في ذكرى رحيله: خصائص ومكرمات لجمال عبد الناصر

 

 

لقد مضى نحو نصف قرن على رحيل الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، وشيئاً فشيئاً يتناقص منا أولئك الذين عايشوه أو عاصروه. في زمانه ووقته، كان أكثرنا يدرك تماماً أن الرئيس لم يكن كغيره من الرؤساء أو الملوك. فقد كان عبدالناصر حراً يقول ما في ذهنه ويفعل ما يرى أنه أفضل لشعبه وأمته، وكنا قد تعودنا، وللأسف، على أن الحكام يفعلون ما يؤمرون. وكما كان عبدالناصر حراً فقد أراد أن يكون العرب أحرار. نعم، كان أكثرنا يدرك أن هذا الرئيس كان حالة إستثنائية وأنه كان يصنع تاريخاً جديداً لوطنه وأمته.

والآن، وبعد مضي نحو نصف قرن على رحيل عبدالناصر، نعرف جيداً أن الرجل قد صنع فعلاً تاريخاً مشرفاً لوطنه وأمته ودخله هو من أوسع أبوابه. العصر نفسه (حقبة الخمسينات والستينات) أصبح إسمه عصر عبد الناصر. وشخصه ونزاهة طبعه أصبحت مرجعاً للقياس يقاس به من خلفه من حكام. وفيما نحن ننظر إلى ذلك التاريخ لا أملك إلا أن ألاحظ أن صورته ”التاريخية“ تبدوا في كثير من الأحيان أكثر تميزاً وجلاءً. بل لا أملك إلا أن ألاحظ أن هنالك مواضع وخصائص في حياة عبدالناصر تميزه عن أقرانه من رجال التاريخ، سأذكر بعضاًَ منها:

كيفية تنظيم الضباط الأحرار والإستيلاء على الحكم:
يقول الكاتب الأمريكي روبرت سان جون في كتابه المسهب عن جمال عبد الناصر ”الرئيس“ أنه ”لم يحدث قبل عام ١٩٥٢ أن تمكن ضابط برتبة متواضعة أن يستولي على الحكم في بلد كبير مثل مصر“. فالإنقلابات يقوم بها عادة قادة الجيوش أو كبار الضباط. إستطاع عبدالناصر، ذلك الضابط الشاب، أن يقيم تنظيماً سرياً، يضم عدداً لا بأس به من صغار الضباط المتباينين في أهوائهم والمختلفين جداً في إتجاهاتهم السياسية. تمكن عبدالناصر أن يوفق بين زملائه ويحافظ على سرية التنظيم لبضعة سنين إلى أن حانت الفرصة للقيام بالثورة. كان شاباً لكنه لم يكن متسرعاً بل كان إستراتيجياً موهوباً، وبفضل حسن تدبيره وبعد نظره وتفكيره القيادي، قاد زملائه للإستيلاء على مقاليد الحكم في ثورة بيضاء. كان عبد الناصر هو الوحيد الذي يعرف كل الضباط الأحرار. وكما جاء على لسان السادات في إحدى خطبه فإن بعض الضباط خانتهم شجاعتهم في اللحظة الأخيرة لكن بقي سرهم مع عبد الناصر ولم يفصح عن شخصياتهم حتى وفاته.

ورغم أنه كان القائد الفعلي للثورة إلا أنه كان موافقاً على أن يبقى محمد نجيب في المقدمة بينما يبقى هو قابضاً على خيوط الحكم من وراء الستار، وذلك رغم تململ بعض زملائه من إستمرار إخفاء الحقيقة عن الناس. وعن هذا، يقول روبرت سان جون“ أنه ”لا يعرف عن أحد بذل مثل ذلك الجهد للبقاء وراء الستار(وبعيداً عن المجد) مثل جمال عبد الناصر“. وطبعاً تغيرت الأمور عندما بدأت تظهر على محمد نجيب علامات الضجر من سيطرة أعضاء مجلس قيادة الثورة (الموالي لعبدالناصر) على إتخاذ القرار.

الشعبية والحب الجماهيري الجارف:
إجماع العرب على حب عبد الناصر كان عفوياً كما كان شاملاً لكل طبقات الشعب بإستثناء من اشتهروا بمعاداته مثل الإخوان المسلمين وطبقة الإقطاع. بل أن ذلك الحب الجارف إمتد ليشمل شعوب العالم الثالث. وإنتشار إسم جمال أو ناصر بين العرب وغير العرب من مواليد تلك الفتره هو دليل حي على ذلك. ولم يعرف العرب من قبل حاكماً حظي بمثل تلك الشعبية والحب. وكان التفاف الملايين حوله مثيراً للدهشة، كما حصل أثناء زيارته لسوريا أثناء الوحده وكذلك أثناء زيارته للجزائر بعد إستقلالها، وفي الحالتين قامت الجماهير بحمل سيارة عبدالناصر على الأكتاف. ولا بد هنا من ذكر ذلك الكم الهائل من الأشعار والقصائد والأناشيد ( بالفصحى والعامية) التي قيلت في مدح الزعيم وتغنت بها الجماهير في كل الأقطار العربية. والذين عاصروا الفترة يذكرون جيداً كيف كانت الجماهير تنتظر خطاباته وتلتف حول أجهزة المذياع لسماع ما سيقوله. كل تلك كانت خصائص لم يحظى بها أي زعيم آخر غير عبدالناصر.

وتكرست دلائل ذلك الحب بخروج الجماهير يومي ٩ و ١٠ حزيران لرفض إستقالته والمطالبة ببقائه على رأس السلطة. وكان تقبل عبد الناصر طوعياً بتحمل كل المسؤلية بعد النكسة سابقة لا تزال فريدة في التاريخ وكذلك كان خروج الشعب مطالباً ببقائه رئيساً للجمهورية رغم كونه قائداً أعلى لجيش مهزوم.
وربما كان الدليل الأكبر على حب الشعب لجمال عبد الناصر هو وداعهم له في تلك الجنازه المهيبة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً حتى ذلك اليوم.

الخطابة:
لم يكن جمال عبدالناصر أديباً أو خطيباً مفوهاً ولم يكن صوته جهورياً قوياً كحال الكثير من الخطباء، ومع ذلك فقد كان يلتف حول منصتة ألوفٌ مؤلفة من الشعب ناهيك عن الملايين من العرب التي كانت تتجمع حول أجهزة المذياع تترقب ما سيقول وتنصت إليه وتستوعبه. في زمن عبدالناصر، وقبل زمنه وبعده، كان ولا يزال القادة العرب يلقون خطباً ليل نهار ولا أحد منا يذكر جملة مفيدة واحدة مما قيل. لكننا جميعاً لا نزال نذكر أن عبدالناصر قال ”إرفع رأسك ياأخي فقد انتهى عصر الإستعمار“. وكلنا نذكر كيف إنتفضت الجماهير العربية عندما سمعته يقول ”تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية …الخ قرار التأميم التاريخي“. ومن منا ينسى قولته ” أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة“؟ ولبضع مئات من السنين، ربما كان جمال عبدالناصر هو الحاكم المسلم الوحيد الذي ألقى خطاباً من على منبر جامع عندما ذهب إلى الجامع الأزهر إبان العدوان الثلاثي وخطب في الناس وقال سنقاتل ..سنقاتل.

شجاعة تحمل المسئولية ثم الإستقالة:
الهزيمة العسكرية التي لحقت بالجيش المصري سنة ١٩٦٧ أصابت عبدالناصر بجراح عميقة في نفسيته وجسده ثم أودت بحياته بعد ثلاثة سنوات. ومع ذلك ورغم بشاعة الهزيمة ورغم كل تلك الهموم والأعباء المتراكمة على كتفيه ورغم مرضه الجسدي وحالته النفسية السيئة، تمالك عبدالناصر نفسه وإمتلك الشجاعة لأن يظهر طواعية أمام شعبه ويصارحه ويعلن أنه يتحمل المسؤلية كلها عن ما جرى ثم يقدم إستقالته في سابقة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل ولا من بعد.

وفي سابقة أخرى، أيضاً لم يعرفها التاريخ من قبل ولا من بعد، فقد هاجت جماهير الشعب العربي يومي ٩ و ١٠ يونيو متمسكة بقيادة هذا الزعيم الجريح الذي عرفوه محارباً صلباً وعدواً لدوداً لإسرائيل وقوى الإستعمار. كانت رسالة الجماهير أيامها ” أننا نرفض الهزيمه ونصر على المضي في القتال و نضع ثقتنا في عبد الناصر عدو الإحتلال والإستعمار“.

وهنا يجب أن أكرر وأقول أنه من غير الإنصاف الإشارة إلى الهزيمة العسكرية من غير الإشارة إلى الكيفية التي تعامل بها عبدالناصر مع تلك المحنة من يوم وقوعها وحتى يوم وفاته، مروراً بإعادة بناء الجيش وحرب الإستنزاف المجيده و وقف إطلاق النار وما تبعه من إقامة حائط الصواريخ.

جنازة عبد الناصر:
كانت جنازة عبدالناصر في يومها المهيب الحزين أكبر جنازه في التاريخ. كانت صدمة العرب بوفاة زعيمهم أكبر من أن توصف، وكذلك كانت صدمة الأحرار في كل بقاع الأرض. كان حزن الشارع العربي في كل الأقطار العربية بمثابة إستفتاء حر ونهائي على مدى الحب الذي أعطاه الشعب العربي لذلك الزعيم الراحل. وكأن سليقة الشعوب تقرأ المستقبل وترد على ما سيكون من تلفيقات يأتي بها أعداء ذالك القائد العظيم.

البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى