الاستفادة من الانتفاضة الحاليّة لإحداث تغيير سياسيّ مستدام

 

تشكّل التظاهرات الشعبيّة التي تعمّ لبنان التطوّر السياسيّ المحليّ الأبرز الذي شهده البلد منذ نهاية الحرب الأهليّة. وقد يكون من المفيد النظر في الإمكانات السياسيّة الذي يمكن أن تحقّقها هذه الصحوة الجديدة على المديين القريب والبعيد.

على المدى القريب، أمدّت التظاهرات الشعب بالقوّة اللازمة لإسقاط الحكومة الفاسدة وغير الفعّالة وبالقدرة على رفض أيّ حكومة جديدة أو القبول بها. فضلاً عن ذلك، رفع المتظاهرون مطالب وطنيّة ملحّة وأجبروا الطبقة الحاكمة على النظر في هذه المطالب.

أمّا على المدى البعيد، فقد كان للانتفاضة مفعول أشبه بمفعول الثورة الاجتماعيّة. فقد ولّدت وعياً وطنيّاً جديداً وإرادة وطنيّة جديدة وهي تُنتج جيلاً من المواطنين في جوّ من الوحدة الوطنيّة والوعي المدنيّ والتمكين الشعبيّ. وبالتالي، يمكن تشبيهها نوعاً ما بفترة الستينيّات عندما قاد جيل جديد في لبنان وفي الغرب حركة تغيير اجتماعيّ وثقافيّ نبذت النظام القديم والقيم السابقة وعرضت مساراً جديداً للمرحة المقبلة.

وبغضّ النظر عن سقوط الحكومات أو صعودها في الأشهر المقبلة، لا شكّ في أنّ ما يحصل بدأ يغيّر القيم والهويّة المدنيّة لجيل بكامله. ونحن نشهد بالفعل ولادة لبنان جديد.

وفي هذا السياق، لا بدّ من التنبّه إلى مسارين اثنين: أوّلاً، المسار الاجتماعيّ والثقافيّ الذي يحصل فيه تغيير كبير وطويل الأمد في صفوف المواطنين بغضّ النظر عن الحكومة، وثانياً، المسار السياسيّ البحت الذي تسقط فيه الحكومات وتصعد حكومات أخرى ويُنتخب فيه القادة السياسيّون أو يعيَّنون وتصاغ فيه السياسات.

يرتبط هذان المساران واحدهما بالآخر، لكنّهما أيضاً منفصلان. فثورة القيم والهويّة المدنيّة قد انطلقت بالفعل ويصعب على الطبقة الحاكمة إيقافها أو عكس مسارها. هذا هو التغيير الأكثر أهميّة واستدامة الذي سيؤثّر على لبنان لسنين طويلة، ومن الضروريّ الحفاظ عليه وتوسيع نطاقه من خلال مواصلة العمل الاجتماعيّ والتشبيك المدنيّ والإنتاج الفنيّ والمشاركة العامّة المستمرّة.

أمّا المسار السياسيّ فيبدو، على المدى القريب، أكثر تصلباً ومقاومة. فثورة 2019 لم تنتج بعد قيادة سياسيّة بديلة لتحلّ مكان القيادة القديمة. ويقول بعض المشاركين في الثورة إنّه من المفضّل أن تبقى – على المدى القريب – تظاهرة عامّة وحركة ثوريّة وألا تدخل في مغامرة اختيار ممثلين أو قادة جدد. فالطبقة الحاكمة القديمة (وأعني بذلك قديمة الطراز لا قديمة العهد) قد تبقى بالفعل هي نفسها لسنوات عدّة على الرغم من التغيّر السريع الذي يشهده المجتمع، إلا في حال وجود استراتيجيّة واضحة للاستفادة من هذه الصحوة الوطنيّة من أجل إحداث تغيير سياسيّ دائم وفعّال. وممّا لا شكّ فيه أنّ الصراع على السلطة بين الطبقة الحاكمة القديمة والتحرّك الشعبيّ الصاعد سيكون طويلاً ومريراً وسيستمرّ لسنوات لا لأشهر. فلا أحد يتخلّى عن السلطة بسهولة أو بمحض إرادته.

عناصر السلطة
ثمّة ثلاثة عناصر للسلطة، أوّلهما قوّة الأماكن العامّة، أي القدرة على حشد مئات آلاف المواطنين للنزول إلى الساحات والشوارع وإنتاج خطابات وديناميّات جديدة وفرض إرادة شعبيّة بقوّة التعبئة وكثرة الأعداد. لقد أثبت الحراك الحالي أنّه قادر على تحقيق ذلك كلّه، وسيشكّل ذلك على الأرجح أداة هامة للتغيير السياسيّ لسنوات طويلة. ويكمن التحدّي هنا في بناء شبكة التعبئة هذه والحفاظ عليها وأيضاً استخدامها استراتيجيّاً لئلا تفقد زخمها أو تؤدّي إلى ردّ فعل شعبيّ سلبيّ، فضلاً عن الحفاظ عليها كوسيلة سياسيّة لفترة طويلة.

أمّا العنصر الثاني فهو القدرة على استعادة مؤسّسات المجتمع المدنيّ. فقد انطلقت الثورة بالفعل من المجتمع المدنيّ والمنظّمات غير الحكوميّة التي اضطلعت بدور جوهريّ في التعبئة والتنظيم ونشر الرسائل في هذه التظاهرات. وينبغي الحفاظ على شبكة المنظّمات غير الحكوميّة هذه وتوسيعها قدر الإمكان في مختلف المناطق والبلدات لكي تصبح شبكة شعبيّة مستدامة. لكنّ المجتمع المدنيّ يشمل أيضاً شبكة النقابات المهنيّة والاتّحادات العماليّة ورابطات رجال الأعمال ونقابات المعلّمين والمؤسّسات التعليميّة والوسائل الإعلاميّة وغيرها من الشبكات والهيكليّات التي تملأ الفراغ بين المجتمع والدولة. وقد حقّقت الثورة تقدّمها الأوّل في هذا المجال مع فوز مرشّح مستقلّ في انتخابات نقابة المحامين في بيروت، لكنّها بحاجة إلى إطلاق حملة استراتيجيّة ومستدامة للانخراط في هذا القطاع الوسيط المهمّ وتعزيز وجودها ونفوذها فيه.

والعنصر الثالث والأخير هو بناء السلطة داخل الدولة نفسها. ففي النظام السياسيّ اللبنانيّ، تكمن السلطة في مجلس النوّاب، وإذا لم تتمكّن الثورة من دخول هذا المجلس من الباب العريض، سنستمرّ في التفاوض مع طبقة سياسيّة قويّة – ومنتخَبة بحسب الأصول! – من موقع ضعف كبير. وبالتالي، إذا أرادت الثورة الانتقال تدريجيّاً من مرحلة رفع المطالب إلى مرحلة حشد المواطنين لإيصال مجموعة جديدة من النوّاب إلى السلطة والإطاحة بالنوّاب السابقين، يتعيّن عليها وضع استراتيجيّة مستدامة للتحضير لانتخابات نيابيّة جديدة والتنافس فيها وتحقيق الفوز.

الانتخابات
إنّ الفوز في الانتخابات ليس مهمّة صعبة، لكنّه ليس بالسهل أيضاً. فقد نجحت انتفاضات كثيرة في العالم العربيّ في حشد تظاهرات على مستوى الوطن وإسقاط الحكومات، لكنّها عجزت عن ترجمة الزخم الوطنيّ إلى نتائج ملحوظة في الانتخابات المفتوحة. ومع أنّ الطبقة الحاكمة الحاليّة في لبنان تشهد تراجعاً كبيراً في شعبيّتها، إلا أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّها ستخسر أو تزول نهائياً في الانتخابات المقبلة. فسلوك المواطنين الانتخابيّ يختلف كثيراً عن الأنماط العامّة السائدة في التظاهرات الشعبيّة.

أوّلاً، تشكّل المشاركة الانتخابيّة تحدّياً كبيراً. فالكثيرون من أبناء الجيل الجديد الذين يشاركون في الاحتجاجات والتظاهرات غير ملمّين أو منخرطين بالأنشطة الانتخابيّة التي تتطّلب جهداً كبيراً وقد لا يرغبون في تكريس وقتهم وطاقتهم للحملات الانتخابيّة واستمالة الناخبين.

ثانياً، ثمّة قسم كبير من الناخبين الذين يؤيّدون الاحتجاجات أو حتّى يشاركون فيها، لكن تربطهم علاقات انتخابيّة قديمة مع أحزاب حاليّة وممثّلين سياسيّين حاليّين. لذلك، من الضروريّ استمالة هؤلاء الناخبين بطريقة صبورة من خلال إقناعهم بأنّ الحراك – أو المنظّمة السياسيّة أو الحزب السياسيّ الذي سيصبحه – يمثّل بديلاً سياسيّاً مهمّاً ومستداماً وبأنّ النوّاب الذين سيُطلب منهم التصويت لهم يشكّلون خياراً أفضل وأكثر استدامة على المديين القريب والبعيد.

ويتعيّن على الحراك التحوّل إلى حراك سياسيّ محدّد ومنظّم بشكل أكبر وتعزيز وجوده في مختلف أنحاء البلاد وإنشاء منصّة سياسيّة واضحة وجمع عدد من الممثّلين الناشئين المستعدّين للسعي إلى تحدّي النوّاب الحاليّين والفوز عليهم في الانتخابات المقبلة، إلا إذا كان الحراك لا يريد منافسة السلطة السياسيّة الحاليّة، بل يفضّل البقاء خارجاً و”مطالبة” الطبقة الحاكمة بالاستجابة لمطالبه.

القانون الانتخابيّ
يُعتبر موضوع القانون الانتخابيّ موضوعاً مهمّاً يستوجب التطرّق إلى نقاط عدّة. أوّلاً، إن لم نكرّس ما يكفي من الجهد والطاقة والوقت والموارد لإعداد حملة انتخابيّة وطنيّة قويّة في السنة المقبلة أو السنتين المقبلتين، لن نحقّق نتائج إيجابيّة في الانتخابات بغضّ النظر عن القانون الانتخابيّ. بتعبير آخر، يشكّل التنظيم والإعداد الانتخابيّين الضخمين والمكثّفين أولويّة قصوى نظراً إلى ضرورتهما وأهميّتهما. فما من قانون قادر على تحقيق الفوز لنا في الانتخابات إذا كنّا عاجزين عن جذب مئات آلاف الناخبين إلى صناديق الاقتراع وعن جمع مرشّحين أقوياء قادرين على هزيمة النوّاب الحاليّين الأكثر خبرةً منهم. وبالتالي، إذا عرفنا كيف نحضّر جيّداً للانتخابات، سيحقّق مرشّحو الثورة الجدد نتائج جيّدة في الانتخابات المقبلة أيّاً كان القانون الانتخابيّ المعتمد.

ثانياً، إنّ الإصرار على مناقشة وصياغة قانون انتخابيّ جديد كشرط مسبق للانتخابات يشكّل مجازفة حقيقيّة بما أنّه قد يصبّ في مصلحة الطبقة الحاكمة التي قد توافق على هذا المطلب وتتحكّم بالوقت من خلال المماطلة في “المحادثات” بشأن القانون الجديد لأشهر أو سنوات. لقد سبق أن حصل ذلك بالفعل في السنوات الماضية عندما أرجئت الانتخابات مرّات عدّة بحجّة عدم التوصّل إلى اتّفاق بشأن قانون انتخابيّ جديد.

ثالثاً، يُعتبر القانون الانتخابيّ الحاليّ – الذي يجمع بين التمثيل الأكثريّ والنسبيّ – عمليّاً وقابلاً للتطبيق وهو يمنح المرشّحين الجدد فرصة كبيرة للترشّح والفوز بشرط أن يكونوا مشاركين في حملة وطنيّة قويّة تغطّي الوطن ككلّ، بالإضافة إلى كلّ منطقة وقضاء فيه. إنّ الغاية المقصودة هي تنظيم الانتخابات قريباً والوصول إلى مجلس النوّاب، ويمكن تحقيق ذلك في ظلّ القانون الحاليّ بشرط أن تكون التحضيرات جدّية. وبعد دخول المجلس، تبدأ الجهود الأطول أجلاً المتمثّلة بصياغة قوانين انتخابيّة بديلة والنظر في إجراء مراجعات أو إصلاحات مهمّة أخرى على صعيد النظام الدستوريّ ونظام الحوكمة.

تشكّل ثورة 17 تشرين الأول فرصة تاريخيّة للبنان لتغيير الطبقة الحاكمة الفاسدة والطائفيّة وإحداث تغيير سياسيّ كبير ومستدام. وتتطلّب هذه الفرصة استراتيجيّة واضحة وتخطيطاً ومثابرة. فهذه الفرص نادراً ما تطرح نفسها في تاريخ الأوطان، وعلينا الاستفادة من الفرصة المتاحة لنا اليوم لإحداث تغيير سياسيّ دائم وتحويليّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى