خلفيات التصويت العقابي في رئاسيات تونس وتداعياته

أجمع الخبراء و الإعلاميون و المحللون السياسيون أنّ النتائج التي أسفرت عنها الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية التي جرت يوم الأحد 15سبتمبر/أيول الماضي،مثلت زلزالاً سياسيًا في المشهد السياسي التونسي ، وتصويتًا عقابيًا حقيقيًا ضد الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة ، وانتفاضة أو ثورة جديدة للشعب التونسي، وهذه المرة من داخل صناديق الاقتراع على منظومة الحكم القائمة الماسكة بالسلطة منذ سنة 2011 ولغاية اليوم،التي لم تكن عند مستوى تطلعاته و انتظاراته .
كما تدلّل نتائج التصويت هذه على نشأة تيّار عقابيّ جارف ورافض يسائل كامل المنظومات الحاكمة كما المعارضة، علمًا أنَّ تونس أمام منعرج خطير، وأنّ النجاح لا يقاس بإسقاط المنظومة القديمة الفاسدة والعاجزة قحسب ، فذلك هو نصف الطريق، وإنَّما بمدى قدرة الشباب والنساءوالفئات الفقيرة والمهمشة، والقوى الوطنية الديمقراطية من الطبقة الوسطى على بناء كتلة تاريخية شعبية جديدة ،تستوعب الدرس من نتائج الانتخابات،وتقدم أجوبة واقعية وعقلانية على التحديات الداخلية و الخارجية التي تواجهها تونس.
لم تكن هذه النتائج مفاجأة للمتابعين للمشهد السياسي التونسي ، إذسبق أن كشفت عنها استطلاعات رأي أجريت قبل الاقتراع بمدة طويلة. وكانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أعلنت يوم الثلاثاء الماضي ، عن النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية المبكرة، مشيرة إلى انتقال المرشح المستقل، قيس سعيّد(18.4 بالمائة )، ومرشح حزب “قلب تونس”، نبيل القروي(بالمائة 15,58)، إلى جولة ثانية.واحتل مرشح حركة النهضة، عبد الفتاح مورو، المرتبة الثالثة بـ 12.88 بالمائة،وجاء في المرتبة الرابعة وزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي (مستقل 10.3 بالمائة)، فيما جاء في المرتبة الخامسة يوسف الشاهد رئيس الحكومة ،ومرشح حزب “تحيا تونس” ( 7.4بالمائة)،وفي المراتب السادسة والسابعة والثامنة وهم الصافي سعيد (7.11بالمائة)،ولطفي المرايحي (6.56بالمائة) وسيف الدين مخلوف (4.37 بالمائة ) .
أسباب ثورة صناديق الاقتراع ضدأحزاب المنظومة القديمة
مثلت نتائج الانتخابات الرئاسية إعلان تمرد من الناخبين التونسيين على منظومة الحكم القائمة وعقابا حقيقيا لها، لإطاحة كل رموز الطبقة السياسية القديمة بمختلف ألوانها السياسية وتوجهاتها الإيديولوجية، من بقايا النظام القديم ووجوه النظام السياسي الشاذ والهجين الذي جاء بعد الثورة في 2011، والمنتمية للأحزاب التي كان لها ثقل سياسي ،بينهم رئيس سابق، ورئيسا حكومة سابقان، ورئيس برلمان، ووزراء، وزعماء أحزاب معارضة..
لقد قام الناخبون التونسيون بمعاقبة هذه الطبقة من السياسيين من خلال صندوق الاقتراع بعد أن قررُّوا إخراجهم من دائرة اختياراتهم وهذا الأمر سيؤدي على الأرجح إلى إنهاء الحياة السياسية لكثير من الأسماء المنتمية لبعض الأحزاب وربما سنشهد في فترة لاحقة حل العديد منها.
وفق رئيس الهيئة المستقلة للإنتخابات بلغ عدد الناخبين المسجلين حوالي 7.074566ناخبًا، منهم 6.688513 داخل البلاد التونسية،و386053 ناخباً في الخارج ، ومن قام بعملية الاقتراع 3456184 ناخبا ،فيما بلغ عدد الأوراق الملغاة 62125 ورقة والأوراق البيضاء بـ 24085.
فإن ّالإقبال على التصويت لم يتجاوز 45بالمائة،وهذا يعني أنّ نسبة التونسيين المسجلين على لوائح الانتخابات وقاطعوها تناهز 55%، بينما يفوق عدد التونسيين الذين يحق لهم التصويت وغير مسجلين على هذه اللوائح هذه النسبة بكثير.ومن هذا المنطلق، فإنّ حزب العزوف الانتخابي هو الحزب الأكثري في تونس، إذ يضم حوالي 5 ملايين تونسيًا،(القسم الكبير منهم ينتمي إلى فئة الشباب).
هناك خمسة أسباب رئيسية تفسر لنا هذا العقاب الجماعي الذي فرضته صناديق الاقتراع ضد أحزاب المنظومة القديمة و أحزاب المعارضة.
أولاً: تونس كدولة متخلفة لا تمتلك سيادتها الوطنية، بسبب التدخل الإمبريالي الأمريكي والأوروبي، والصهيوني ،والتدخل الإقليمي من قبل الدول الخليجية و التركية، إذ إنًّ
كل الحكومات التونسية التي تعاقبت منذ 2011 و لغاية الآن، كانت مرتهنة للقوى الإمبريالية الغربية و الخليجية، وللمؤسسات الدولية المانحة،فتونس محكومة بقرار دولي في ظل حكم معولم أرساه الشيخان الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي.
وفي طليعة هذه الأسباب ، عجز بل وفشل كل الحكومات المتعاقبة، و آخرها حكومة يوسف الشاهد التي يقودها منذ 27 أغسطس/ آب 2016، عن حل الأزمات التي تعاني منها تونس الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، لا سيما حل مشكلة البطالة ، إذ يوجد مايقارب 700عاطل عن العمل ، ومنهم 250ألفا منحاملي الشهادات الجامعية، وغالبية العاطلين عن العمل تنتمي إلى فئة الشباب.
فقد توجهت كل الحكومات المتعاقبة بعد سنة 2011 إلى مزيد من تطبيق سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وبرامج و سياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي، تحت ضغط البنك الدولي و صندوق النقد الدولي. ورغم الإسقاطات المدمرة التي شهدها الاقتصاد التونسي خلال العقود الثلاثة الماضية بسبب خضوعه لشروط صندوق النقد الدولي ،فإن النخب الحاكمة في تونس ومعها الطبقة الرأسمالية الطفيلية، تعتقد أن خيار الليبرالية الاقتصادية الجديدة أو اقتصاد حرية السوق ،هو الخيار الأنسب لتحقيق التنمية الاقتصادية ،انطلاقًا من الركائز التالية:
1-إنَّ السوق قادرة على العمل بكفاءة من أجل تجاوز مشكلة الاقتصاد الوطني، وأن بالإمكان الاعتماد على آليات السوق في توجيه الاقتصاد والارتقاء بالنمو الاقتصادي، والاستغناء عن تدخل الدولة بالشأن الاقتصادي.
2-إنَّ القطاع الخاص (الرأسمالية المحلية) جاهز وقادر على قيادة الاقتصاد الوطني، والاستثمار في القطاعات المنتجة المؤدية إلى تحقيق نمو سريع، وأنه بالإمكان بل (يجب) الاستغناء عن القطاع العام (المنتج والتجاري والخدمي) توفيراً للخسائر التي يتعرض لها. عن طريق أحد أوجه الخصخصة. البيع أو فصل الإدارة عن الملكية أو التأجير أو الاستثمار من قبل الغير. المهم أن يتم التخلي عن القطاع العام.
3-إنَّ الاندماج بالعولمة الرأسمالية الليبرالية، وتعريض المنتجات الوطنية للمنافسة، لن يؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد الوطني، بل ستؤدي المنافسة مع البضائع الأجنبية، إلى الارتقاء بجودة المنتجات الوطنية، وطرد ما هو غير قادر على الصمود في وجه المنافسة مع البضائع الأجنبية، والتحفيز لإنتاج منتجات تتصف بقدرتها التنافسية.
ففي الأشهر الثمانية الأولى من 2018، ارتفع العجز التجاري لتونس (الفرق بين الصادرات والواردات) 5.7 بالمئة على أساس سنوي، وفق أرقام رسمية صادرة عن المعهد التونسي للإحصاء (حكومي).وبذلك، يرتفع العجز التجاري إلى نحو 12.864 مليار دينار (4.497 مليار دولار) في الفترة بين يناير- أغسطس من العام 2019، مقارنة بـ12.160 مليار دينار (4.251 مليار دولار) بالفترة نفسها من 2018.
عجز تجاري رافقته قرارات حكومية متواترة، بزيادة أسعار البنزين وبعض السلع الأساسية، والترفيع في الضرائب على السيارات والاتصالات الهاتفية والإنترنت والإقامة في الفنادق وبعض المواد الأخرى، في إطار إجراءات تقشف اتفقت عليها الحكومة مع صندوق النقد الدولي ، لكنها فاقمت، في الجانب الآخر، من معاناة التونسيين.
تقشف أصاب الطبقة الوسطى والفقيرة بالإحباط، خصوصا في ظل ارتفاع معدل التضخم (أسعار المستهلك)، والذي بلغ في أغسطس/ آب الماضي 6.7 بالمئة، مقابل 6.5 بالمئة في يوليو/ تموز السابق له، بحسب بيانات رسمية، وانهيار سعر الدينار التونسي أمام سعار الدولار و اليورو،وارتفاع حجم المديونية الخارجية للبلاد.
تقشف واحتقان شعبي تضاف إليه ملفات عالقة متوارثة عن نظام ما قبل ثورة 2011، كان لا بد أن يقود نحو إشكالات هيكلية حادة تعصف بالاقتصاد، وتدفع بمؤشراته الكلية نحو الهبوط، وسط ضغوطات متزايدة من المقرضين الدوليين(صندوق النقد الدولي) لفرض إصلاحات لخفض العجز في الميزانية وإصلاح المالية العمومية.
ثانيًا: بروز طبقة جديدة في المجتمع التونسي ظهر عليها ثراء فاحش وغير مبرّر يتجلّى من خلال تجوّل سيارات فارهة باهظة الثمن لا يوجد لها مثيل إلاّ في أوروبا أو دول الخليج، إلى جانب الإقبال على شراءات العقارات في أرقى الأحياء في العاصمة وضواحيها بأسعار مرتفعة، في حين تشهد البلاد أزمة اقتصاديّة وماليّة حادّة، علاوة على توسّع الفوارق الاجتماعيّة وتراجع المقدرة الشرائيّة للمواطن.وفي ظلّ هذه الأوضاع المتأزّمة تصدم أنظار التونسيّين اليوم مظاهر البذخ والترف للأسياد الجدد، أو إن جاز القول، أثرياء الثورة.
فقد أظهرت دراسة اجتماعية ميدانية أعدها مؤخرًا مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع الجامعة التونسية رقعة الفقر توسعت خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 30 بالمائة من العدد الجملي لفقراء تونس البالغ عددهم نحو مليوني فقير من جملة 12 ملايين هم عدد سكان تونس،،بعد أن تآكلت الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى وفقدت موقعها الاجتماعي لتتدحرج إلى فئة الفقراء نتيجة التحولات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية في ظل نسق تصاعدي مشط لارتفاع الأسعار مقابل سياسة تأجير شبه جامدة مما أدى إلى بروز “ظاهرة الفقراء الجدد” بعد أن تدهورت المقدرة الشرائية لتلك الشرائح بشكل حاد. وتعرف الدراسة الفقراء الجدد بـ”صغار الموظفين بالإدارة والمدرسين بالمدارس الابتدائية والإعدادية والعمال والأجراء الذين لا تتجاوز مرتباتهم وأجورهم الشهرية 700 دينار أي حوالي 450 دولار”. وقادت السنوات التسع الماضية إلى مشهد اجتماعي تعصف به مظاهر الفقر المدقع ومظاهر الثراء الفاحش، إذ في الوقت الذي يعيش فيه 10 بالمائة من التونسيين على حوالي 300 دولار سنويا يترفه 20 بالمائة بما يتجاوز 120 ألف دولار، مما أفرز سلوكيات استهلاكية مستفزة بدءا بظهور طراز جديد من القصور في الأحياء الراقية إلى أحدث أنواع السيارات الفارهة، في حين تنتشر على مشارف المدن الأحياء القصديرية والطينية.
ثالثًا: كانت “الديمقراطية التونسية الناشئة “هشّة “أمام امبراطورية الفساد”، فتحولت تونس إلى دولة غنائمية في سنوات من حكم الإسلاميين وحكم التوافق الديمقراطي، ويعتبر ملف محاربة الفساد ملفاً مفصلياً في نجاح أي حكومة ما بعد الثورة. فالمراقب للوضع السياسي التونسي يلمس بوضوح أن الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الترويكا السابقة بقيادة حركة النهضة ، أم في عهد حكومة يوسف الشاهد ، لم تبلورخطة حقيقية لمقاومة الفساد، و إقرار الحوكمة الرشيدة ، بل إن جميعها همشت ملف الفساد. فالأحزاب المكونة للحكومات المتعاقبة لم تطرح في برامجها السياسية  مسألة محاربة الفساد كمسألة محورية ، و إن كانت تدرج هذا الملف ضمن شعاراتها الانتخابية.و الحال هذه أصبحت الحكومة المتعاقبة الثماني منذ تشكلها فاقدة لكل إرادة سياسية لمحاربة الفساد ، لأن الأحزاب الموجودة في صلبها لم تتحرر من عقلية الدولة الغنائمية،وتتجنب الإحراج في طرح هذا الملف نظرا لعلاقتها  بالمال السياسي ، وأيضا لعلاقتها برجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد.وكان ملف رجال الأعمال النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة .
إنّ لوبیات الفساد المدعومة بنفوذ المال متغلغلة في مختلف مفاصل الدولة وفي جل القطاعات الحیوية وفي مراكز القرار، بما في ذلك البرلمان (المؤسسة التشريعية)، وأصبحت هذه اللوبيات تشكل سدا منیعا أمام كل محاولات التصدي للفساد ووضع الأسس والتشريعات والقوانین المكافحة لها.ولم تنجح الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة في محاربة الفساد،
بل إنّ الفساد ازداد انتشارًا، على غرار التھريب والتجارة الموازية وتبيیض الأموال و التهرب الضريبي وتغوّل الفاسدين والتأسیس مرة أخرى لسلطة يحكمھا الفساد.وبات التونسيون يعتبرون أن أكثر جهة ينخرها الفساد في تونس هي الدوائر الحكومية (المسؤولون الحكوميون) 31%، يليها البرلمان 30% (الرقم هذا تضاعف مقارنة بسنة 2015 حيث كان 15%)، ثم رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بالتساوي 25%..
رابعًا: الاستياء الشعبي الذي خلفه توقيف المرشح نبيل القروي،وهوما جعله بطلا في نظر الرأي العام التونسي. فمن أبرز الملفات التي أثرت بشكل كبير على نوايا التصويت، ولئن تصدر القروي استطلاعات الرأي حتى قبل توقيفه، إلا أن الزج به وراء القضبان قبل فترة قصيرة من الاقتراع، فجر استياء عارما، ومخاوف من الالتفاف على نتائج الانتخابات، وهو ما أثر بشكل واضح على التصويت.
خامسًا: تصدع جدار الثقة بين المواطن التونسي و الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة،حيث اختار جزء هام من الناخببن الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع إقصاء الأسماء المتحزبة من قائمة اختياراتهم ، لاسيما منهم الأسماء التي تمثل منظومة الحكم،وهي رسالة حملها الشعب التونسي فحواها ،لم تعد لديه ثقة في الطبقة السياسية الحاكمة وفي الأحزاب السياسية بأطيافها المختلفة ،لعدم استجابتها لانتظارات الشعب التونسي طوال عملها السياسي بل كانت مخيّبة للآمال .ولعل ذلك قد ساهم في مزيد تصدع جدار الثقة بين الأحزاب السياسية وبين المواطن التونسي ، إِذْ إِنَّ الذين قاطعوا التصويت في انتخابات يوم 15سبتمبر 2019،(وهي ثاني انتخابات رئاسية )، وهم أكثر من 55بالمائة من التونسيين تقريبا ، بعثوا بنفس الرسالة إلى إلى الطبقة السياسيةالحاكمة،لماذا نصوت طالما أنَّنا سنمنح أصواتنا لنفس الأشخاص والبرامج أي استمرار ذات الإشكالات.
الفئات الاجتماعية التي صوتت للمرشح قيس سعيد
يُعَدٌّ المرشح قيس سعيّد الذي جاء في المرتبة الأولى عقب إجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة التونسية شخصيّة إشكاليّة بامتياز، لا سيما أن الأستاذ في القانون الدستوري و صاحب الصوت الجهوري والذي يلقي خطبه بالعربية الفصيحة لا يمتلك حزبًا سياسيًا يسنده.
ومع ذلك، فقد صوت 7.6% من الفئة الاجتماعية الفقيرة و الأمية لفائدة قيس سعيد. وبلغت نسبة الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم من فئة التعليم الابتدائي الأساسي للمرشح قيس عيد 12.3%. لكن َّأعلى نسب من الناخبين من ذوي المستوى الجامعي صوتوا لفائدة قيس سعيد بنسبة 24.7%.و وأظهرت نتائج المؤسسة “سيغما كونساي”توزيعًا عُمْرِيًا للناخبين، حيث أشارت إلى أن 37.0% من المصوتين للمرشح قيس سعيد راوحت أعمارهم بين 18 و25 سنة، ، والنسبة الأعلى منهم لها مستوى تعليم عالي. وصوت 20.3 بالمائة من فئة 25 إلى 45 سنة لقيس سعيدأيضًا.
وتكشف الأرقام الأخرى عن أنَّ 42.7 ممن صوتوا لـ”نداء تونس” في انتخابات 2014 ،صوتوا هذه المرّة 20.6بالمائة منهم لقيس سعيد،وتؤكد هذه الأرقام أن أكثر من 31 بالمائة من أصوات حزب “النداء” ذهبت لقيس سعيد.
وهكذا نصل إلى نتيجة أن َّأ الذين صوتوا للسيد قيس سعيد هم من فئة الشباب التونسي المثقف والناقم على الأوضاع، والذي أراد التمرد على المنظومة الحاكمة الحالية عبر معاقبتها ، والفقراء المهمشين الذين كانوا وقود الثورة التي اندلعت في 17ديسمبر2010، و انتهت بإسقاط رأس النظام الديكتاتوري السابق في 14يناير 2011،وواجهوا الرصاص بصدورهم العارية: شبان، متعلمون، الكثير منهم عاطلون عن العمل، فاقدون الأمل في المستقبل، لم تفهمهم الأحزاب السياسية التي حكمت البلاد بعد 2011، وتجاهلت ثورتهم بأن تجاهلت مطالبهم في فك أسر موارد البلاد من يد محتكريها.
الفئات الاجتماعية التي صوتت لنبيل القروي
يمتلك المرشح نبيل القروي ماكينة حزبية، فهو رئيس حزب”قلب تونس”(ليبرالي)، الذي أسسه حديثًا،إضافة إلى امبراطورية إعلامية متمثلة في قناة نسمة، وجمعية مدنية “خيرية” باسم ابنه المتوفي “خليل”. وتظهر المعطيات التي كشفتها مؤسسة سبر الآراء “سيغما كونساي” أن 40.8 بالمائة من المصوتين لنبيل القروي هم من الأميين الذين لم يرتادوا المدرسة يوما،حيث كان يوزع عليهم مساعدات عينية من خلال جمعية”خليل”الخيرية،في ظل استقالة الدولة التونسية عن دورها الاجتماعي بالنسبة للفئات الفقيرة والمهمشة التي تعيش في الأرياف النائية ،والمحافظات الفقيرة. وبلغت نسبة الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لنبيل القروي من فئة التعليم الابتدائي الأساسي قرابة 29.1 بالمائة.
وأبرزت “سيغما كونساي” توزيعًا جغرافيًا بحسب الجهات والمحافظات بين المرشحين المتأهلين للدور الثاني، إذ بينت تصويت الخزان الانتخابي للعاصمة تونس، وخصوصا محافظة منوبة، وكذلك محافظات الشمال والشمال الغربي (بنزرت، جندوبة وباجة وجزء من الكاف)، والجنوب الغربي (محافظة توزر)، لفائدة نبيل القروي.
وأظهرت نتائج المؤسسة توزيعًا عُمْرِيًا للناخبين، حيث أشارت إلى أن 8.7 بالمائة من الفئة العمرية التي تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة، صوتت للقروي، بينما صوتت من الفئة الفئة ما بين 25 إلى 45سنة للقروي ،في حين بلغت نسبة المصوتين للمرشح نبيل القروي من الذين تجاوزت أعمارهم الـ60 سنة نسبة 25.4%. وبلغت نسبة الإناث من جملة المصوّتين للمرشح نبيل القروي 20.4 بالمائة، مقابل 12.4 بالمائة من الذكور.
وتكشف الأرقام الأخرى عن أنَّ 42.7 ممن صوتوا لـحزب “نداء تونس” في انتخابات 2014 صوتوا هذه المرَّة للقروي. فقد استطاع حزب “قلب تونس” الذي يترأسه نبيل القروي أن يستقطب القواعد الفقيرة لحزب”نداء تونس” ، والتي هي بالأساس قواعد” التجمع الدستوري الديمقراطي ” المتكونة من الفقراء والمحتاجين لمختلف أشكال الإعانات. وهذه هي الفئة التي فقدت الثقة في السياسة والسياسيين، وفي مسار الانتقال الديمقراطي المتعثر، وفي التنمية التي تأبى أن تصل ثمارها إلى التونسي الفقير داخل أحزمة الفقر في المدن وفي القرى المهمشة داخل الأرياف المنسية ،هي التي أخذها حزب”قلب تونس” لا سيما في المحافظات التونسية الفقيرة والمهمشة تاريخيًا(في أقصى الشمال الشرقي والغربي للبلاد، والوسط الغربي ). فليس العمدة ورئيس الشعبة وفرقهم البالية من كان يوزع صدقة وهدايا “خليل”، بل شبان في جمعية مدنية “خيرية” يتكلمون لغة جديدة، غير محليين في غالب الأحيان، مرتبطين بشبكات الأنترنت ويمثلون أفقا حداثيًا جديدًا، وكل ذلك مسنود بعمل حرفي اتصالي عبر التلفزة والفيسبوك.
وهكذا،نصل إلى نتيجة، أن أغلب الذين صوتوا لرئيس حزب “قلب تونس”، نبيل القروي، جاؤوا من حزب “نداء تونس”،الذي عانى من التشققات طيلة السنوات اربع الماضية..
الرابحون من الانتخابات الرئاسية
المتابعون للشأن السياسي العام التونسي ، سواء من النخب المحلية ،أم العربية ،وحتى الأجانب ، يُقِرُّونَ جميعًا،أنَّ الرابحين من هذا الاستحقاق الانتخابي الذي جرى في تونس هم،
أولا: الديمقراطية الناشئة في تونس التي كانت أمام اختبار مدى صلابتها بعد ثماني سنوات من الثورة ومن انتقال ديمقراطي متعثر.
ثانيًا:إرادة الشعب التونسي التي عبرت عنها صناديق الاقتراع بشفافية كبيرة، لم يطعن فيها أي من المتنافسين الستة والعشرين.
ثالثًا: إنَّ أهم الرابحين في هذه الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية،باستثناء قيس سعيد ونبيل القروي ،هم أصحاب المراتب السادسة والسابعة والثامنة وهم الصافي سعيد (%%7.11) ولطفي المرايحي (%6.56) وسيف الدين مخلوف (%4.37 ) .وقد أعلن هذا الثالوث عن دعمهم للمرشح قيس سعيد في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. ومن المؤكد أن يلعب هؤلاء دورًا مهمًا في التشكيلة الحكومة المستقبلية، على الأقل للحصول على مناصب وزارية.
الخاسرون في هذه الانتخابات
لا شك أن الخاسرين من نتائج الانتخابات الرئاسية كثيرون، وفي مقدمة هؤلاء:
أولاً:حركة النهضة التي تعرضت لزلزال سياسي ، بوصفها أكبر الخاسرين من هذا التصويت العقابي، حين حصل مرشحها عبد الفتاح مورو على المرتبة الثالثة(12.88بالمائة) .فقد ارتكبت حركة النهضة خطأً كبيرًا بتقدّمها لأول مرة بمرشح للانتخابات الرئاسية بعدما كانت تلعب دور الحاسم في نتائجها من دون أن تشارك فيها.
لقد حملت نتائج الاقتراع أكثر من رسالة إلى أكبر حزب إسلامي في تونس، إنه لا مكان لحزب “أغلبي” في تونس، لا سيما أنّ حزب النهضة تضعضع كثيرًا على مستوى علاقته بالقواعد، التي إما أنها أصبحت أكثر راديكالية في موضوع تشبثها بالمرجعية الإسلامية، فلم تعد تر فيه أفق الدولة الإسلامية بعد أن قضى وقتا في تكوينها بهذه الخلفية، وإما أنَّها اكتشفت المسافة بين خطابه الديني وممارسته الفعلية عندما جرَّبَ السلطة والمسؤولية السياسية، فضاق طعم السلطة، واستسلم لامتيازاتها.
ويشير بعض المحللين أن قواعد حزب النهضة المستاءة من سياسة التوافق التي انتهجها الشيخ راشد الغنوشي، صوتت لمصلحة قيس سعيد ، لا سيما أنَّ هذا الأخير يُعَدُّ رجلاً سياسيًا محافظًا جدًّا يتحدث باسم الإسلام وباسم الشريعة وضد المساواة في الإرث، وغيرها من الشعارات التي تشكل جزءًا أساسيًا من المرجعية الإيديولوجية لحركة النهضة، الأمر التي يعتبرها الشيخ راشد الغنوشي ، حِكْرًا عليه، أو أَصْلاً تِجَارِيًا يعنيه ويعني حركته تحديدًا.
إضافة لكل ذلك، فإنَّ الشيخ راشد الغنوشي الذي قدم ترشحه للإنتخابات التشريعية في دائرة تونس الأولى ، وينوي رئاسة مجلس النواب،ليس مسرورًا بترشّح قيس سعيد للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية، بعد أن أصبح ينافسه على قاعدته الانتخابية، وعلى مرجعية خطابه الإسلامي. فالغنوشي، يريد أن يكون هو وحده من يشكل مرجعية وحيدة للإسلاميين في تونس، وليس رئيسًا متشبثًا بالهوية الإسلامية ، ولا رئيسًا آخر يخاطب التونسيين والعالم بمفردات الشيخ ومصطلحاته.
لقد اهتزت صورة الغنوشي في داخل حركة النهضة، من خلال ظهور أصوات قيادية أصبحت تنتقده بشكل مباشر، وبروز انشقاقات داخل حركة النهضة ، حيث عَلَتْ أصوات كبيرة تطالب بمحاسبة من اختار ترشيح مورو ،إذ شكلت هزيمته استياءً كبيرًا داخل أبناء الحركة، ودفعت الكثيرين منهم للالتحاق بحملة قيس سعيّد والتعبير عن تعاطفهم معه، وانضمامهم اليه.
ثانيًا: إلحاق هزيمة مدوية بالتنظيمات والأحزاب المنتمية إلى اليسار التونسي ، التي تقدمت إلى هذه الانتخابات بثلاثة مرشحين : إذ حصل زعيم حزب العمال حمة الهمامي على نسبة 0.69 في المائة من الأصوات بحسب النتائج الرسمية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وبلغ عدد المصوتين لشيخ اليسار الهمامي 23253 ناخباً فقط، أي أقل بكثير من حجم التزكيات الشعبية التي جمعها والتي بلغت 32236 تزكية.وهذه النسبة تمثل تقريبا 10 بالمائة من النسبة التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية سنة 2015، أي 250 ألفًا ناخبًا.
أما القيادي البارز في حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد النائب المنجي الرحوي، فقد حصل على نسبة 0.81 في المائة من الأصوات فقط، أي أن عدد المصوّتين لم يتجاوز 27346 صوتاً بحسب هيئة الانتخابات، في وقت جمع الرحوي تزكيات 11 نائباً في مجلس النواب، غالبيتهم من نواب الجبهة الشعبية،، بما يعني أنه تقدّم بما يفيد وزنهم الانتخابي وحجمهم في المناطق. أما زعيم حزب “تونس إلى الأمام” الوزير السابق عبيد البريكي فهو يقبع في ذيل نتائج المرشحين بنسبة ضعيفة، بلغت 0.17 في المائة، أي أنه حصل على 5799 صوتاً، أي أقل من نصف عدد التزكيات الشعبية التي جمعها ليُسمح له بخوض غمار الرئاسة، إذ يفترض أن يكون المرشح مدعوماً من 10 آلاف تزكية من الناخبين على الأقل. وأعلن البريكي استقالته من الأمانة العامة للحزب، موضحاً أنّ هذه الاستقالة تأتي على خلفية النتائج التي حققها الحزب، في إشارة إلى الانتخابات الرئاسية.
في عملية حسابية،حصل مرشحو اليسار التونسي مجتمعين على نسبة 1.67 بالمائة (أي 65 381صوتًا، وهذه النسبة أقل من الحد الانتخابي الأدنى، المقدر بـ3 في المائة، وهي نسبة الحسم التي ستمكّنهم من استعادة نفقاتهم المالية الانتخابية).
إنّها أيضا رسالة إلى فصائل اليسارالتونسي الممزّق ،تتلخص في ثلاث نقاط أساسية:
1-إنَّ عهد الشعارات الكبيرة والمواقف الجذرية والخطابات الديماغوجية التي كان يرفعها اليسار التونسي ولّى أمام تصاعد موجات الشعبوية بكل أطيافها السياسية والدينية والقومية والثقافية والمجتمعية والثوريةفي زمن العولمةالليبرالية الأمريكية المتوحشة.
2-إنَّ عقلية مركزية الحزب، ومركزية ونرجسية الزعيم، وكل البنيات التنظيمية والتواصلية التقليدية ،قد لفظتها الانتفاضات والثورات ما بعد 2011، في المنطقة العربية، و رفضتها نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تونس، ما أصبح يتطلب التفكير في طرق العمل السياسي الناجع و آلياته ،المستندة إلى الإيمان بإرادة الشعب التي هي أكبر من أن يحتويها أي حزب سياسي ،أو إيديولوجيا معينة مهما كان لونها.
3- لقد قاد تضخم الأنا والنرجسية الزعاماتية المريضة لدى المرشحين حمة الهمامي ومنجي الرحوي، إلى الإساءة لتاريخ اليسار ورموزه وشهدائه، وإلى حدوث انشقاق داخل مكونات الجبهة الشعبية ، التي كانت تمثل رقماً وازناً في المعارضة البرلمانية بـ15 نائبًا،
وكشف عن أنانية وحب للذات لدى طرفي النزاع على حساب تاريخ الانتماء الذي جمعهما، ومستقبل البناء اليساري الذي كان ينتظرهما.
وهكذا، بقيت فصائل اليسار التونسي على حالها دون مواكبة متطلبات المرحلة وهذا ما أضر بها وهز ثقة النخب بها كسائر اهتزاز ثقته ببقية الأحزاب.
ثالثًا: الأحزاب التي تنتمي إلى العائلة الوسطية الحداثية،لا سيما حزب “نداء تونس”،وكل الأحزاب التي انشقت عنه، لا سيما حزب “تحيا تونس” الذي يترأسه رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وهي أحزاب تستندإلى المرجعية الإيديولوجية و السياسية البورقيبة.
الداعمون للمرشح قيس سعيد في الجولة الثانية
في عملية حسابية، تشير التوقعات أنّ مرشح شباب الثورة والتغيير أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد سيكون الرئيس القادم لتونس وبأغلبية مريحة في ظل دعم شبابي واسع والأكثر من ذلك الصف الثوري والقوى الثورية الكبرى.فقد أعلنت خمسة أحزاب تونسية، دعم المرشح الرئاسي قيس سعيّد، في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية ، أمام منافسه نبيل القروي. ومن هذه الأحزاب حزب “النهضة” الإسلامي الذي حلّ مرشحه إلى الانتخابات الرئاسية ثالثا في الدورة الأولى، حيث أعلن ، أنّه سيدعم المرشح الأستاذ الجامعي قيس سعيّد في الدورة الثانية.
وقال المتحدث باسم الحزب عماد خميري لوكالة فرانس برس “النهضة اختارت أن تساند خيار الشعب التونسي، النهضة ستساند قيس سعيّد في الدورة الثانية من الرئاسية”.
وكان رئيس مجلس الشورى في حركة النهضة عبد الكريم الهاروني أعلن مساء الخميس الماضي أنَّ “المكتب التنفيذي لحركة النهضة قد اجتمع وهو يساند قيس سعيّد”. وأوضح في حديث مع إذاعة “موزاييك أف أم” أنَّه تمت استشارة أعضاء مجلس الشورى “عبر الهاتف والبريد الإلكتروني”، مؤكداً أنَّه لاحظ توجها واضحا للغالبية نحو دعم قيس سعيد.
ومن المقرر أن يجتمع مجلس الشورى في حركة النهضة مطلع الأسبوع المقبل لإضفاء طابع رسمي على دعم سعيّد، بحسب الحزب. وفي 18 سبتمبر غداة صدور النتائج الرسمية، هنأ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وحده قيس سعيد بفوزه على صفحة الحزب على موقع فيسبوك.
كما أعلن حزب “التيار الديمقراطي “،الذي يتزعمه المرشح للانتخابات الرئاسية محمد عبو يوم الأربعاء الماضي ، دعم المرشح الرئاسي قيس سعيّد، في الدور الثاني للانتخابات، أمام منافسه نبيل القروي.ودعا حزب التيار الديمقراطي في بيان، التونسيين “إلى التصويت للأستاذ قيس سعيد، مع التأكيد على مواصلة التيار الدفاع عن قيمه وتوجهاته واحترام الدستور وعلويته، والدفاع عن الحريات العامة وحقوق كل التونسيين (…)”.
وهنأ الحزب (له 3 نواب بالبرلمان) الشعب بـ”نجاح الدور الأول من الانتخابات الرئاسية”، معلنا قبوله بنتائج الصندوق التي منحته المركز العاشر بـ 3.36 بالمئة من الأصوات.
وشكر الحزب “كل الذين وضعوا ثقتهم في مرشحه محمد عبو، وصوتوا لخيار تونس القوية العادلة”.
وباليوم نفسه، أعلن كل من الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي الذي حصل على 2.97 بالمائة ، والمرشح الرئاسي عن الاتحاد الشعبي الجمهوري” (اشتراكي) لطفي المرايحي، ورئيس الحكومة الأسبق والمرشح المستقل حمادي الجبالي على 0.22 بالمائة، من مجموع الأصوات، والمرشح الرئاسي عن ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف، و المرشح أحمد الصافي سعيد ،دعمهم لـ”سعيّد”، في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية المبكرة.
خاتمة:
ستكون لنتائج الانتخابات الرئاسية تداعيات كبيرة على الانتخابات التشريعية التي تختلف كثيراً عن الرئاسية، لأنها تحتكم إلى شخصيات محلية في الغالب، وتأثيرات جهوية وقبلية وعشائرية، إلا أنها لن تكون بمنأى عن تداعياتها التي ستعمق نتائج التشريعية.ومن هذه التداعيات ،حصول حزب قلب تونس” الذي يترأسه نبيل القروي ،بعدد مهم من المقاعد،وفشل مرشحي أحزاب المنظومة الحاكمة ، من خلال تراجع وشيك لمكانة حزب “تحيا تونس” و”النهضة “وأحزاب المعارضة أيضاً لصالح المستقلين، وقوائم جمعية “عيش تونسي”، والجمعيات الخيرية التي انقلبت إلى قوائم انتخابية.
إذا كانت تونس تعيش في ظل سيرورة ثورية جديدة كما تظهر ذلك انتفاضة صناديق الاقتراع ، فإنّ المرشح الأوفر حظًا في الفوز في هذه الانتخابات الرئاسية مطالب بأن يقدم مشروعًاوطنيًا ديمقراطيًا ، يبرزفيه أجوبته الواقعية و العقلانية عن التحديات الداخلية و الخارجية التي تعاني منها البلاد، لا سيما أنّ تونس تنتظر إصلاحًا ديمقراطيًا أكبر من ثورة.
في هذه الانتخابات الرئاسية،برز فاعل اجتماعي جديد، تجاوز أحياناً فعل الأحزاب التقليدية ، استثمر فضاءات جديدة و انخرط في أساليب فعل مغايرة، طوّر أداءه عبر الفعل الشبكي ، وطوّر آليات التواصل و الاتصال ، وشكل مدارات التقاء افتراضية سريعا ما تحولت على فعل ميداني هام ومؤثر.وتجاوز هذا الفاعل الجديد فعل المجتمع السياسي، الذي بدا مفككًا و غير متناغم، هذا المجتمع الذي تخترقه تناقضات داخلية لم تكن من الهواجس الأساسية لهذا الفاعل الجديد. و تجاوز هذا الفاعل أيضًا فعل المجتمع المدني ، و الذي على حداثته بدأت على عديد مكوناته علامات الإجهاد ، وعليه فقد القدرة على الفعل، و أصبح يساير الحدث. الفاعل الجديد هو الفاعل الافتراضي التعبوي الميدان، الذي جسده امرشح قيس سعيد.
ما يميز هذا اللاعب الجديد هو التعدد و التنوع و الاختلاف، إذ لا يمكن تصنيفه وفق المقولات الأيديولوجية التقليدية، فهو لا يعبر عن شريحة اجتماعية أو فئة اجتماعية أو طبقة اجتماعية بل يخترق هذه التصنيفات و يتشكل بالأساس من هويات فرعية تشتغل في أطر مجموعات فرعية قابلة للتفكك و الانحلال وذات قدرة سريعة على إعادة التشكل. ومن دون مجازفة لقد كان لهذا الفاعل الدور الحاسم في نتيجة الانتخابات الرئاسية.
المعضلة الكبرى التي تكمن في تونس،أن العديد من الأطراف السياسية (حركة النهضة، حزب المنصف المرزوقي، حزب التيار الديمقراطي)،والفئات الاجتماعية الشبابية أسقطت رغباتها على مَااصْطُلِحَ تَسْمِيتَه ُبِ” الثورة ” من المُهِمَّاتِ والاِنْتِظَارَاتِ الجسام، ماتعجز هي –ذاتياً وموضوعياً- عن تحقيقه لتواضع إمكانياتها. فالثورة التونسية لم تمس نظام العلاقات الانتاجية ومواقع السيطرة فيها، بل أبقت على تلك العلاقات ، واكتفت بالتبديل في علاقات السلطة والسيطرة، داخل المنظومة الاجتماعية-الاقتصادية عينها التي كانت سائدة في عهد الديكتاتورية.و في هذا السياق تحالفت حركة النهضة مع “حزب التجمع الدستوري الديمقراطي” في ثوبه الجديد، حزب”نداء تونس” .
لا يجوز، إذن، ابتذال معنى الثورة واستخدامه على غير أصوله، كما تفعل العديد من الأطراف السياسية التونسية ، أوحتى المرشح قيس سعيد .. فالثورة ،أوالتغيير الثوري،ليست حالة مشهدية،جموعية،يحتشد في نطاقها الناس(“الجماهير”)ليمارسوا-بالعنف السياسي المدني أو عن طريق صناديق الاقتراع – عملية تغيير للنخبة السياسية الحاكمة.إسقاط سلطة حاكمة ليس، بالضرورة ثورةً أو يفتح طريقًا إلى الثورة، بل قد تُنجزُ طبقةٌ حاكمةٌ ثورةً ،هي نفسُها،أو تشترك مع غيرها من الطبقات و الفئات في إنجاز الثورة سلميًا من دون قطيعة دموية مع عهد سابق(ماذا حصل في بريطانيا غير ذلك؟)… والثورة–في مفهومها النظري- تغيير شامل للبنى و العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية، وهو ما يترافق مع تغيير علاقات السلطة وتركيبها الطبقي المناسب لنوع العلاقات الاجتماعية- الاقتصادية السائدة.
لهذه الأسباب ليس للمرشح المحافظ جدا،قيس سعيد برنامج عمل واضح المعالم، ولم يكن له أيضًا حزب سياسي ثوري ، وفكرسياسي ناضج، كي يؤسس لثورة جديدة في تونس.وإذا حكمنا على “الثورة التونسية”، أو هذه الحركة الاجتماعية الكبيرة التي تحولت إلى انتفاضة شعبية عارمة في سنة 2011، انطلاقًا من الأهداف التي صيغت في قالب شعارات، من قبيل” الديمقراطية ، و العدالة الاجتماعية، و الكرامة الإنسانية”، فلن يكون الحكم عليها في صالحها قطعًا،فليس كلَّ مايُريدُ المرْءُ يُدْركه لوجود، الفجوة الموضوعية بين الرغبات و الشعارات المطروحة ووسائط القوة لتحقيقها، بين الينبغيات و اليقينيات،أو اختصارا- لامتناع ميزان القوى المناسب.
هذه واحدة ، الثانية أنَّ أهدافًا كبرى مثل الديمقراطية، و العدالة الاجتماعية، لا تكفي الإرادة- و الرغبة فيها- كي تتحقق، حتى و إن أسعفت موارد القوة( وميزان القوى بذلك)، فهي –مثل سواها من الأهداف الثورية الكبرى التي عرفها التاريخ البشري في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، و في ثورات القرن العشرين ، تتوقف على وجود الشروط التحتية ، وليس في جوف البنى الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التونسية، ما يفصح عن علائمها، حتى و إن كانت تونس تتميز بوجود طبقة متوسطة قادرة أن تلعب دور الحامل الاجتماعي لأي ثورة ديمقراطية مستقبلية.
وكان لغياب مثل هذه الشروط الموضوعية ، بهذه الدرجة أو تلك في المجتمع التونسي الذي قامت فيه حركة اجتماعية قوية ،من النوع الذي نشأت فيه في سنوات “الربيع العربي”،إضافة إلى أن الحركة الاجتماعية التي قامت بتلك الانتفاضة الشعبية ، لم تتهيأ لها شروطها الذاتية، مثل القوى السياسية الثورية المؤهلة لتنظيمها، وقيادتها، وكذلك الوعي السياسي الناضج و المطابق لشروط الواقع المحلي و الإقليمي و الدولي، تحول مفهوم الثورة بالمعنى التاريخي في تونس، ليصبح ثورة مواطنة مبادئها التخلص من كل أشكال الاستبداد الرئاسي والمحافظة على العقد الجمهوري، و أهدافها التأسيس لأركان مجتمع جديد يوفر شروط المشاركة الديمقراطية و التداول على السلطة و التنمية الشاملة المتوازنة عبر آليات التنمية المحلية و العدالة الانتقالية لتوفير شروط الإنصاف و مقاومة الفساد بكل أشكاله و العمل على اجتثاث أسبابه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى