الذاكرة ، و الذاكرة الروحية.. صورة ” العَجَلة و الحصان “

1▪︎ ربما يحتاج التأمل الذاتي ، في المقام الأول ، إلى مراجعة الكثير ممّا اعتدنا على استعماله في المفاهيم استعمالا آلياً من دون انتباه منّا إلى أن الكثير من استخداماتنا اليومية للكثير من تلك المفاهيم ، لا تعدو أن تكون تقليداً ببغاويّا لعجوزات في العادات مارسها غيرنا علينا ، و لاقت عندنا استحسان الكسالى و المستسهلين و المستهلكين الصُّمّ السّلبيين ، فمارسناها على أنفسنا و على الآخرين.
2▪︎ و لا يشفع لنا أننا نبني على “الآخر” و نتقدم ، بتصوّراتنا المزيّفة ، عليه ، أو أننا نتجاوزه في تعاقب الوقت الذي يُحصى بالمعدلات المألوفة لنا ، للمقاييس ، أو في غيرها من المقاييس التي قد نعلم أو لا نعلم عنها شيئاً ، إلّا ما يقينا أمام أنفسنا وَهْمَ العيش في انعزال مزعوم.
3▪︎ لطالما كنّا ، من دون انتباه ، مجرد مستهلكين غير منتجين ، و منفعلين غير فاعلين ، أمام صورة العالم الذي يتوسّع ، فيما نحنُ ننخفض و نَضيق ، فإذا بنا تنكمش قدراتنا التأملية و معها ، تالياً ، قدراتنا على الفعل ؛ و هذا وحده أحد أهم أسرار تخلفنا من بين المتخلفين ، و تقاعسنا في عالم يطالبنا بالمزيد من معانقته و الانتماء إليه على ما ينبغي أن يكون عليه هذا الانتماء ، بحيوية و من دون تعصّب و جمود و تحنّط في بلاهات ما تقودنا إليه فروض أسرار هذا الوجود الذكيّ ، التي نجهلها و نتجاهلها بقصد و من دون قصد ، في مسيرتنا التي يجب أن تكون ملتزمة و أكثر التزاماً بواجبات أخرى للوجود ، في هذا الوجود.
4▪︎ يتوقف فهمنا للعالم على جملة مبادئ و شروط مورست من قبل القلّة القابلة لطبيعة الكينونة بوصفها حكمة ناجمة عن الاندماج الواعي و غير الواعي ، و لكنْ المخلص و الحقيقي ، لوجود البشر كنوع مغاير عن سائر أنواع الوجود الحيّة في الطبيعة و العالم ، و هو ما يُفضي إلى المزيد من الإخلاص في الاستجابة إلى نداء الكون الذي علينا أن نسمعه في ما يتجاوز سمعنا العضوي المباشر ، الفيزيولوجي ، حيث يأخذنا الاستماع الأوّل في أشكال و قنوات مختلفة من الاستماع إلى حفيف الأسرار التي تغمر حياتنا ، حياة البشر ، بعناية و حنان و عطف و تعاطف حتّى الاحتضان الدافئ الذي يُعمّق حولنا ، و فينا ، نوعنا المشروط بالقدرة على مواصلة إثبات نجاحنا الفردي و الاجتماعي و الكوني ، في مشروعِ وجودٍ يحتاج منّا ، دوماً ، إلى التعليل، و إلى المزيد من التّسويغ ؛ مُبتعدين ما أمكن عن كلّ ما قد رتّبتْهُ المحفوظات و التقاليد الآلية ، الميكانيكية ، مُتَحَدِّين عجمةَ قيودنا الثقافيّة ، متقدمين إلى إثبات ذكائنا البشري الذي لا يَحده سوى أننا جزء من ذكاء كوني واسع فسيح و حكيم.
5▪︎ إن من أخطر ما يجعلنا مغلولين إلى أعناق وعينا الاجتماعي و الجمعي و الفردي ، القاصر و المشلول ، واقع أننا قد خسرنا مهارات التأمل الأولى التي رافقت ما يُسمّى ، جهلاً ، بزمن الأسطورة “البدائي” البشري ، هذا الزمن الذي يجهل الجميع أنه كان عصراً ذهبياً للتأمّل البشري في معاني و غايات الوجود ، بواسطة “علوم” و “معارف” نقية ، أُولى ؛ و الذي لولاه ما كان لنا ذلك الماضي الذي وضع حاضرنا على سكّة التقدّم المعاصر ، المحفوف بالكثير من تهديدات وجودنا بالنكوص و الارتكاس المعاصِرَين ، مع كل ما يختلط فيه الحاضر ، حاضرنا ، من “خرافات” و أوهام و “مقاصد” هذا الحاضر الكؤود .
6▪︎ لقد تحولنا ، في حدود ما نقصد ب “نحن” ، بقصد و من غير قصد ، إلى مجرد ” آلات” ببغاوية في ما ندعيه من “علوم” و “ثقافات” و “معارف” نراها ، و بقصر نظر ، كافية من دون أن نعلم أنه حتى كفاياتنا الوجودية ، نفسها ، لم تعد تشكل من حاضرنا سوى الحد الأدنى لمواصلة “وجودنا” المزيّف في وظائف يومية ، تَنَاقصَ فيها الإبداع و الخلق إلى حدّه الأدنى ، في الخبث ، الذي يتطلبه مجرّد الاستمرار في ممارسة الوظائف اليومية للوَحدة العضويّة ، التي تتمكّن منها سائر الكائنات الحيّة ، التي هي ليست حكراً نوعياً على هذا الهيكل البيولوجي الذي غدا واقعنا الفردي المعاصر ، بكل ما يحمله من تدنٍّ عن غيره ممّن ، و ممّا ، يشاركنا فيه الحياة من مختلف الكائنات الحيّة أو الجامدة ، كما اعتدنا عل تسميتها و حشرها في هذا الفضاء ؛ حيث راوح أخيراً و يراوح في هذا السّعير الذي يُميّزنا كواقع اجتماعيّ و سياسيّ ، و إنسانيّ خاص ، عن غيرنا من الشّعوب و المجتمعات التي احتلّت مقدّمة هذه الحضارة البشريّة المذهلة.
7▪︎ لا شيء يُسوّغ الوجود البشري أكثر من تعليل مبدع للوظيفة التي خلقنا لها و فطرنا عليها ، مع أننا تجاوزناها ، عجزاً عن تلبية متطلباتها ، بجهلنا البشري المأساوي الفريد.
إن موجوديّتنا معلّلة ، أصلاً ، بمهمّة تتجاوز كثيراً مهمّة التّكديس الذّاكريّ بالمحفوظات ، نحو اكتشاف للحكمة من وجودنا في هذا الكون الفسيح .
إنّها ، باختصار ، العودة الإراديّة إلى “ذاكرة الرّوح” التي تتباين بشدّة ، و تتناقض ، مع ذاكرة العضويّة البشريّة أو ما نسمّيها ” ذاكرة الجسد “.
8▪︎ من بين الكثير ممّا يستدعي إعادة “vالنقد” الوظيفي لحياتنا العضوية و الفيزيولوجية العصبية ، واقع انغماسنا في استخدامات خرقاء لملكات و قابليات و مهارات ، خُلقت لنا ، معنا ، و قد أسرفنا في استعمالاتها الخاطئة و غير العصماء.
و أمّا في احتياجاتنا “الثقافية” الحالّة ، كان و ما يزال من أشهر ما يُمليه علينا وجودنا من نقد عاداتِ المكوّنات ، هو ضرورة إعادة الاعتبار إلى وظائف عضويّتنا الحية ، و في طليعتها ” ذاكرتنا ” الفرديّة و الجمعية على حد سواء ؛ إذ أثبتت استخداماتنا المجرّبة للذّاكرة ، قصورنا الحضاريّ الذي لا نقاش فيه.
و إذا كانت “الثقافة” الجمعية هي أكثر من مجموع “الثقافات” الفردية عند كلّ منّا ، بفضل تفاعلات المكوّنات التي غالباً ما تنأى عن التحديد و التوصيف ، فإن نقد “الذّاكرة” الفرديّة كفيل بإلقاء الضوء على أسباب جوهرية من أسباب قصور “ذاكرتنا” الجمعية ، على مختلف الصّعد و مفردات الأداءو، في مناسبات الحضور و الحضارة و الوطنية و الوجود.
9▪︎ الذّاكرة ، في النظرة الدقيقة ، ليست من مُعتبرات و اعتباريّات الذّكاء أو العبقريّة ، و لا هي كذلك من مهارات التكّيّف المعرفيّ و الثقافيّ مع التّقدم و أسبابه ، أو مع الحضارة و دوافعها و حوافزها الثقافيّة ، إلّا بقدر ما تتسبّب في حفظ خبرات التّجارب العقلية الواعية ، لتشّكل منها قاعدة تطور إدراكيّ لا يخضع لاحتفاليّات و تظاهرات التميّز و التّمايز و الانعتاق.
إنّها، و باختصار وصفيّ ، إحدى القابليات التي تجعل من الوظائف العصبيّة حيّة و قادرة على مواكبة الإرادة في العطاء و في الأداء.
و على هذا ، فالذاكرة هي تجمّع عشوائيّ لفوضى معطيات الحواسّ ، تنضافُ إلى حاجات الفهم ، لتندغم معها مكونةً قاعدة من قواعد الانتقال و المواكبة لعملية الحياة..
غير أنّها تتجاوز ذلك لتصبحَ عبئاً على الإدراك ذاته ، إذا هي حُشيت بالمحفوظات حشواً إرادياً مكتفياً بذاته ، لتشكّل عائقاً إدراكيّاً حيّا أمام حاجات التغيّر و التغيير ، و عندما تُصبح ، بذلك ، في موقع المنطلق أو المنطلقات المعرفيّة التي تفرض حيويّتها المتغيرة باستمرار ، فإذا بالذّاكرة ، هنا ، تعمل على مقاومة المعرفة الضرورية للتقدم و التغيير.
10▪︎ تشكّل يقينيّات الذّاكرة “الإرادية” القويّة على صعيد التعلّم المعرفيّ الضّروريّ للإبداع ، عقبة جديّة و متينة أمام العطاءات التّفاعليّة التي تتنوع أسبابها الجوهرية ، متّصفة بالثّقة المرنة بالمكوّنات ، أمام “الثّقة” البلهاء بكفاية معطيات الذّاكرة في المناسبات التي تتطلّب ثقة بالمخزون الثقافي أقلّ سويّة سببيّة معرفية و إبداعية ، و أكثر مرونة لنفاذ العالم المستمرّ إلى حيّز الإدراك.
و الذّاكرة التي تعتمد معطياتها و حمولاتها بما هي كافية ، أو أساسيّة ، أو رئيسيّة ، في التّعلم المبنيّ على حوار “الآخر” ، تشكل ضرباً من العبث الذي ليس له دواءٌ و لا شفاء.
من نتائج الملاحظة المتّفق عليها ، أن نجد الكثيرين ممن يعتمدون على ذاكرتهم كمحفوظات غيبيّة ، هم من المتشددين و الممارسين للعنف الثقافيّ ، بما توفّره لهم ذاكراتهم من أرضيّة “منافسة” ، زعماً ، للتّفكير و أصول الإبداع و الحوار.
بينما الأنكى من هذا ، أن يعتمد هؤلاء على “الذّاكرة” بوصفها أداة للمقارعة الثقافيّة التّفوّقيّة ، مع تجاهلهم ، أو جهلهم ، بأن هدف الحوار الثقافي هو التّفوّق على الذّات قبل التّفوّق على “الآخر” أو الآخرين.
11▪︎ لكل منّا تجربته الخاصّة مع ” الذّاكرة العضويّة ” و قوّتها أو متانتها ، أو ضعفها و هشاشتها ، في الحدود النموذجيّة أو الدّنيا التي تساهم ، في أقلّه ، في الحفاظ على النوع و الشخص في مبادلات العلاقات المختلفة التي ترتّب على المناسبات الأداء.
و لكلّ منّا ، أو لأغلبنا ، تجربته المُريعة مع حفظة الأفكار و الأقوال و العبارات ، الذين يطرحون أنفسهم كمعادل كمّي و نوعيّ لمظاهر الفكر و المعرفة و الخلق و الإبداع ؛ و غالباً ما تكون مناسبات هذه التجارب و بقاياها مؤسفة أو غير سارّة ، و في أحوال أخرى، لا تُنسى نتائجها غير الموفقة.
12▪︎ في التأمّل الجادّ ، نحن قادرون أن ندرك أسباب هذه الظواهر من خلال الاعتبارات الكئيبة التي تحيط بعمليّة التعليم و التربية و التثقيف ، و التي تعمل وفق تقليد متخلف و مقصود في تآمره على الأجيال و على أصحاب الكفاءات و العقول الحرة و الفاتحين الفكريين ، مضمونه الإيحاء بالتّفوّق العقلي و العلميّ لأصحاب المحفوظات الأكثر غزارة ، على اعتبارهم مرتَّبون حسب ما تقتضيه التقاليد و “المؤسّسات” الاجتماعية و الأهلية و السياسيّة ، بأنواعها الثقافيّة المعروفة ، و هذا حتى لو كانت المناسبة هي استظهار “ضروريّ” أو “قياسيّ” للمحفوظات ، أو التّقدّم إلى الامتحانات العجماء التي نعرفها جميعاً و التي شكّلت ، و ما زالت تشكّل ، مؤامرة حقيقيّة على التّربية و التّعليم و التّحصيل و الجدارة و المعرفة و الإبداع.
نحن لا نعرف في التاريخ أن انبثاقاً إبداعيّاً واحداً ، ترك أثره على مجمل حضارة العالم ، قام على أساس المحفوظات و الذّاكرة ؛ و لكنّنا نعرف ، أيضاً ، و بالتجربة الحسيّة اليوميّة ، أن المحفوظات و “الذّاكرة” التّسجيليّة ، قد قامت ، علانية ، بدور الكابح لعملية التّفكير الحرّ المؤسّس للخلق و الإبداع.
13▪︎ بقدر ما تشكّل الذّاكرة كابحاً و عائقاً للفكر ، و تلجم الإبداع ، فإنها تُلغي حيويّة “العقل” البشريّ الذي عنوانه الأساسيّ هو “الحرّيّة” و الانعتاق من الحدود و التقاليد السّاكنة في الذّاكرة و المحفوظات.
و بقدر ما تختفي “حريّة” العقل ، تنشط ، و بواسطة “الذّاكرة” إيّاها ، مختلف صنوف العنف و التّطرّف القائم على أساس أفضليّات وهميّة عرفنا و نعرف ، أغلبيّتنا ، مخاطرها الحضارية و العلمية الاجتماعيّة و السياسيّة ، و مؤدّاها العمليّ الواقعيّ الأخير.
14▪︎ كما أسلفنا ، فإنّه في مقابل الذّاكرة الجسديّة ، ثمّة ما نسمّيه ” ذاكرة الرّوح “..
تختلف ذاكرة الرّوح هذه عن ذاكرة الجسد ، بأنّ لها وظيفة اتّصاليّة عظيمة بالأصل النوعيّ لجنسنا البشريّ ، مع جينالوجيّة الوجود و الغاية من هذا الوجود.
قليلون اليومَ من يقومون بهذه المسؤوليّة البشريّة المترتّبة على وجودنا في الكون ، من جهة أنّ مصيرنا مرتبط ، مباشرة ، بما تُمليه علينا قدراتنا على معاصرة ذاكرة الروح الأولى ، القديمة ، التي حُمِّلْنَا بها ، فيها ، جميع ما نحتاجه للتّكيّف و المواءمة و التّحمّل في معرض استعراضنا المتوالي لِعَالَمٍ ، هو بالتّأمّل ، “واضح” المعالم المكنونة ، عن طريق معاصرتنا ذاكرة الرّوح دون ذاكرة الجسد..
مع أنّنا نتجاهل عمداً وضوحه هذا في محدوديّة ذاكرتنا التي تحوّلت إلى تخزين القبور فينا بدلاً من تخزين عناصر و أسباب الكشف و الخلق و الإبداع.
ففي ذاكرة الرّوح ، و عن طريقها ، و بها ، نحن نكون على تماسٍّ مباشَرٍ مع أصلنا الكونيّ العظيم.
ما زال الإنسان يشكّل لغزاً عصيّاً على التأويل و التّفسير بواسطة آليّات الثقافة التي أهدرت علاقتها مع جينالوجيا التكوين ، على مذبح المحفوظات الكليلة في ذاكرة الجسد.
على منوال ذاكرة الجسد ، نحن نضعُ مستقبلَنا وراءنا ، موضوعيّاً ، بدلاً من أن نتطلّع إليه فيوما هو مقبل من الأحداث ، بواسطة اتّصالنا بالغاية التي هي موجودة أمامنا و خلفنا ، و وراءنا ، عن طريق تفكيرنا الحرّ الّلا مقيّد و غير المغلول باتّجاه خطيّ “منطقيّ” قاصر و منقوص و مزيّف ، عن طريق معاصرتنا الأصليّة للكينونة بفضل ذاكرتنا الرّوحيّة و ليس بفضل ذاكرة الجسد.
من الطبيعيّ أن تكون ، كما يُقالُ ، العربةُ خلف الحصان.. غير أننا باستخدام ذاكرتنا الجسديّة في ما يتجاوز حاجتنا المتواضعة لها ، في جعلها تقود حاضرنا ، و من ثمة ماضينا و مستقبلنا ، فإننا نجعل منها العربة التي تتقدّمنا نحن كحصانٍ متعثّر و ملجوم.
في حين أنّنا ، و مع إخلاصنا لذاكرة الروح التي تحمل فيها جميع خريطة التّقدم نحو الإبداع النموذجيّ و “المثاليّ” (على مثال) ، و نحو الغاية في معرض و سياق الأهداف ، فنحن ، عندها، نكون في موقعنا البديهيّ و الصحيح ، و السّليم ، حيث نكون نحن العربة و تكون هي الحصان.
و إذا تراءى لأحد أنّ ثمّة تناقضاً منهجيّاً في كون ذاكرة الروح هي الحصان الذي يقود عربتنا ، حيث نحن هذه العربة الكونية المقصودة بالوصول ؛ فذلك لأنّه ما زال يستعمل إيحاءات ذاكرة الجسد التي توحي له بأنه هو الأصل و ليس أصله ، أصلنا الرّوحيّ العميم ، و بالتالي ما زال يضع العربة أمام الحصان ، و ما زال يتعثّر بذاكرة الجسد التي تحتّم عليه كلّ هذه المحدوديّة في استكشاف آفاق الطريق.
15▪︎ قال ( برغسون ) أبو التّأمّلات الفلسفية و العلميّة الإدراكيّة العصبيّة في هذا العصر ، مرّة :
( إنّ الشّيء الذي يحتاج إلى التّفسير هو النّسيان ، و ليسَ الذّاكرة ) ..
و على ضوء ما تقدّم يمكننا أن نفهم قول ( برغسون ) على أنّه نقدٌ للذّاكرة باعتبارها تحصيل حاصل ، و ليست معقداً للتأمّل و التّأويل و التّفسير.
فحيث يحتاج النّسيان إلى ” تفسير ” ، فإنّنا نكون على علاقة جديدة مع واقعة جدّيّة و حقيقيّة هي “النِسيَان” ، مع كلّ ما يوحي هذا به من تشكيكٍ بقيمة الذّاكرة التي تتراجع في الدّرجة إلى الصّفّ الثاني أمام النِّسيان.
ليست ” الذّاكرة ” ( العضوية ) ، إذاً ، “واقعة” أو “ظاهرة” أصليّة من الدّرجة الأولى ، و هي لهذا ، بالضّبط ، أسوأ ما يُمكن أن تُفسّر به الأشياء التي تنتمي إلى ذاتها و إلينا بعمق ، كما انها أيضاً مُعتَمَد غير حصيف ، في مناسبات التّفكير و الثقافة و التأمّل و الخلق و الإبداع و التأسيس و التأصيل في تاريخ البشر في الكينونة و التّكوين ..
و عليه، فهي أكبر مِتراسٍ يواجه العقل في التّقدّم و الحرّيّة و التّغيير.
في النّهاية لنا أن نقول إنه ربّما كانت ” الذّاكرة ” الإبداعية الحقيقيّة ، بمجملها الحيويّ التطوّريّ ، هي استباقٌ للمستقبل ، أكثر من كونها اجترارا للمحفوظات و الماضي ، بقدر غير خاضع للمقارنة أو القياس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى