في ” الهُوِيّة ” و ” الهويّة الاجتماعيّة “.. و التّناقضات التي عمّقها الصّمت

■ استفحلت ظاهرة ” الفساد ” في سورية . و القول الأجدى في تفسير تلك “المشكلة” هو في أن يُنظرَ إليها على أنّها ” فضلات ” احتراق تفاعلات عناصر ” الهويّة الوطنيّة ” السّوريّة المتناقضة بعمق ، و التي أضافت إليها الحربُ بيئةً واسعة من الانحلال و التّفسّخ. ■
■ عندما لا نستطيع أن نقدّر مخاطر الصّمت على الوقائع التي تنسف الانسجام الاجتماعيّ ، على نحو أو آخر، فإنّ هذه الوقائع سوف تشقّ لها طريقاً نحو “استقرارها” و ترسّخها – و ترسيخها أيضاً! – في “ظاهرة” يصبح علاجها بحاجة لإحداثَ انقلاباتٍ شاملة على “الأشخاص” و الأدوات و الوسائل ، و ليس على “القوانين”. ■
■ و من نافل القول إنّ الأوطان و المجتمعات و الشّعوب، كما هو الأمر بالنّسبة إلى الأفراد، لا يمكن لها التّقدّم و التّطوّر ، من دون مواجهة التّحدّيات المتوالية التي تنشأ في “المشروع”..
المشروع كبير .. و يتبع التّحدّي في ضخامته و جسامته و حساسيّته ، المشروعَ الذي يزداد أهميّة، يوماً بعد يوم، كما يزداد في التّعقيد في عالم اليوم . المشروع هو الوطن.. ، و لكنّه قبل كلّ شيء هو المواطن.. ! ■
1▪ بالتّوازي مع أزمة الهويّة الوطنيّة التاريخيّة التي كانت جزءاً من أحداث الصّراع الدّائر في سورية، ربّما يكون قد حان الوقت للحديث على “هويّة اجتماعيّة” سوريّةٍ ، كانت الضّرورة قد سبقت من أجل بحثها، قبل الحرب، و لكنّ الواقع الثقافيّ و السّياسيّ كان يمنع الفكرَ من الخوض فيها لأسبابٍ يفهمها الوطنيّون وحدهم من “السّاسة” و السّياسيّين و المفكّرين.
حقّاً لقد كان الواقع الذي كنّا نريد تغييره، جميعاً، يفرض علينا تناولا للطروحات المتعلّقة بأزمة “الهويّة الوطنيّة”، و لكنّ الأمر كان يبدو كالخوض في مستنقع “مغامرة” فضّل عدم الخوض فيها ضماناً للمصلحة الوطنيّة هذه التي دخلت اليوم في مفهوم الاختلاف و الخلاف.
إذاً لقد أصبحت، اليوم، “الهويّة الاجتماعيّة” موضوعاً ليس مسوّغاً الحديث فيه، فقط، و إنّما مُلحّاً للبحث، تَبعاً لما أبدته الظّروف من اختلافٍ على الأصول العمليّة للسّلوك الاجتماعيّ حِيَال الأشياء كلّها أو يكاد.
2▪ يتطلّب الأمر الكثير من الشّجاعة في التّفكير و الجرأة على الطّرح ، أن يقترب الفكر من مواضع أو مواضيع كانت إلى حين بحكم المُحرّمات أو المسلّمات التّاريخيّة في “الاجتماع” و “السياسة” ، في دولة كسورية أبْدَتْ من “الانسجام الاجتماعيّ”و الواقعيّ، الكثير، منذ أن تأسّس نظامها السّياسيّ بهويّته الواضحة و الصّريحة في ثوابته الوطنيّة و القوميّة منذ أكثر من نصف قرن.
نادراً – ربّما – ما كان الأمر يتطلّب أيّة مُراجعة تحليليّة و نقديّة للواقع الاجتماعيّ، لولا أنّ هذه الحرب قد أدخلتنا من جديد في ضرورة بحث “المصادَرَات” السّياسيّة التي عادت لتكونَ إشكاليّات بِنيويّة في الواقع اليوميّ ، الذي انحاز بالانقسام العميق العموديّ و الأفقيّ إلى وقائع و جهات الصّراع التي تفيض عن الحصر.
3▪ إنّه من لطائفِ الصّراع الدّائر اليوم مع سورية و في سورية و على سورية. أن تكون هنالك دولةً قادرة، بفعل آليّاتها و أدواتها المختلفة، على أن تضبط ذلك الصّراع الآخر الخفيّ الذي يدور على “الموقع” الاجتماعيّ الجديد، ناهيك عن “الموقع السّياسيّ”، و الذي يخوضه مختلف الأفراد و الجماعات و القوى المقنّعة أو السّافرة، لاستثمار النّتائج المقصودة و غير المقصودة التي أسفرت عنها الحرب.
إنّه من مختلف أنواع الصّراع ، ينشأ الصّراع على “الهويّة الاجتماعيّة”، أو اصطراع “الهويّة الاجتماعيّة” بوصفها هي الأخرى محلّاً جديداً – و هو قديمٌ أيضاً – للتّجاذب العُنفيّ المغلّف بالأيديولوجيا و اليوتوبيا و الخرافة في أعماق “الجميع”!
و ما يُضافُ إلى ذلك من خصوصيّة و تعقيد ، أنّنا نتحدّث عن “مجتمع مغلق” بفعل القَبَليّات الصّريحة و الرّمزيّة ، تلك التي تُقيّد حرّيّات التّغيير و التّقدم و تجعل من مجرّد نقد “الظّاهرة” أمراً منظوراً إليه ، على أنّه اعتداء على “الوحدة الوطنيّة” و التي قالت فيها الحرب قولتها بأنّها “وحدة” محلّ تساؤل و تقنّع و تشكيك و شكّ.
4▪ ربّما يعاند البعضُ بصدد أنّ تماثلاً عميقاً يكمن ما بين الظّاهرة و المفهوم، و مع ذلك فإنّنا عادةً لا نتناول المفاهيم إلّاّ بوصفها ظاهرات حيّة في الواقع.
يُدرك الكثيرون من أصحاب الوعي الاجتماعيّ ، أنّ المفهوم لا قيمة له ما لم يؤسّس لظاهرة محدّدة، أو أنّه – على العكس – ينعكسُ ليُعبّر عن ظاهرة تعبيراً ما، مع العلم أنّه ليس من الضّروريّ أن يتطابق المفهوم مع الظّاهرة الخاصّة به، و لو أنّهما لا يمكن لهما الافتراق.
هنا يمكن لنا القول إنّ سوء الفهم أو سوء التّفاهم الّلذين ينطبقان على العلاقة ما بين “الواقعة المفهوميّة” ، بوصفها حدثاً يُشير إلى “المفهوم”، و الظّاهرة التي تعتبر تعميماً تأطيريّاً للمفهوم، إنّما يُعدّان أساسين عميقين، كمثالَين على الأسس المختلفة، للواقع الاجتماعيّ نفسه . ذلك الذي يطعنُ، صراحة و بحقّ، في انسجام “الهويّة الاجتماعيّة” ، التي تتداعى تاريخيّاً في المنعطفات و الامتحانات القاسية ..
هذا مع أنّ تاريخ سورية الاجتماعيّ لم يكن، على كلّ حال، ذلك التّاريخ الذي تُضربُ به الأمثالُ على تماسك “المُتّحد” الاجتماعيّ كبيئة ضروريّة للمواجهات التّاريخيّة التي يمكن أن تمرّ فيها المجتمعات و الدّول غير المصنّفة في عداد الأقوياء!
5▪ إنّ العلاقة معقّدة بين “الهويّة التّاريخيّة” – التي تحدّثنا فيها سابقاً ، مرات عديدة – و “الهويّة الاجتماعيّة”. الأولى تستغرق الثّانية ، فيما تُشيرُ الثّانية إلى الأولى كإشارة من إشارات “الانتماء”الافتراضيّ، في التّاريخ.
من المفهوم أنّ “الهويّة الاجتماعيّة” هي حاصل تفاعل مجموعة من العناصر الدّالّة على الحياة المشتركة العامّة ، من جهة أنّها يشترك في إنتاجها الجميع. و على رغم كونها “مؤسّسة” بجذرٍ تاريخيّ، إلّا أنّ لها سماتها المتغايرة ، من حيث أنّها حاضرٌ يؤشّر على الماضي التّاريخيّ و ربّما يختزله أيضاً ؛ هذا مع التّسليم بأنّ لها استقلاليّة واقعيّة حاضرة ، تتميّز بها على أنّها وحدةٌ من الماضي و الحاضر النّابض بالعمل.
6▪ الانتماء اليوميّ و الفئويّ و الجغرافيّ و السّياسيّ و الجنسانيّ و الدّينيّ و الطّائفيّ و الاقتصاديّ و الاعتقاديّ الدّافع إلى السّلوك، و الانتماء التّنظيميّ و العموميّ و السّيكولوجيّ ؛ كلّ هذه هي عناصرُ تمثيليّةٌ، فقط، للهويّة الاجتماعيّة.
و هي إمّا أن تدخلَ في عُلاقات تكامل و تبادلٍ عادلٍ و انتظام و نظام ، و إمّا أن تدخل في علاقات تضاربٍ و تناقضٍ و تناحرٍ تطرّفيّة و قصيويّة ، تجعلُ كلّ طرف من أطرافها يعملُ على تغريب الآخر و اغتراب الذّات ، سعياً إلى تعبير منفردٍ أو خاصّ عن الواقع الاجتماعيّ ، و الاستتئثار بالحضور و بالمُنتجات و السّياسات و المنافع و الطّموحات.
7▪ و إذا كانت العلاقة أكيدة بين “التّاريخيّ” و “الاجتماعيّ” فإنّ توطّد هذه العلاقة يحمل طابعاً احتماليّاً مزدوجاً.
و أحياناً يتعاضد “التّاريخيّ” مع “الاجتماعيّ” ، ليُنتجَ واقعاً قويّاً و منيعاً في مواجهة “الضّرورة”، بينما – على العكس – يمكن أن يكون ذلك التّعاضد مأساويّاً في نتائجه ، التي تتمخّضُ عن “التّوليفة” الحيّة ما بين زمانين : تاريخيّ .. و واقعيّ.
و هكذا فإنّ “الهويّة التّاريخيّة”، في الحالة الثّانية من الحالتين السّابقتين، تدخلُ في تكوّن و تكوين “الهويّة الاجتماعيّة”، بصفتها علّة قسريّة و مستمرّة ، من شأنها أن تكون وبالاً على الأحياء.
إنّ ما يذوبُ هنا من عناصر “الوطنيّة” و “القوميّة” و الانسجام، ينبعُ من الطّرف الآخر في مجرى التّحالفات الظرفيّة “الآنيّة” ، التي تنعقد في ما بين “المصالح” الضّيقة ، في استثمارٍ واعٍ و عميق لكلّ سلبيّات “المآثر” التّاريخيّة ، التي كان من شأنها أن تمهّد لـ”مجتمعٍ” يستطيع فيه أفراده التّخلّي عن “مشروعٍ” واحدٍ ، يُعبّر عن “مصالح” جميع الأفراد و الأطراف.. و ما إليه.
إنّنا نتساءلُ هنا عن قيمة الواقع الاستثنائيّ ، عندما تنشأ فيه التّناقضات في ظرف حادّ ، كان عليه فيه أن يُبدي أقصى ما يُمكن من الوحدة و الانسجام و الاتّصال.
8▪ في الأزمة التي تعيشها ” الهويّة الاجتماعيّة ” السّوريّة، اليوم، يدخل العمق النّفسيّ الفرديّ و الجِهويّ في تظاهرة تاريخيّة فريدةٍ من الانقطاعات المتوالية للرّوابط ، التي تميّز المجتمعات في كلّ زمان و مكان ، منذ ولادة الدّولة الحديثة في التّاريخ و حتّى اليوم.
هذا النّفيُ يُعبّر عن جذرٍ راسخ في الفهم العامّ للمصلحة و الانتماء و الأمان و الطّمأنينة ، و في ممارسة الغالبيّة لأفعال تتطابق مع شكل الفهم المستقرّ ، لجميع تلك المصادر الدّالة على الأفعال.
نحنُ لا نحاول أن نقولَ مجرّد انطباعات حسّيّة على الواقع . . و إذا كانت “الأحاسيس تُنتج الأدبَ الرّديء” ( وَفق أندريْه جِيد ) ؛ فإنّها كذلك كفيلة بتشويه جميع الأفكار التي من شأنها أن تعالج الشّأن العامّ.
ففي الشّأن العامّ ، نحنُ أمام مسؤوليّة إنسانيّة و فكريّة و سياسيّة و اجتماعيّة ، لا يُمكن إلّا أن تتّسقَ مع طموحنا إلى التّعبير عن الحقيقة.
و على رغم ذلك، أو أنّه بسبب ذلك ، لا يُمكنُ إلّا للواهمين و أصحاب المشاريع “الفرديّة” التي تعمّق “الانقسام”، أن يتمّ تجاهل الآثار الواضحة لتناقضات “الهويّة الاجتماعيّة” السّوريّة ، التي عبّرت عن “اغترابيّة” اجتماعيّة عن السّياسة العامّة و عن أفعال الدّولة و النّظام.
و بدلاً من أن يتعمّق مفهوم “النّظام العامّ” ، أصبح الواقع عبارة عن “مفردات” من الفوضى و التّسيّب الذي استبدّ بالأشياء ، و هو في طريقه – ربّما- إلى الرّسوخ.
و في هذه الحالة نحن لا نتكلّم عن “وقائع” و إنّما نرصد “ظواهر”، هي قيد التّشكّل و الدّيمومة.
9▪ تدرسُ أنثروبولوجيا الشّعوب و المجتمعات جميعَ المظاهر التي تجعلُ من شعبٍ أو مجتمع ، يتطوّر أو ينقرضُ مع الزّمان.
و في إطار ذلك تتناول الأنثروبولوجيا، بالدّرسِ، العاملَ النّفسيّ تحتَ الشّدّة، بوجه خاص، و لا تدرسه في حالات الرّخاء ، إلّاّ بوصفه كان شاهداً على ماضٍ صار أثراً من الآثار.
و من مظاهر “الهويّة الاجتماعيّة” المأزومة ، أن تسود بين الأطراف الاجتماعيين علاقاتٌ مأزومة أيضاً.
أولى علامات هذه “الأزمة” أن يسود شعورٌ “عامّ” بعدم الرّضى ، يترافق مباشرةً مع شعور عارم بانتفاء الثّقة ما بين الأفراد و الجماعات في ما بينهم، من جهة ، أو ما بينهم و بين الحياة العامّة ، متمثّلة بالنّظام العام و القانون و الإدارة و المصلحة العامّة ، من جهة ثانية.
و فيما يكون ذلك عامّاً شاملاً الأغلبيّة من الأفراد و الجماعات، فإنّ تشخّص هذا الشّعور و ذلك الموقف النّفسيّ في استلابات من التّوجّس السّلبيّ نحو “الآخر” ، بما في ذلك تجاهل هذا “الآخر” تجاهلاً كليّاً ، في نزعة ذاتيّة سلوكيّة مخنوقة هي الأخرى بمشاعر الحِداد، هو ما يُميّز الحالة الواقعيّة المباشرة للهويّة الاجتماعيّة المأزومة.
10▪ هنا يمكن لنا تعريف “الهويّة الاجتماعيّة” الطّبيعيّة ، بأنّها تلك الظّاهرة التي تُنظّم تلقائيّاً علاقات الأفراد، غير الرّسميّة، تنظيماً من شأنه أن يُحدّد موقفنا من “الذّات” و موقفنا من “الآخر”.
إنّها ذلك الانسجام في تحمّل المسؤوليّات الخاصّة و العامّة، كما أنّها تلك “العدالة” في النّظرة إلى “الحقوق” و “الواجبات”.
لا يقتصر تصوّر “الهويّة الاجتماعيّة” على الحالة السّابقة ، التي تُصوّر لنا واقع التّبادل الاجتماعيّ للعلاقات “المدنيّة” ما بين الأفراد و الجماعات فحسب.
ذلك أنّ الصّورة الكاملة للهويّة الاجتماعيّة ، تشترط وصف العلاقة الاجتماعيّة مع النّظام العامّ في المؤسّسات التي تمثّل هذا “النّظام” ، تمثيلاً مباشراً رسميّاً و قانونيّاً.
و تبعاً لتداخل “المكان الاجتماعيّ” مع “المكان السّياسيّ” ، فإنّ “المؤسّسة” العامّة هي خير ما يُمثّل “الهويّة الاجتماعيّة” ، و بخاصّة في أوقات الكوارث و الحروب.
فعندما لا يُمكن للمشاهدة العامّة منها و الشّخصيّة ، أن تُميّز ما بين أيّة مؤسّسة في “الدّولة” و بين أيّ “منزل” للهوى المؤقّت، فإنّ أزمة “الهويّة الاجتماعيّة” تكون قد وصلت إلى أقصاها في التّعبير عن أسوأ ما فيها من أمراض!
أعني عندما تغيب “الأخلاق المسلكيّة” عن “المؤسّسة” و تُستبدل بها الأخلاق العامّة للأفراد ، بما فيها الخصوصيّات الجزئيّة السّلبيّة التي تطبع الشّعب بطابعها الأخلاقيّ المتجزّء و المتناقض و الشّخصيّ و النّفعيّ و المَرَضيّ، فإنّ أزمة الهويّة الاجتماعيّة تصبح، عندها، خَطَراً على “المجتمع” نفسه ، بوصفه مكاناً اجتماعيّاً لممارسات “الوجود” و التّعبير عن الفرديّة الشّخصيّة بحريّة و مسؤولية ..
كما تُصبح خَطَراً على “الدّولة” المعبّرة، بحكم تكوينها و وظيفتها و طبيعتها، عن مصالح جميع الأفراد و مصالح المجتمع.
11▪ ما أريد قوله ، هو أنّ أزمة الهويّة الاجتماعيّة – كما هي في سورية، اليوم – تتجاوز في خطرها مفهومَها الاجتماعيّ إلى الخطر “السّياسيّ” أيضاً.
ليست السّياسة هي لغة الحاكمين المُجرّدة ، و إنّما هي لغة “المؤسّسة” الحاكمة ( و هي هنا الدّولة بمفهومها الواسع ) في علاقاتها مع جميع المحكومين.
” الدّولة” تجريدٌ و تشخيصٌ، في الوقت عينه، لمفهوم “النّظام”. و من الواضح أنّ للنّظام نفسه بُعْدَيْنِ ، أحدهما سياسيّ و الآخر اجتماعيّ ، بما في هذا الأخير البعد الاقتصاديّ و الثّقافيّ و الأخلاقيّ كذلك.
12▪ تعاني جملةٌ من الظّواهر المَرضيّة ، من عدم قابليّتها للفهم و التّفسير. . و تكثر الشّروحات و الدّراسات و البحوث المتعلّقة بها ( الظّاهرة ) من دون أن تقول شيئاً شافياً عنها.
و نجد تفسير ذلك في عدم القدرة الحقيقيّة على تشخيص “جوهر” الظّاهرة – المشكلة و تحديدها تحديداً علميّاً بوضوح.
و المثال على ذلك ما استفحل مؤخّراً في سورية من ظاهرة “الفساد”.. و القول الأجدى في تفسير تلك “المشكلة” هو في أن يُنظرَ إليها على أنّها “فضلات” احتراق تفاعلات عناصر “الهويّة الوطنيّة” السّوريّة المتناقضة بعمق ، و التي أضافت إليها الحربُ بيئةً واسعة من الانحلال و التّفسّخ.
13▪ نحن لا يُمكننا أن نعالج العَرَضَ بعيداً عن السّبب، و لكنّنا نستطيع، بالفعل، معالجة العرَض مع جميع اختلاطاته ، عندما نتمكّن من “التّعليل”.
و هكذا فإنّ موضوعة معالجة “الفساد ” – كمثال فقط.. – لا تُعتبر واقعيّةً ، ما لم نأخذ معها، و بالمعاصرة لها، أهمّ “دعاماتها” الواقعيّة اليوميّة ، من “تناحرات” الهويّة الاجتماعيّة ..
هذه التّناحرات الصّريحة التي سكتْنا عليها مطوّلاً، لسبب أو لآخر، بل و عَمَدْنا إلى التّقليل من آثارها ، بمجموعة من “الوصفات” السّياسيّة غير الموفقة ، التي لم تكن تهدف إلى معالجتها ( التّناحرات ) و إنّما إلى “التّقليل” من أهميّتها و التّخفيف من آثارها المتراكمة، عن طريق وسائل و أدوات و مُعالجات كانت ينقصها الشّجاعة السّياسيّة – و ربّما الأخلاقيّة أيضاً – بل و بوسائل أخرى كانت تأخذ طابع “الرّشيّة” السّياسيّة و الاجتماعيّة لتأجيلها مرحليّاً و حسب.. !!؟
14▪ و عندما لا نستطيع أن نقدّر مخاطر الصّمت على الوقائع التي تنسف الانسجام الاجتماعيّ ، على نحو أو آخر، فإنّ هذه الوقائع سوف تشقّ لها طريقاً نحو “استقرارها” و ترسّخها – و ترسيخها أيضاً! – في “ظاهرة” يصبح علاجها بحاجة لإحداثَ انقلاباتٍ شاملة على “الأشخاص” و الأدوات و الوسائل ، و ليس على “القوانين”.
تُرى هل يمكن لقانونٍ أن يفعل فعله نحو أهدافه، و مهما كانت هذه الأهداف أهدافاً واضحة، في الوقت الذي يوكل أمر تنفيذه و تطبيقه إلى أعداء له و مناهضين.. ؟!
في غالب الأحيان يسير القانون ، بمفرده ، أعمى ، بالمقارنة مع مسيرة أولئك الذين ـ و هم في معرض تطبيقه ـ يسيرون باتّجاه “سياساتهم” الشّخصيّة ، التي لا تنجح إلّا في ظروف الاعتداء على القانون!
15▪ من غير الضّروريّ- كما نرى- أن نورد الأمثلة المتوالية على أزمة “الهويّة الاجتماعيّة” السّوريّة. و لكنّه من الضّروريّ، بالمطلق، أن نعمل على معالجة “الجذور” قبل أن نعالج السّوق و الأغصان !
و من البدَيهي أنّ أمْرَ التّداخل الجراحيّ ، لمعالجة انحراف الهويّة الوطنيّة ، يبدأ أوّلاً بمعالجة الهويّة الاجتماعيّة .. هذه الهويّة التي يكمن علاجها، فقط، في معالجة الواقع الاجتماعيّ ، بوسائل تبدأ بالدّستور و تنتهي عند آخر مُستخدَمٍ ( آذِن! ) في أصغر مؤسّسات الدّولة و المجتمع.
16▪ يُقال : إنّ كلّ مشكلة محلولة أو تُحلّ أو قابلة للحلّ، إنّما هي مشكلة ساهمتَ أنتَ في صناعتها.. !!؟ فهل نستطيع فعلاً أن نقبلَ هذا التّحدّي المضمونيّ في الصّراع على “الهويّة الاجتماعيّة”، و نعترف، أوّلاً، بإمكانيّة تشخيص الأخطاء الجسيمة التي تظهر في طريق التّطوّر ، في مجرى الصّراعات الموضوعيّة، و نباشر في إعلاء “السّياسيّ” على “الاجتماعيّ” ، كمرحلة ضروريّة و تمهيديّة لإعادة بعث “الهويّة الاجتماعيّة” المنسجمة من جديد؟
هذا ليس سؤالاً ! .. إنّه التّحدّي التاريخيّ الأكبر أمام سورية المستقبل!
17▪ و من نافل القول إنّ الأوطان و المجتمعات و الشّعوب، كما هو الأمر بالنّسبة إلى الأفراد، لا يمكن لها التّقدّم و التّطوّر ، من دون مواجهة التّحدّيات المتوالية التي تنشأ في “المشروع”..
المشروع كبير .. و يتبع التّحدّي في ضخامته و جسامته و حساسيّته ، المشروعَ الذي يزداد أهميّة، يوماً بعد يوم، كما يزداد في التّعقيد في عالم اليوم . المشروع هو الوطن.. ، و لكنّه قبل كلّ شيء هو المواطن.. !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى