رحل ربان القومية العربية.. ولكنها ستبقى ضرورة حياة وحلم اجيال

بقلم : فهد الريماوي

 

نعتب على يوم ٢٨ ايلول، ونعتبره يوم حداد عربي مبللاً بالدمع، ومجللاً بالسواد، ومجروراً بالكسرة والحسرة.. نظراً لانه قد فجعنا مرتين، الاولى حين احتضن لعنة الانفصال بين شطري الجمهورية العربية المتحدة عام ١٩٦١، والثانية حين شهد رحيل اغلى الرجال، واشجع الفرسان، واطهر الزعماء، القائد الخالد جمال عبد الناصر عام ١٩٧٠.
في الحسبان القومي، هو يوم شاذ عن القاعدة، وخارج على التاريخ، وممنوع من الصرف، ومشطوب من رزنامة الزمن الجميل، ومحسوب على فسطاط ابي جهل وابي رغال وانور السادات وانطوان لحد، ومعدود من ايام الكوارث والنكبات العربية، كمثل يوم ١٥ ايار، ويوم ٥ حزيران.
لقد كان يوماً بلا فجر ولا ظُهر ولا عصر، فقد اضطربت اوقاته حد الفوضى، وتحمّلت ساعاته فوق طاقتها، وغربت شمسه قبل موعدها، وجنّ ليله سريعاً ليداري احزان امة مفجوعة، تارة بالرحيل واخرى بالانفصال.
يصعب على احرار العرب – او من تبقى منهم- ان يتقبلوا هذا اليوم كما باقي الايام، وان يمروا به مرور الكرام، وان يغفروا له اقترانه بافدح كارثتين قوميتين.. فك الارتباط بين سوريا ومصر، وتوقف نبض ربان المشروع الوحدوي والنهضوي الذي كان من شأنه نقل امة العرب من الظلمات الى النور، ومن خرائط سايكس بيكو الى رحاب الدولة العربية الواحدة، سيدة قرارها، وصانعة مصيرها، وولية امر نفسها، وحافظة استقلالها وكرامتها على المستويين الاقليمي والعالمي.
في ذكرى رحيل “ابي خالد” تنفطر قلوب القابضين على جمر عروبتهم، وتهتز مهجهم وارواحهم المعذبة، وتجيش بالاسى واللوعة مشاعرهم المكلومة، ويغشاهم احساس غامر باليتم والفقد والخسران.. فالراحل الغالي لم يكن عملاقاً ثورياً وهرماً سياسياً فحسب، بل كان ايضاً شخصية كاريزمية آسرة وعذبة ووقورة وشديدة الجاذبية ومدونة بحروف سحرية في افئدة الملايين، يتقدمهم حراس الوجدان العربي من كرام الشعراء والادباء والفنانين والاعلاميين الذين قالوا فيه، وكتبوا عنه ما لم يقولوا ويكتبوا في غيره.
هذا الدفق من المحبة والتعلق والاخلاص الشعبي شكّل رأس مال سياسياً هائلاً اتاح “لابي خالد” ان يستثمره، بكل حكمة واقتدار، في حشد اوسع قاعدة جماهيرية عربية خاض بها ومعها اصعب المعارك واشرس التحديات.. ويكفي ان نتذكر كيف امكن لهذه المحبة العارمة ان تطغى على وجع نكسة حزيران، وتدفع الملايين المصرية والعربية للخروج، يومي التاسع والعاشر من حزيران، الى الشوارع، رفضاً لاستقالته، وتجديداً لبيعته، واستعداداً لمواصلة النضال تحت قيادته.
لا ضرورة، في هذه المناسبة المحزنة، للحديث عن عظمة عبد الناصر وشجاعته وسداد رأيه وعلو شأنه، فقد انصفه التاريخ بدلالة الظرف الحاضر، وشهدت له جملة الوقائع والايام التي اعقبت رحيله، وواكبت مسلسل الانحدار العربي المريع من بعده، وفضحت مخازي الحكام الصغار الذين حادوا عن دربه، واستمرأوا الذل والمسكنة والتبعية العمياء والخرساء للمراكز الصهيونية والامبريالية،حتى باتوا “ملطشة” لترامب النصّاب الذي اهانهم غير مرة، وعيّرهم بحمايته لهم والا لكانوا في عداد الهالكين.
كم كان لحكام السعودية من دور قذر في التآمر على عبد الناصر ، وفك عرى دولة الوحدة المصرية-السورية، ووضع العصي في دواليب الصحوة القومية.. جاهلين او متجاهلين ان كيدهم سوف يرتد الى نحورهم ولو بعد حين، وان الرهان على الحليف الاجنبي، مقابل خيانة الشقيق العربي، محض وهم وقصر نظر وفساد ذمة وسوء تقدير، وتنكر لابسط قواعد السياسة وقوانين التاريخ.. وها هي الدائرة قد دارت عليهم وحولتهم الى بقرة حلوب تدرّ ذهباً في جيوب الاجانب، كما جعلتهم “مكسر عصا” يتحداها فقراء اليمن وتتناوشها سهامهم الطائرة من كل جانب.
على غرار واقعة رفع المصاحف على اسنة الرماح، التي قال فيها الامام علي: “هذا حق اريد به باطل” .. ترفع السعودية هذا الاوان راية العروبة، ليس من قبيل الايمان المتأخر بها، بل لغرض اثارة حفيظة العرب وتحريضهم ضد ايران.. ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود، فالعروبة ليست حالة ظرفية وموسمية نعشقها يوماً ونطلّقها يوماً آخر.. العروبة هوية سرمدية وانتماء ابدي امين وصادق، ليس للامة العربية فقط، بل لدورها التاريخي المسؤول ومشروعها الوحدوي النهضوي ايضاً، فلا قيمة ولا اهمية لعروبة اسمية وشكلية بلا مضمون نضالي يتوخى جمع صفوف الاشقاء، وردع زحوف الاعداء، وغذّ الخطى لتحقيق الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية في سائر ارجاء الوطن الكبير الممتد من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي.
آية عبد الناصر انه كان عظيماً واهلاً للزعامة ويليق بقيادة الامة العربية ورئاسة مصر العريقة، وقد تبوأتا في عهده مركزاً متميزاً ومرموقاً في العالم.. وشتان بين ذلك الزمان المصري المجيد، وبين هذا الحاضر المقيت الذي يشهد -فيما يشهد- ازمة قيادية مصرية مزمنة بدأت بالمقتول انور السادات، ومرت بالمخلوع حسني مبارك، والمغدور مرسي العياط، حتى وصلت الى بائع تيران وصنافير، عبد الفتاح السيسي الذي خيّب آمال كل المراهنين عليه، واثبت خلال بضع سنوات انه اصغر كثيراً جداً من الجلوس على مقعد عبدالناصر .
وفي السطر الاخير نقول : رحم الله “ابا خالد” الذي صح فيه قول بلبل الشام نزار قباني..
تضيقُ قبورُ الميتين بمن بها    وفي كل يوم ٍ انت في القبر تكبرُ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى