كانت مصر أول دولة في العالم، خارج القوى العظمى، تتبنى مشروعاً طموحاً لصناعة الصواريخ البالستيه. بل أن مصر في تلك الفتره كانت هي الدولة الوحيدة، خارج القوى العظمى، التي تمكنت من الإستفادة من العلماء الألمان وخبراتهم العلمية والتكنولوجية التي إكتسبوها في الحرب العالمية الثانية.
كما هو معروف، فقد كانت المانيا النازية أول دولة في التاريخ تنتج صواريخ بالستية واستخدمتها في أواخر الحرب بشكل فعال و مدمر ضد بريطانيا وأهداف أخرى، وإن جاء ذلك متأخراً ليغير نتيجة الحرب. وكان من أهم أهداف الحلفاء هو الحصول على تلك التكنولوجيا والقبض على العلماء الألمان لإجبارهم على العمل في دول الحلفاء. وفعلاً تمكنت أميركا من القبض على الدكتور فون براون وحوالي ١٦٠٠ من مساعديه. وكذلك فعل الاتحاد السوفياتي ولكن إلى درجة أقل. وشكل العلماء الألمان القوة العلمية الأساسية وراء برنامج الفضاء الأميركي بما فيها صناعة الصاروخ العملاق ساترن ٥ الذي حمل مركبة الفضاء الأمريكية إلى القمر.
في الخمسينات من القرن الماضي أدرك جمال عبدالناصر أهمية سلاح الصواريخ، خاصة في ظل التفوق الجوي الذي تتمتع به إسرائيل وكذلك تفوق جيشها من ناحية التسليح والتدريب. فأصدر أوامره بالبحث عن من بقي من العلماء الألمان وبذل كل الجهود لتوظيفهم في مصر بمرتبات وميزات مغرية. وفعلاً نجحت مصر في ذلك ووفرت كل الظروف المناسبة للعلماء، وعلى رأسهم الدكتور ”بينز“ االذي كان مساعداً لفون براون أثناء الحرب العالمية، وسخرت لمساعدتهم (والتعلم منهم) فريقاً كاملاً من العلماء والمهندسين والفنيين المصريين لينهمكوا جميعاً بالعمل والأبحاث والتجارب لإنتاج صواريخ بالستيه في مصر مع الإبقاء على السرية الكاملة للبرنامج.
وفعلاً وقبيل عيد الثورة العاشر، نجحت مصر في تجربة نوعين من الصواريخ، الظافر بمدى ٣٠٠ كم والقاهر بمدى ٦٠٠كم. وقد شاهد رئيس الجمهورية وكبار المسؤلين وعدد غفير من الصحفيين والمصورين تجربة إطلاق الصواريخ بنجاح، رغم وجود عيوب في أجهزة التوجيه والتي كان العمل جارياً لتحسينها. وقع خبر إطلاق الصواريخ على إسرائيل وأميركا وقع الصاعقة وفوراً شرعوا في التخطيط لإيقاف البرنامج والتخلص من العلماء الألمان بأي ثمن. بدأ الموساد بحملة تهديد للعلماء ولعائلاتهم ثم بإرسال الطرود المفخخة لهم حتى أن أحد تلك الطرود إنفجر في وجه سكرتيرة الدكتور بينز مسبباً لها تشوهات خطيره. وفي نفس الوقت كان هناك ضغط شديد من الحكومه الألمانية على العلماء لوقف تعاملهم مع مصر والعودة بأسرع وقت إلى المانيا، وهو ما حدث بالفعل.
وفي نفس الفترة، كانت مصر عبدالناصر تقوم بمشروع آخر لا يقل طموحاً عن تطوير الصواريخ، ألا وهو إنتاج طائرة نفاثة مصرية بالتعاون مع العلماء الألمان. وكان ”مسرشميدت“، الذي حملت إسمه أهم طائرات سلاح الجو الألماني أثناء الحرب العالمية، هو أعظم مصممي الطائرات في العالم وكانت له طموحات هندسية عظيمة لم يتمكن من تحقيقها بسبب هزيمة بلاده. وهكذا إستدعت مصر فريقاً من العلماء الألمان الذين عملوا مع مسرشميدت وقامت بتهيئة الظروف المناسبة لهم ووضعت تحت تصرفهم فريقاً مصرياً من العلماء والمهندسين ليشاركوا في إنتاج أول طائرة مصرية نفاثة أسرع من الصوت من تصميم مسرشميدت. وقد تعرض اولئك العلماء من الألمان لنفس الأخطار التي تعرض لها زملاؤهم من علماء الصواريخ مما سبب أنهم أيضاً انسحبوا من مصر. ولكن إستمر المشروع بالتعاون مع الهند وهكذا ولدت الطائره حلوان ٢٠٠ وتمت تجربتها أولياً بنجاح. وقد صنعت ثلاثة طائرات تجريبية لإستكمال التجارب التي كانت ستستغرق بعض الوقت. وللأسف وقعت حرب ١٩٦٧ مما ترتب عليه وقف المشروع مؤقتاً حتى إزالة آثار العدوان. وبوفاة الزعيم الخالد وما تبع ذلك من التنكر لمشاريع الثورة، تم شطب المشروع نهائياً. ولم يتبق الآن إلا واحدة من تلك الطائرات الثلاث وقد إشترتها مؤسسة المانية وأجرت عليها صيانة كاملة وهي معروضة الآن في متحف بالقرب من ميونخ بألمانيا بألوانها المصرية.
من المحزن أن برنامج الصواريخ المصري الذي كان طموحاً وسابقاً لعصره وبكل تكاليفة ومتاعبة والإنجازات التي حققها، كان موضع إستهزاء من أعداء عبدالناصر. بعد وفاة الزعيم الخالد أُلغي برنامج الصواريخ كما أُلغي برنامج تطوير الطائرات النفاثة وتركت منتجات تلك البرامج ليعلوها الصدأ والغبار ولتكون مادة يستخف بها ضعاف الفكر والعزيمة.
من مفخرة مصر في عصر عبدالناصر أنه بعد أن نجحت الصين في إطلاق أول صواريخها البالستية، جن جنون الإداره الأميركيه التي إتهمت مصر بتصدير تكنولوجيا الصواريخ للصين. وكان حقيقة ما حدث أن د. بينز، بعد إنسحابه من مصر وعودته إلى ألمانيا، تعاقد مع الصين وساعدها في إنتاج صواريخها، تماماً كما فعل في مصر.
وقد كان برنامج الصواريخ الناصري أكثر طموحاً مما يعتقد الكثيرون، فقد تم بعد النجاحات الأولية تطوير صاروخ أضخم ا“لرائد“ بمدى يزيد على ألف كم. وطبعاً لم يكن المقصود من مداه البعيد قصف إسرائيل، فذلك كانت تتكفل به صواريخ القاهر والظافر، وإنما كان المقصود منه حمل قمر صناعي مصري للفضاء الخارجي.
أين كنا وأين أصبحنا!؟