اردوغان يقتدي بالمنهج الاسرائيلي في تفكيك الخارطة الديموغرافية لشمال سوريا

يزخر تاريخ الإمبراطورية العثمانية بقصص المبعدين وحكايا المهجّرين وعمليات توطين اللاجئين، خصوصا في سوريا التي كانت دائما محل عبث العثمانيين بهندستها الديموغرافية.
من ذلك التاريخ، يستلهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قصة المنطقة الآمنة لإعادة توطين اللاجئين. ورغم أن اللاجئين الذين يقصدهم أردوغان هم سوريون في الأصل، إلا أن الصورة التي تعكسها سياسة التهجير التي اقترحها تحيل مباشرة إلى الماضي وعمليات تهجير ونقل السكان التي كانت تشرف عليها الإمبراطورية العثمانية من أجل فرض ديموغرافية محددة في المنطقة.
ويشبه نك اشداون، المحلل السياسي في مجلة فورين بوليسي، طرح أردوغان، الذي لم يلق قبولا دوليا، بالعمليات التي كانت تعرف باسم سورغون (الترحيل أو النفي) خلال العهد العثماني.
كانت هذه العمليات تستخدم كشكل من أشكال الهندسة الديموغرافية ذات الدوافع السياسية. وقد تركت هذه الممارسات بصمة لم تمح في عدة مناطق ومنها شمال سوريا.
ويذكر اشداون كمثال حادثة نقل سكان الأناضول إلى البلقان لتعزيز الحكم العثماني في القرن الخامس عشر، وكيف فر اللاجئون المسلمون من الاضطهاد والتطهير العرقي في البلقان والقوقاز والقرم.
التاريخ يعيد نفسه
بعد خضوع منطقة البلقان إلى الإمبراطورية الروسية سنة 1783 واندلاع حرب البلقان الثانية سنة 1913، هرب ما يصل إلى 7 ملايين مسلم إلى الأراضي العثمانية، لكنهم سرعان ما تعرضوا إلى التهجير القسري عندما رحّلتهم السلطات العثمانية إلى مناطق حدودية لتخفيف الأقليات الدينية.
وأعادت السلطات العثمانية توطين الشركس الهاربين من الإبادة الجماعية على أيدي الروس في المحافظات السورية المضطربة التابعة للإمبراطورية لمراقبة القبائل الدرزية البدوية المتمردة.
وخلال الحرب العالمية الأولى، نجا بعض الأرمن والآشوريين والكلدانيين في جنوب شرق تركيا من المذابح المختلفة التي طالت المسيحيين، لكنهم وجدوا أنفسهم في بلد متحمس لمحو أعراقهم.
وصوّرتهم الصحف كأعداء وحددت مواعيد نهائية لمغادرتهم مما دفع العديد منهم إلى الفرار إلى شمال سوريا التي كانت تحت الانتداب الفرنسي. وكان الفرنسيون، الذين يتوقون إلى دعم الأقليات من أجل إضعاف الأغلبية العربية السنية، سعداء باستقبالهم. وبقي أحفاد اللاجئين المسيحيين في سوريا إلى أن فر بعضهم من رأس العين نتيجة لعملية تركيا، مما ذكّر بالماضي الدامي.
وحتى بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وصعود الجمهوريين، لم تتغير تلك السياسة كثيرا في جوهرها حيث لعبت الهندسة الديموغرافية والتهجير القسري دورا رئيسيا في تطور الجمهورية التركية.
وعن ذلك يتحدث الأستاذ في قسم شؤون الأمن القومي بكلية الدراسات العليا البحرية في كاليفورنيا، ريان غينغيراس، الذي كتب مجموعة من الكتب عن أصل الجمهورية العنيف، قائلا “كان ينظر إلى هذه الطريقة كوسيلة شرعية وفعّالة لفرض ثقافة وطنية على كامل الأرض وشعبها”.
وبعد القضاء على معظم المسيحيين في الإبادة الجماعية واتفاقية التبادل السكاني بين اليونان وتركيا سنة 1923، تحول الاهتمام إلى الأقلية الكردية الكبيرة التي أجبرت على الانتقال إلى المقاطعات الغربية، أين فرضت الهوية التركية عليهم.
وفي سنة 1943 أصدرت السلطات التركية قانون إعادة التوطين التركي (بوغروم تراقيا) الذي هدف إلى “إنشاء دولة تتحدث بلغة واحدة، وتفكر بنفس الطريقة، وتتشارك في نفس المشاعر”، وذلك حسب تعبير وزير الداخلية آنذاك، شكري كايا.
وأمام التضييق فر عشرات الآلاف إلى منطقة الجزيرة الفراتية الشمالية الشرقية في سوريا، أين وجدوا أنفسهم في مواجهة حملات التعريب البعثي ثم الهجوم التركي اليوم.
أداة سياسية
لم تنجح تركيا في توسيع سيطرتها لتتجاوز مساحة الـ400 ميل مربع الموجودة فيها. وكانت تسعى إلى توطين حوالي مليوني لاجئ سوري معظمهم مسلمون سنة، وهم من عرب حلب وإدلب، في مناطق يغلب عليها الأكراد والمسيحيون.
لذلك، يتهم العديد من النقاد أنقرة بمحاولة إعادة هندسة المنطقة ديموغرافيا لتقليل وجود الأكراد ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعتبره حكومة تركيا عدوا لها.
ولطالما بدا أردوغان مرحبا بإستراتيجية استخدام الهندسة الديموغرافية كأداة سياسية، فقد هدد باستخدام اللاجئين المتدفقين من الشرق الأوسط كسلاح ضد أوروبا، مشيرا إلى قدرته على “فتح الأبواب وغمر أوروبا بالسوريين الذين يعيشون في تركيا”. كما بدا صريحا في تحديد المجموعات حسب المناطق التي تنتمي إليها في سوريا.
وقال للصحافيين خلال مقابلة جمعتهم به في 24 أكتوبر 2019 إن العرب أنسب لشمال سوريا الذي تختلط فيه مختلف الأعراق. وعلل موقفه مدعيا أن “هذه المناطق ليست مناسبة لأنماط حياة الأكراد لأنها صحراوية”.
واتهمت العديد من الأطراف الرئيس التركي بالتخطيط لحملة تهدف إلى التطهير العرقي. وشملت لائحة الأشخاص الذين وجهوا أصابع الاتهام نحوه المندوبة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة، سامانثا باور، التي انتقدته بعد فرار ما يصل إلى 300 ألف من السكان الأكراد من شمال سوريا خوفا من ممارسات القوات التركية وحلفائهم من المتمردين العرب.
ووفقا لتقرير الأمم المتحدة، بعد سيطرة القوات التركية على مدينة عفرين في مارس 2018، تم تهجير حوالي 170 ألف شخص معظمهم من الأكراد، وانتقل العديد من العرب إلى منازلهم المهجورة.
وتروي المحللة في مجموعة الأزمات الدولية، دارين خليفة، تفاصيل رحلة قامت بها مؤخرا إلى شمال سوريا، قائلة إنها شهدت انتشار مشاعر الخوف عند الإعلان عن خطة إعادة التوطين، حيث فهم السكان المحليون أن العائدين سيكونون عربا وأنهم سيوجهون إلى بلدات الأكراد. لذلك، رأى العديد من المواطنين السوريين في خطة أردوغان غطاء لتغيير التركيبة السكانية المألوفة في المنطقة.
وتستبعد خليفة نقل أعداد كبيرة من اللاجئين إلى المنطقة الجديدة، لكنها تعتقد بأن أنقرة ستحاول تحقيق ذلك ولو بدفع البعض منهم إلى هذه الأماكن.
وتنقل فورين بوليسي عن منظمة العفو الدولية أن تركيا أجبرت المئات من اللاجئين السوريين على الرحيل بالقوة والعنف إلى إدلب التي تعدّ واحدة من أخطر المناطق في البلاد، وهو ما يعتبر غير قانوني بموجب القانون الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى