‏ثورة 23 يوليو.. ضمير الزمن الجميل وبشير المستقبل الزاهر

‏التاريخ لا يشيخ.. ‏آلة الزمان ‏لا تكف ‏عن التجدد ‏والدوران، ‏فالعصور ‏والدهور ‏لا تعرف ‏الهرم ولا تطيق‏ بياض الشيب.. ‏ثورة 23 يوليو أيضا لا تبلى ولا تبيد ولا تتلاشى بالتقادم، ‏فهي‏ حاضرة في قلب الحاضر وليست قابعة في تلافيف ‏الماضي، وهي مؤهلة‏ لقيادة ركب ‏المستقبل العربي، وليست ‏مهيأة ‏للانزواء ‏في دهاليز النسيان.‏
‏هذه الثورة المجيدة ستبقى خالدة بقدر ما كانت رائدة.. ‏ستبقى هادية ‏ومؤثرة بقدر‏ ما ‏كانت فاعلة ومظفرة.. ‏ستبقى مصدر ‏إلهام وقوة مثال وقدوة ‏اجيال، بقدر ‏ما ‏كانت مشعل ضياء ومرجل نضال ومصنع أبطال.
‏ميزة هذه الثورة ‏عما ‏سبقها ‏وما لحقها ‏من ‏الثورات والحركات والانتفاضات الشعبية ‏العربية، أنها قد امتلكت ارادة ‏البقاء على قيد الحياة، وسحر منادمة التاريخ ‏ومصاهرة ‏المستقبل وتلبية ‏احتياجات الأجيال العربية المتلاحقة.. ‏فليس في ‏رزناماتنا ‏القريبة والبعيدة ‏ما هو افضل وأفعل واطهر منها، ‏وليس في تجاربنا الثورية ‏او التقليدية ما عوضنا ‏عنها او شكّل ‏بديلاً ‏عنها، حتى وإن شكّل امتداداً لها.
‏هذه الثورة لا تحتاج من أحد إلى تزكيتها‏، أو الدفاع عنها، ‏او الاقتناع بأهميتها، ‏أو التذكير بصولاتها وجولاتها، ‏أو الشهادة لمبادئها وأخلاقياتها ومواقف قيادتها.. ‏فهي الحَكَم وليس المتهم، وهي الفيصل وليس الظنين، ‏وهي مسطرة القياس واداة الاستدلال وال التعريف ‏التي يتمايز بها الحق عن الباطل، ‏والمناضل عن العميل، والشريف المنتمي إليها عن المأجور المتحامل عليها.
‏ثورة 23 يوليو لم تنته برحيل ربانها، ولم تمت بالردة عنها والانقلاب عليها.. بل ظلت – شأن كل الثورات العظيمة – روحاً تسري في الوجدان العربي النقي، واملاً يجول في خاطر كل احرار العرب، وضميراً مستتراً لا يلبث ان يتحول الى فعل مضارع وقوة تنفيذية جبارة، بمجرد ان تلوح اللحظة النوعية، وتتوفر الشروط الموضوعية.
‏انظروا إلى روح الثورة اللينينية التي ما زالت تسري في الفؤاد الروسي‏، رغم ‏انهيار الاتحاد السوفياتي، ‏وانظروا إلى روح الثورة الماوية التي ما زالت تحفز الشعب الصيني على التقدم والتفوق، رغم ‏اختلاف البرامج والمناهج هناك بين الأمس واليوم، ونظروا ‏الى ‏روح الثورة البوليفارية التي ما زالت تنبض – منذ قرنين – في شرايين ‏الأجيال المتعاقبة من شعوب امريكا اللاتينية.
‏الثورات العظيمة لا تكرر ذاتها، ‏أو تتكلس عند شكل واحد من اشكالها وتجلياتها، بل ‏هي دائمة ‏التجدد والتمرحل وابتكار الصيغ والتعبيرات الملائمة لظروف الزمان والمكان.. ففي يقيني ان حركة المقاومة والممانعة العربية، وعلى رأسها حزب الله، هي امتداد لثورة ٢٣ يوليو، ووجه آخر من وجوهها وتجلياتها الساطعة، ولا اخال عربياً يسمع خطابات السيد حسن نصر الله الا ويربط على الفور بينه وبين عبد الناصر، ويرى في شجاعة وكبرياء وعنفوان “ابي هادي” ذات السجايا والمواصفات الكاريزمية التي كانت لدى “ابي خالد”، بل لعل الكثير من رعيان النفط لا يمقتون هذا الزعيم اللبناني لشيعيته وثوريته وايرانية مرجعيته، وانما لانهم يرون فيه الوجه الآخر لذلك الزعيم المصري الخالد الذي ناصبوه العداء حياً وراحلاً.
‏عظمة هذه الثورة لا تُقاس فقط بحجم إنجازاتها وعِظَم مسؤولياتها وقوة الحمية والحيوية التي بعثها في اوصال الامة العربية.. بل تُقاس ايضاً بقدرتها الهائلة على الصمود والتحدي والتصدي للكثير الكثير من المؤامرات والفتن والحروب التي دأب على شنها التحالف الاستعماري- الصهيوني- الرجعي، شأن الحاصل حالياً مع سوريا التي تكابد وتجاهد، بكل شجاعة وشرف، في مواجهة نفس ذلك التحالف الثلاثي الشرير، وبما يُمثّل همزة وصل وعلامة تشابه بين شكيمة عبد الناصر وبشار الاسد.
الوزن النوعي والتاريخي لثورة ٢٣ يوليو لا يُحسب فقط بجلال مبادئها الوطنية والقومية والتقدمية، وبسالة نضالاتها في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية.. بل يُحسب ايضاً بسمو اخلاقياتها ونزاهة قادتها وبعدهم عن اللصوصية والزبونية والفساد والتنعم على حساب الشعب.. فكم يزداد المرء تعلقاً بهذه الثورة واعجاباً بعفة رجالاتها، حين يكتشف ان رئيس دولة مفلسة مثل عمر البشير يكتنز في خزائنه ملايين الدولارات عداً ونقداً، وان رئيس دولة المليون شهيد “المجاهد” عبد العزيز بوتفليقة قد ترك لاشقائه ومحاسيبه ورؤساء حكوماته ان يخونوا امانة الشهداء، ويمعنوا في المال العام نهباً وسلباً واختلاساً.
على ان الادهى والامرّ هو ذلك المسلك المخزي لاشباه الرجال من حكام الخليج الذين شوّهوا صورة الانسان العربي في نظر العالم، ولطخوها بمرذول الصفات والصبيانيات، بعدما اثبتوا بالفعل الملموس انهم محض ابقار حلوب تدرّ مليارات الدولارات في جيوب المرابي الشيلوكي دونالد ترامب الذي يبيعهم الاوهام، ويبتزهم بالمجان، ويُعيّرهم بمذلتهم وتفضله بحماية عروشهم ومشيخاتهم.
عموماً.. في ذكرى هذه الثورة الاستثنائية العابرة لرزنامات الدهر ، يطيب لنا ان نتصوف في محرابها، ونستعيد شريط الايام الخوالي والزمن الجميل، ونستذكر منظومة المبادئ القومية والمواكب الوحدوية العروبية، ونسترجع اصداء الخطابات الناصرية النارية التي كانت مثار اهتمام واحترام الشرق والغرب، ونوقن ان غربة امتنا العظيمة عن مجدها التليد وتاريخها المجيد ودورها الحضاري لن ولن تطول باذن الله.. فكما انبثقت ثورة ٢٣ يوليو من قلب النكبة الفلسطينية، وسطع نجم “ابي خالد” من عُمق الدياجير العربية، لا بد لحتمية التاريخ ان تُقيل امتنا من عثرتها، وتعيد تصويب مسيرتها، وتمنحها الفرصة اللازمة لاستئناف انطلاقتها وشحذ عبقريتها.. وتفاءلوا بالخير تجدوه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى