تأملات في اللحظة العربية

لا توجد أمة عريقة وكبيرة في هذه البسيطة استضعفت فتتناوشتها وتتناهشتها صغار الأمم وكبارها من مختلف أطرافها، وتعبث العدوانية الغربية التليدة والخبث الصهيوني المنزرع متضافراً مع الدونية التابعة العميلة بأحشائها، مثل أمتنا العربية..
جيراننا الأحباش والزنج من الجنوب، وأخواننا في دين الله الترك المتعثمنون مرةً أخرى، من الشمال. ناهيك عن مزمن وجعها المصيري الفلسطيني المقيم، في القلب..
زد عليه، توالي التفاني في نفخ نيران الفتن وبث سموم الطائفية، وتابيد القطرية، وحتى قطرنتها أكثر بتفتيتها وتبنّي وامتطاء مطلق نزعات إنفصالية بائسة. وفوقه دائب محاولات لا تكل في نبش ارحام كهوف التاريخ لاستيلاد موهوم هويات انشطارية زائفة وابتعاث خرافتها من رميم عظام أوابدها المنقرضة..
خارطتنا الكبرى مشارق ومغارب، وطننا الواحد الكبير، تلطّخه بثور المختلف من اجناس ولكنات القواعد العسكرية الاستعمارية الغربية المعادية للأمة تاريخياً وستظل مستقبلاً المعادية لمستقبل أجيالها.. حامياتهم بين ظهرانيها، الناهبة لمقدّراتها، الحائلة دونها والحرية فالوحدة، فالعدالة والكرامة، فالنهوض والمنعة.. القواعد الاحتلالية الثالمة لوجدانها، الحامية لإسرائيلها، والراعية لصنائعها وأدواتها من أولياء أمورنا بأمر نفطنا وأعدائنا..
لا توجد أمة على كوكبنا مستهدفة، ليس في ثرواتها وإمكانياتها ومقدَّراتها فحسب، وإنما في هويَّتها ووعيها بذاتها، بتاريخها قبل وبعد جغرافيتها، ومواريثها الثقافية والقيمية.. بوجودها ورسالتها الحضارية التي رافقت تاريخ البشرية.. مستهدفة لأنها جغرافياً تقبض على صرة العالم، وتاريخياً لأنه لا يمكن أن يؤرخوا لميلاد التاريخ إلا من هنا.
ومع هذا كنا نرى ونحذّر دائماً بأن أخطر النصال الفاتكة بجسدنا المثخن بالجراح والمجهد بمتوالي الانكسارات، هو بوم الداخل، جالدوا الذات، الناعقون المولّولون، الناعون للأمة وحتى شتيمتها، وأخطرهم هي دائماً النخب المثقفة، أو هذه المستلبة منها أو اليائسة الميئسة..
.. ولا نتحدث هنا عن نخب معشر الواقفين على أبواب السلاطين، أو زمر طابور الارتزاق الباحثة عما يتوفّر لها من رازق، وحيث لا فارق لدى جهابذتها أكان من داخل الحمى أو غازٍ له.. هؤلاء هم في المعسكر الآخر وكانوا ويظلوا جزءاً منه ويظل حكمنا عليهم هو من جنس حكمنا عليه.
.. ومع هذا، كنا دائماَ ممن لا يحلم فحسب، إذ لا ينظر للآتي ولن يلتقيه سوى من امتلك الحلم، وإنما نؤمن بما نحلم به، ذلك لإيماننا إيمان العجائز بوعد الأمة الآتِ لا ريب، وكنا نقول ولا نأبه بمن يتهمنا بأننا من أصحاب “اللغة الخشبية”، إن هذه الأمة بخير..
.. وظللنا نردد، إنما هي قد ألقيت غيلةً في اتون مرحلة انحدارية عابرة.. عابرة كسواها مما واجهته عبر تاريخها البادئ مع بدء التاريخ، أوما يعني أنها حتَّام ستتجاوزها إلى حيث ما تستحقه ويستوجبه منها دورها ومكانتها وعراقتها الحضارية..
والآن، أنظروا، ها هو ترامب لا يلوي هارباً من سورية المنتصرة، ويدبر تاركاً من ورائه أدواته الانفصالية المتصهينة لا تجد من تلوذ به سوى دمشق الأمة، بعد أن كانت قد شقت عليها عصا الطاعة وارتضت لنفسها التخادم الخياني مع عدو الأمة الأميركي..
ها هو الغضب الشعبي يزلزل قاضاً مضجع من جاءوا على ظهر الدبابة الغازية في عراق الأمة.. وها هو تحالف خليجيو العار والتآمر التاريخي على الأمة والتطبيع مع عدوها تتحطم خرافته وينتثر رماد هيبة نواطير النفط على صخور اليمن الأشم.. ها هي روح وثقافة المقاومة إلى انتشاء وانتشار وازدهار في جسد الأمة مشارق ومغارب، وأول من يلاحظ ويتحسَّب ويقلق هو العدو الصهيوني واقرأوا ارتجافات هشاشته ماثلةً في متون صفحات اعلامه.. وأخيراً ها هي فلسطين ماثلة كبوصلة نهوض أمة ومعيار قيامتها، وبرهاننا أن العلم الفلسطيني كان ضيف البارحة يرفرف بكل ما لا يحد من مضامين رمزية في العرس العربي التونسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى