مغامرات أردوغان السياسية والعسكرية تضاعف وتيرة الانهيار في الليرة التركية

اتضحت هشاشة الاقتصاد التركي أمام تحولات معنويات المستثمرين، ولاحت يوم الاثنين بوادر تكرار محتمل لأزمة العملة في العام الماضي، حين تدافع مستثمرون يابانيون لبيع الليرة، ما أدى لانهيار مفاجئ أفقدها 10 بالمئة مقابل الدولار.
ورغم أن الليرة عوّضت معظم خسائرها بعد ساعات لتنهي اليوم على انخفاض 1.2 بالمئة، إلا أن الانهيار المفاجئ، وهو الثاني هذا العام، يكشف قلقا متزايدا بشأن اتجاه السياسة الاقتصادية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.
ومنذ حصول أردوغان على صلاحيات واسعة في الانتخابات الرئاسية في يونيو 2018 وهو يضاعف التحدي أمام كل ما يواجه سلطته، لكن هذا النهج أصبح يهدد ببطء ولكن بشكل مطرد النظرة المستقبلية لليرة المحاصرة واقتصاد تركيا.
ورفع أردوغان الرهان السياسي في الأزمة الدولية الأخيرة بشأن التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط وفي عزله لثلاثة رؤساء بلديات أكراد وفي الأزمة مع الولايات المتحدة بسبب شرائه منظومة الدفاع الصاروخي الروسية أس 400.
كما ضاعف الرهان أيضا في ما يتعلق بالاقتصاد، واستخدم سلسلة متتالية من الإجراءات قصيرة الأجل لحل مشاكل تركيا الاقتصادية. وفي كل مرة كانت التداعيات تزداد وطأة على الاقتصاد وعليه شخصيا.
لقد أدى قمع أردوغان بلا هوادة للمعارضة في الداخل إلى زيادة هيمنته على كل مؤسسة سياسية تقريبا في البلاد. لكن ذلك حمل تكلفة سياسية أيضا. لقد ساهم في هزائم الانتخابات المحلية هذا العام – فقد حزبه الحاكم السيطرة على إسطنبول والعاصمة أنقرة – وفي ظهور الحركات السياسية المنافسة التي شكلها حلفاؤه السابقون، مثل نائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان.
مضاعفة التحدي المناهض لواشنطن وبروكسل يزداد كلفة. فالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي لم تعد قابلة للإصلاح بعد أن كانت تركيا مرشحة لعضويته قبل 10 سنوات. وأدى احتجاز الاتحاد الأوروبي كرهينة لاتفاقية اللاجئين السوريين الموقّعة عام 2016 إلى سكب الوقود على النار.
ودفعت تركيا ثمنا باهظا حين عمق أردوغان الأزمة السياسية مع الولايات المتحدة العام الماضي بسياساته في سوريا ورفض إطلاق سراح قس أميركي محتجز.
وكانت النتيجة فرض عقوبات اقتصادية أدت إلى انهيار الليرة ودخول الاقتصاد في الركود.
كما ألحق التنقيب عن الغاز في المياه القبرصية إلى إلحاق أضرار جسيمة بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي، الذي يهدد اليوم بفرض عقوبات اقتصادية. وأدى أيضا إلى استبعاد تركيا من تحالف ناشئ في مجال الطاقة بين إسرائيل ومصر واليونان وقبرص والولايات المتحدة.
منذ حصول أردوغان على صلاحيات واسعة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بات نهجه يهدد النظرة المستقبلية لليرة وللاقتصاد
من الواضح أن تكتيكات أردوغان تلحق أكبر الأضرار بالاقتصاد التركي، خاصة بعد امتداد صلاحياته المطلقة في الداخل ليصبح صانع القرار الاقتصادي الوحيد في البلاد.
وكالات التصنيف الائتماني الدولية خفضت تصنيف ديون تركيا لأن قبضة أردوغان تعني أن التنبؤ بالسياسة الاقتصادية بات أكثر صعوبة، خاصة بعد دمجه لوزارتي الخزانة والمالية وتعيين صهره براءت البيرق، المبتدئ في السياسة الاقتصادية لقيادة الوزارة الموحدة.
في الانتخابات المحلية التي أجريت في شهر مارس، خسر أردوغان مدينتي أنقرة وإسطنبول رغم سلسلة تخفيضات ضريبية وحوافز قروض وإجراءات الشعبوية.
ورسمت استطلاعات الرأي التي أجريت بعد الانتخابات صورة قاتمة للرئيس. وأظهرت أن الناخبين لا يثقون بشكل متزايد في إدارته للاقتصاد. أما بعض المؤيدين التقليديين لحزب العدالة والتنمية فقد امتنعوا عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع أو أدلوا بأصواتهم لصالح المرشحين المنافسين.
ومنذ الهزيمة الثانية في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول في يونيو، بعد أن رفض قبول النتيجة الأولى، يواصل أردوغان تحدياته ومغامراته وقراراته الاقتصادية الشعبوية.
وبإقالته لمحافظ البنك المركزي السابق مراد جتين كايا الشهر الماضي، ضاعت الشكوك باستقلالية البنك المركزي، الذي سارع إلى خفض أسعار الفائدة بمقدار 4.25 بالمئة أساس إلى 19.75 بالمئة.
ورغم اتساع العجز في ميزانية تركيا ليقترب من هدف نهاية العام خلال ستة أشهر فقط، استولى أردوغان على عشرات مليارات الليرات من البنك المركزي للمرة الثانية هذا العام. وتم تحويل أموال صندوق الطوارئ إلى وزارة الخزانة لمواصلة الإسراف في الإنفاق الحكومي.
الآن يصر الزعيم التركي على أن البنك المركزي سيخفض أسعار الفائدة مرة أخرى في اجتماع في سبتمبر، ويهدد بأن عدم الولاء للحكومة وسياساتها سيؤدي إلى المزيد من عمليات العزل من المناصب.
كما أصدر أردوغان تعليمات للبنوك التي تديرها الدولة بفتح خطوط الإقراض بكامل طاقتها، وقد امتثلت البنوك وخفّضت فوائد القروض العقارية الاستهلاكية والتجارية بنسبة تصل إلى الثلث. وقدم لها إغراءات بخفض الاحتياطيات الإلزامية إذا ما أقرضت المزيد للشركات والمستهلكين.
ويسعى أردوغان إلى ترسيخ سياساته الاقتصادية من خلال زيادة سلطات وزارة الخزانة والمالية. وقد وقع مرسوما رئاسيا هذا الشهر يسمح للوزارة بالاستحواذ على حصص في شركات خاصة.
ودفع القرار خصوم أردوغان السياسيين إلى الادعاء بأنه سيستخدم المال العام لإنقاذ رجال الأعمال الذين تربطهم علاقات طيبة مع الحكومة.
وباستثناء حدوث انعكاس محتمل في اتجاه السياسة، فإن التوقعات بالنسبة لاقتصاد تركيا تتجه إلى الأسوأ.
ويواجه المستثمرون، الذين كانوا يأملون في عودة أنقرة إلى السياسات الاقتصادية الحكيمة في أعقاب الانتخابات المحلية التي شهدت منافسة حامية، صعوبة أكبر في التنبؤ بخطوة أردوغان المقبلة.
ولقد تحولت رهاناتهم على الأمل، استنادا إلى السياسات الموالية لصندوق النقد الدولي التي اتبعتها حكومته قبل عقد من الزمان، إلى الواقعية والحد من الخسائر.
وربما تكون الحرب التجارية الشديدة بين الولايات المتحدة والصين قد ساعدت في حدوث الانهيار المفاجئ يوم الاثنين في آسيا، بعدما تبادلت واشنطن وبكين فرض الرسوم الجمركية يوم الجمعة. لكنه يدّل على أن تركيا، إلى جانب الأرجنتين التي طالتها الأزمة، هي الأولى مرة أخرى على خط المواجهة عندما تتدهور المعنويات العالمية.
وإذا استمر أردوغان في مضاعفة الرهان بشأن الاقتصاد وفي تعزيز قبضته على تركيا، فسيعاني الأتراك العاديون من تآكل القوة الشرائية والفرصة الضائعة، وفي نهاية المطاف، ستصل العواقب الاقتصادية والسياسية إلى أبواب القصر الرئاسي نفسه.