينيّ لها ثانيًا. هذا الموقف ذو البعدين هو ما يفصل عمليًا بين المُعسكرين الإسرائيليين الأساسيين اللذين يشكّلان الخارطة السياسيّة: الليكود وكُل من على يمينه اعتبر الصفقة مهمّة جدًا ويجب التمسّك بها، والتعويل على الرفض الفلسطينيّ لها؛ حزب “أزرق-أبيض” وافق عليها، ودعا إلى المُصادقة عليها في الكنيست، واعتبارها أساسًا لأي مُفاوضات مُستقبلية بين الطرفين الفلسطينيّ والإسرائيليّ. وعلى الرغم من أنّه شدّد على أهميّة أن يكون الضم ما بعد الانتخابات، لكنّه عمليًا وافق على مبدأ الضم، وهو ما يتماشى مع سياسة ودعاية الائتلاف. أمّا المُجتمع الإسرائيليّ ذاته، فإن آخر استطلاع للرأي أجرته القناة الإسرائيليّة الثانية عشرة، أشار إلى أن 50% من المُجتمع يوافق على صفقة القرن، وفي استطلاع آخر أظهر أن 51% يوافق على الصفقة مُقابل 24% يعارضها، في حين لم تتخذ ما نسبته 16% من موقفًا منها.[1] ومن المهم الإشارة، إلى أن نسبة 24% المعارضين للصفقة يشملون اليمين الدينيّ، الذي يعارضها لوجود مقولة “دولة فلسطينيّة” فيها. وفي هذا السياق، يشار إلى رفض مجلس المستوطنات الصفقة للسبب ذاته، إذ قال في بيان له إنّه لا يُمكن دعم صفقة ذُكرت فيها دولة فلسطينيّة، رغم وجود وفد من المجلس في واشنطن، وإجراء مُفاوضات بينه وبين الإدارة الأميركيّة قبل إعلان الصفقة.[2] وللتلخيص: يقبل اليمين القوميّ الصفقة كما وردت ويعدّها أساسًا يمكن البناء عليه؛ ويقبل اليمين الدينيّ الصفقة ويعدّها فُرصة، ولكنّه يرفض مقولة “الدولة الفلسطينيّة” الواردة فيها.
تمنح الصفقة إسرائيل عمليًا أربع قضايا كانت ولا تزال تشكّل الهاجس الأساسيّ لديها: سيطرة كاملة على الحدود الشرقيّة مع الأردن؛ شرعيّة للمشروع الاستيطانيّ في الضفّة؛ سيطرة أمنيّة كاملة على الضفّة وضمان عمل الجيش الإسرائيليّ فيها؛ شرعيّة للبعد الدينيّ اليهوديّ في الضفّة. تُشكّل هذه القضايا، سويًا، الهواجس الإسرائيليّة: يشكّل موضوع الحدود الهاجس الأمنيّ بالسيطرة على ما يدخل وما يخرج من فلسطين التاريخيّة؛ يشكّل موضوع المستوطنات الكسر الأكبر للسيرورة التاريخيّة التي كانت تعدّ ضمنًا أن أي عمليّة تسوية ستنطوي على إخلاء مستوطنات، وهذا ما تغيّر مع الصفقة؛ لا تمنح الصفقة أي استقلاليّة فلسطينيّة أو سيادة على الأرض، وهو الهاجس الأمنيّ الإسرائيليّ الذي يرفض الانسحاب من أي منطقة دون وجود أمنيّ؛ الشرعيّة الدينيّة التي يستند إليها المشروع الاستيطانيّ في الضفة الغربية، بما فيها القدس. ومن هذا المبدأ، تشكّل الصفقة بالنسبة إلى إسرائيل قفزة نوعيّة وجديّة “خارج الصندوق” من حيث كونها تكرس مقولة واضحة بأن “التسوية” يمكن أن تتم وفقًا لمصالح إسرائيل جميعها. ومن هذا المنطق، تقبل إسرائيل بالصفقة، وتبدأ في تطبيقها، وتعدّها أساسًا يمكن من خلاله البدء في أي مُفاوضات مستقبليّة، كما أعلن بيني غانتس، رئيس حزب “أزرق-أبيض”. في المُقابل، ترفض إسرائيل مبدأ إقامة “دولة فلسطينيّة” حتّى بعد أن تعترف هذه الدولة بمشروعية مشروع دولة اليهود، بحدودها، والقدس عاصمتها الموحّدة. وفي الحقيقة، فإن تطبيق الجزء الإسرائيليّ من الصفقة، بحد ذاته، يضع حدًا لإمكانيّة إقامة دولة فلسطينيّة أصلًا، مهما كان شكلها، وهذا ما قالته أيليت شاكيد، عضو الكنيست ووزيرة القضاء السابقة، في مُقابلة مع شركة الأخبار: “السؤال الآن كيف نتعامل مع الصفقة، إن بدأنا بالضم فلن تكون هُناك دولة فلسطينيّة”.[3]
أمّا بخصوص البند الذي يمنح إسرائيل إمكانيّة ضم سكان عشر بلدات وقرى من المُثلث في أراضي 48 إلى الأراضي الفلسطينيّة، فإنّه لا يشكل ضمًا ولا تنازلًا إسرائيليّا عن الأرض، وإنّما إخراج أعداد كبيرة من المواطنين الفلسطينيين من الحيّز القانوني للدولة اليهوديّة، وتعزيز طابعها الإثنيّ اليهوديّ النقيّ، عبر إخراج نحو 250 ألفًا من العرب من النظام السياسيّ والمدنيّ، وحصرهم في ما وراء الجدار.

ثلاثة سيناريوهات ما بعد الصفقة
بعد منح الولايات المُتحدة إسرائيل رصيدًا مفتوحًا للضم، وتعهّدًا عمليًا بتعطيل أي حراك دوليّ مناهض لعمليّة الضم أحادي الجانب، يصبح السؤال: كيف سيتم هذا الضم؟ هل بالجملة على طريقة عرض فيلم ينتهي لتُسمع آراء الجمهور مرّة واحدة؟ أم تدريجيًا على نموذج المسلسلات الطويلة، حيث يتم ضم بعض المستوطنات، ومن ثم انتظار ردود الفعل الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة، وبعدها يتم اتخاذ القرار حول استمرار المسلسل أو وقفه؟ هذا هو السؤال الأساسيّ الذي يُخيّم اليوم على المشهد الإسرائيليّ. أمّا بخصوص ضم سكان منطقة المُثلّث ذات الكثافة السكّانية الفلسطينيّة العالية، فإنّها غير واردة كسيناريو واقعيّ لأسباب عدّة: أولًا، بسبب الإشكاليّة القانونية في سحب مواطنة بشكل جارف من تجمّع سكّاني كبير؛ وثانيًا، لأن الصفقة تنص على أن هذه الخطوة يجب أن تأتي بالاتفاق؛ وثالثًا، بسبب إعلان “أزرق-أبيض” رفض هذا البند على لسان عوفر شيلح؛ ورابعًا، بسبب الأبعاد الأمنيّة، إذ يُعد المثلّث منطقة قريبة جدًا، وعلى موقع إستراتيجيّ يربط مدن المركز الإسرائيليّة بالشماليّة.
وفي هذا السياق، ترصد الورقة ثلاثة سيناريوهات متوقعة مستقبلًا ما بعد صفقة القرن، وتعتبر تنفيذ الضم بات واقعًا، والسؤال حول التفاصيل والمساحة والتوقيت والردود، التي ستُحدّد مستقبل هذا المسلسل الاستعماريّ.

السيناريو الأول: الضم كمُسلسل
يقوم هذا السيناريو على إعلان إسرائيل ضم بعض المستوطنات في الضفّة الغربيّة ومُحيط القدس، كـ”معاليه أدوميم”، أو غور الأردن كخطوة أولى، ومن ثم انتظار ردود الفعل الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة، وقياس الضرر الناجم عن الضم، وخاصة العلاقات مع الأردن، التي تُعد إستراتيجيّة بالنسبة إلى إسرائيل على الصعيدين الأمنيّ والسياسيّ. ومن المُتوقّع أن يتم هذا السيناريو ما بعد الانتخابات، مع الحفاظ على الضم كخطاب انتخابيّ دون البدء في تطبيقه رسميًا: أولًا، لأهمية هذا بالنسبة إلى بنيامين نتنياهو في الحملة الانتخابيّة، ولاستقطاب اليمين للتصويت له على أساس أنّه سيضم ما بعد الانتخابات؛ وثانيًا، بسبب الإشكاليّات القانونيّة في الضم من خلال حكومة انتقاليّة ومسار قضائيّ يشكّك في نوايا رئيسها. وهو ما يعني أن خطاب الضم سيتعزّز جدًا في الفترة المُقبلة ويشكّل نواة الحملات الانتخابيّة، خاصة لحقيقة أن نتنياهو هو من يصيغ الحيّز الإعلاميّ والانتخابيّ في إسرائيل.
أمّا على الصعيد الإسرائيليّ الداخليّ، فيُلاقي هذا السيناريو دعمًا برلمانيًا واسعًا من الليكود، و”أزرق-أبيض”، و”إسرائيل بيتنا”، و”يميناه”، والأحزاب الحاريديّة. وعلى عكس الضم الكامل دفعة واحدة الذي من شأنه أن يُخرج بعض المخاوف لدى “أزرق-أبيض” و”إسرائيل بيتنا” مثلًا، يشكّل الضم التدريجيّ، وخاصة للمستوطنات الكبيرة، كـ”معاليه أدوميم” أو “أرئيل” أو حتّى الأغوار، موقع إجماع في السياسة الإسرائيليّة الداخليّة باستثناء تحالف “ميرتس- العمل” الذي تمنحه الاستطلاعات ما يُعادل 8 مقاعد فقط، بالإضافة إلى القائمة المشتركة التي تمنحها الاستطلاعات ما يُعادل 13 مقعدًا. أما باقي الأحزاب فتدعم ضم مناطق وفرض القانون الإسرائيليّ عليها. كما أن مخاطر هذا السيناريو غير عالية جدًا، وهي تسمح لإسرائيل أولًا والأهم، بقياس إسقاطات الضم السياسيّة والميدانيّة: جديّة التهديدات الفلسطينيّة والحالة الميدانية فلسطينيًا؛ إسقاطات الضم على الحالتين العربيّة والدوليّة؛ اتفاق “وادي عربة” مع الأردن والخطوات التي سيتخذها الملك ردًا على الضم. وفي هذا السياق، ترى الورقة أن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا في الفترة المُقبلة، وسيتخذ وتيرة أسرع مع اشتداد المعركة الانتخابيّة الإسرائيليّة وصولًا إلى ما بعد الانتخابات.
يتعلّق هذا السيناريو إلى حد بعيد جدًا بنتائج الانتخابات الإسرائيليّة الثالثة، وسترتفع حظوظه بشكل كبير جدًا إن استطاع نتنياهو تشكيل حكومة وحدة دون الحاجة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنيّة مع “أزرق-أبيض”. وفي هكذا سيناريو، سيُعلن نتنياهو الضم مُقابل حصوله على حصانة من الصهيونيّة المتديّنة وأحزاب اليمين الدينيّ، وسيعمل على فرض القانون الإسرائيليّ كنوع من المقايضة على حصانته البرلمانيّة والقضائيّة. أمّا في حال لم يستطع نتنياهو تشكيل حكومة وأرغم على تشكيل حكومة وحدة وطنيّة مع “أزرق-أبيض”، فإن الضم سيكون بوتيرة أقل من حالة وجود حكومة تضم نتنياهو والصهيونيّة الدينيّة، وتعتمد على اليمين الدينيّ، وسيكون الخطر الأكبر على غور الأردن، خاصة أن التحالف أعلن دعمه لضم الأغوار. ومع ذلك، سيبقى الضم حاضرًا، ومن الممكن أن تتغيّر تفاصيل المساحة والتوقيت دون تغيّر جوهريّ.
أمّا في حال فوز “أزرق-أبيض” وتشكيل حكومة تعتمد على تحالف “ميرتس-العمل” دون “الليكود”، فمن المرجّح أن تحاول هذه الحكومة في البداية فتح مسار سياسيّ مع السُلطة الفلسطينيّة لا يُفضي إلى دولة أو تغيير جوهريّ في الموقف، إلّا أنّه يمنح السُلطة الفُرصة لإعادة فتح مسار سياسيّ ستسير معه، ولكنّه من غير المُرجّح أن يُفضيّ إلى أي اتفاق، خاصة أن هناك داخل “أزرق-أبيض” تيّارًا على يمين “الليكود”، يدفع إلى الضم من طرف واحد، ويتمثّل بتيّار “تيلم- موشيه يعالون”. في مثل هكذا حالة، من المُمكن أن يُعلن التحالف ضم الأغوار، ومن ثم الدعوة إلى فتح مسار سياسيّ، أو العكس، أو يفتح مسار سياسيّ، ومن ثم يُعلن فشله وضم الأغوار ومستوطنات أخرى. ومن ناحية أخرى، من الممكن أن يشكّل فتح مسار سياسيّ خطرًا على التحالف ذاته بسبب التباين في المواقف والرؤى داخله، وتأسيسه على أساس استبدال نتنياهو فقط، ما من شأنه أن يُبعد التحالف كليًا عن فتح هذا المسار والاكتفاء بالتصريح وإعلان ضم الأغوار. وفي حال شكّل التحالف الحكومة مع “إسرائيل بيتنا” و”يميناه” وأحزاب الحاريديم دون “الليكود”، فستزداد احتمالات الضم التدريجيّ بشكل ملحوظ.

السيناريو الثاني: ضم جميع الكُتل والأغوار دفعة واحدة
يقوم هذا السيناريو على إعلان ضم كافة الكُتل الاستيطانيّة التي سمحت الولايات المُتحدة بضمّها وفق “صفقة القرن”، وتحديدًا في مناطق (ج) والأغوار. وتدفع أحزاب اليمين الإسرائيليّ الدينيّ إلى هذا السيناريو وتحقيقه على اعتبار وجود فرصة لا يُمكن تفويتها، خاصة مع وجود الإدارة الأميركيّة الحاليّة، وقبل انقلاب الظروف وتغيّر الإدارة، لا سيما في ظل قرب الانتخابات الأميركيّة، إلى جانب أن أحزاب اليمين تعرف جيدًا أن مرحلة ما بعد نتنياهو ستكون أصعب بكثير من مرحلة وجوده بسبب علاقاته الدوليّة وسياساته، وأيضًا حاجته إلى هذه الأحزاب للاستمرار في الحكم. وبالتالي، فإن اليمين الإسرائيلي، وخاصة الديني، سيدفع إلى هذا السيناريو وبقوّة استغلالًا للفرصة، كما تشكّل ظروف نتنياهو القضائيّة وحاجته إلى اليمين الدينيّ، محفزًا لهذا السيناريو، خاصة وجود بعض الأطراف في اليمين الدينيّ تُطالب نتنياهو بتطبيق السيناريو الأول قبل الانتخابات، والثاني كدعاية انتخابيّة.
المخاطر في هذا السيناريو عالية جدًا، وهي بمنزلة قلب الطاولة كليًا وعدم ترك أي مجال للعودة إلى طاولة المفاوضات السياسيّة. كما أن نتائج هذا السيناريو ممكن أن تبدأ بمواجهة واسعة مع الفلسطينيين، مرورًا برفض عربي ودولي، وتنتهي إلى قطع كلّي للعلاقات مع الأردن على سبيل المثال، فضلًا عن أن هذا السيناريو لا يمنح إسرائيل الإمكانيّة للتراجع أو إعادة التفاوض.
يشكّل هذا السيناريو حلم اليمين الإسرائيليّ من “الليكود” حتّى “الصهيونيّة المُتديّنة”، ولكنّه ينطوي على الكثير من المخاطر السياسيّة والميدانية والمُستقبلية، خاصة أنه يغلق الباب كليًا أمام إقامة كيان فلسطيني سياسيّ مُتواصل. كما أن فُرص مروره داخل السياسة الداخليّة الإسرائيليّة الآن متوسّطة، خاصة أن “أزرق-أبيض” يرى أن الضم الواسع يختلف عن ضم مناطق مُحددة ضمن مُفاوضات ثنائيّة، وبالتالي من المؤكّد أن يدعم الحزب ضمًا تدريجيًّا، ويرفض ضمًا شاملًا، خاصة في ظل وجود حزب “يوجد مستقبل” داخل الائتلاف. وهذا السيناريو، مستبعد على المدى القصير حتّى إذا شكّل نتنياهو حكومة وحدة، ولكنّه ممكن. أمّا في حال فوز “أزرق-أبيض”، فستغدو فُرص تحقّق هذا السيناريو ضئيلة كليًا، خاصة أنه سيبعد القيادة الفلسطينيّة عن أي تعاطٍ مع التحالف، كما يرفضه “العمل-ميرتس” بشكل واضح، ويعدّه قتلًا للبرنامج السياسيّ. وبالأساس، لا يوجد في إسرائيل اليوم خارطة سياسيّة حكوميّة تدعم ضم كامل لكافة المستوطنات دفعة واحدة مع البؤر الاستيطانيّة، والضم يبقى في إطار تدريجيّ يبدأ من الأغوار وبعض مناطق (ج)، وهو الأرجح من حيث قياس ردّات الفعل.

السيناريو الثالث: مُفاوضات وفق معادلة “الضم وتبادل الأراضي”
يقوم هذا السيناريو على تغيير الموقف الفلسطينيّ والعربيّ من “صفقة القرن”، والقبول بالجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل استنادًا إلى رؤية “نصف الكأس الملآن”، بحيث يتم ضم مناطق معينة وفق اتفاق فلسطينيّ- إسرائيليّ على مبدأ تبادل الأراضي. وتزداد فرص هذا السيناريو، في حال فاز حزب “أزرق-أبيض”، وقرّر فتح مسار سياسيّ مع السُلطة، التي قد تقبل به وفق شروط معدلة تتعلق بالمناطق المستهدفة بالضم ومستقبل القدس. ومن المُمكن أن تفضي هذه المفاوضات إلى اتفاق على مبدأ تبادل للأراضي، تقوم إسرائيل بموجبه مثلًا بضم الكُتل الاستيطانيّة الكبرى، وبأقل تكلفة ممكنة، خاصة أن العرب والعالم لن يُعارضا الضم إن اتفق عليه الطرفان الإسرائيليّ والفلسطينيّ. هذا السيناريو يتعلّق كثيرًا بنتائج الانتخابات الإسرائيليّة، وهي غير مضمونة كليًا. وعلى الرغم من أنّه من المستبعد أن توافق القيادة الفلسطينيّة على الضم بصيغته المطروحة حاليًا، ولكن باتفاق مرحلي على مبدأ تبادل الأراضي هذا مُمكن وفق مسمّيات مُختلفة تكون بالنتيجة ذاتها، خاصة أن ائتلاف “أزرق-أبيض” تعهّد بالضم، وأعلن عدم موافقته على إخلاء المستوطنات الثابتة والكبيرة في الضفّة الغربية، التي اعتبرها مدنًا.
فرص تحقّق هذا السيناريو ضئيلة جدًا، بسبب الرفض الفلسطينيّ والعربيّ لأن تكون “صفقة القرن” الأساس للمفاوضات، إضافة إلى أن موضوع القدس الموحّدة كعاصمة لإسرائيل يشكّل عائقًا أمام تحقّق هذا السيناريو، وهو ما تعهّد غانتس بالمُحافظة عليه مرارًا وتكرارًا. ولا ترى الورقة أن هُناك اليوم في الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة من سيُوافق على تقسيم القُدس، أو يمنح الفلسطينيين سيطرة على الحدود مع الأردن، أو يقوم بإخلاء المستوطنات الثابتة في الضفّة. هذا السيناريو هو الأقل ترجيحًا وهو مستبعد. لكنّه يبقى واردًا، خاصة في حال عرض “أزرق-أبيض” اتفاقًا شاملًا يشمل القدس والحدود، وهو مستبعد أيضًا بسبب ما أعلنه التحالف من مواقف.
هناك شكل آخر من الممكن أن يتخذه هذا السيناريو، وهو تشجيع بروز أطراف ومجموعات فلسطينيّة توافق على التفاوض على أساس “صفقة القرن”، أو تقبل بالتعامل مع الضم من طرف واحد باعتباره أمرًا واقعًا دون الإعلان عن قبول هذا الواقع، وهذا المنحى مستبعد في ظل الرفض الفلسطيني الرسمي والوطني والشعبي للصفقة، ولكن قد تزداد فُرصه بشكل ملحوظ في حال إضعاف السلطة الفلسطينية بسبب مزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية عليها، أو نشوء صراع بين مواقع القوة والنفوذ في حالة غياب الرئيس الفلسطيني عن المشهد السياسي، وهو ما يمنح الحكومة الإسرائيلية القادمة، أيًا كان شكلها، الفُرصة للضم من جهة، وعرض التعاطي من أطراف فلسطينية من جهة أخرى، ما يشكّل فرصة لأفراد أو مجموعات فلسطينية للتعامل مع هذا الواقع تحت ذريعة تحقيق الممكن.

الخاتمة: مسلسل طويل
ترجّح الورقة السيناريو الأول، وهو سيناريو حذر، يسمح لنتنياهو بالضم وفي ذات الوقت قياس نتائج الضم، وتفادي حشر القيادة الفلسطينية في الزاوية، وعدم تهديد العلاقة الأردنيّة – الإسرائيليّة التي سيدفع نتنياهو ثمنها غاليًا في السياسة الداخليّة، خاصة أن آخر الاستطلاعات تشير إلى أن 70% من المجتمع الإسرائيليّ يرى في اتفاقيّة “وادي عربة” ذخرًا إستراتيجيًّا يجب الحفاظ عليه وعدم التفريط به. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فإن هذا السيناريو يمنحها الإمكانيّة لقياس تأثيرات خطواتها، وبالتالي فحص ميزان الربح والخسارة جرّاء هكذا إعلان، والانطلاق بعدها إلى رسم سياسات جديدة، إمّا باتجاه المزيد من الضم، أو التراجع في حال كانت هناك ردّة فعل فلسطينيّة أولًا، وعربيّة ثانيًا، ودوليّة ثالثًا، تجعل من إعلان الضم مكلفًا أكثر من عدمه.

الهوامش
[1] انظر: استطلاعات رأي: صفقة القرن لم تغيّر خارطة المُعسكرات، صحيفة “هآرتس”، 29/1/2020. bit.ly/37SsDa5
[2] مجلس المستوطنات: نعارض صفقة القرن، ولن نسمح بإقامة دولة فلسطينيّة، موقع “هيدبروت”، 28/1/2020. bit.ly/2SfdE3m
[3] مقابلة إيليت شاكيد ضمن برنامج “قابل الصحافة”، القناة 12.bit.ly/2GYuGOh

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى