هل نلغي أعياد ألإستقلال؟

شهدالنصف الثاني من القرن العشرين نهاية عصر الإستعمار البشع، حينما هبت رياح الحرية و التغيير على الشعوب المضطهدة وإنطلقت الثورات في إفريقيا وآسيا لتضع نهاية لحقبة مقيتة ومظلمة في تاريخ الإنسانية. و التحرر من أغلال الإستعمار لم يأت رخيصاً فقد بذلت الشعوب في سبيل ذلك الهدف السامي كل ما لديها من الغالي والنفيس. الجزائر مثلاً ، كافحت لسنين طويلة وبذلت الدماء والأرواح في سبيل حريتها وإستقلالها. ولكننا نعرف أنه بالمقابل، هنالك شعوب، مشيخات الخليج مثلاً، حصلت على إستقلالها من غير حتى أن تطالب بذلك الإستقلال. لكن ذلك النوع من الإستقلال، الذي جاء مغلفاً بورق الهدايا الفاخر وقُدِّم لهم على أطباق من فضة ومرفقاً به بطاقات التهنئة المخملية لم يكن في حقيقة الأمر يمت للإستقلال بأي صلة. فرغم أن كلمة ”إستقلال“ كانت مطبوعة على الهدية، وربما بأحرف ذهبية، إلا أن المحتوى كان إستعماراً جديداً في حلةٍ جديدة تتناسب مع هذا الزمن الجديد.

في الستينات من القرن الماضي، وشيئاً فشيئاً، أصبحت ظاهرة الإستعمار منكرة ومرفوضة أخلاقياً حتى عند شعوب الدول الإستعمارية نفسها. فبعد موجة الثورات التحررية في إفريقيا وآسيا، أدركت الحكومات الإستعمارية أن الإستعمار، بشكله البشع و الفاضح، لم يعد قادراً على الإستمرار. وذلك ما أشار إليه ماكميلان، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، عندما تحدث عن ”رياح التغيير“ التي هبت على العالم الثالث في الستينات، وكان ضمنياً يقر بصحة قول عبدالناصر أنه ”آن للإستعمار أن يحمل عصاه على كتفه ويرحل“.

وفعلاً بدأت بريطانيا برنامجاً للتخلص من مستعمراتها واحدة تلو الأخرى وألغت منصباً كان من أهم المناصب الحكومية، وهو منصب ”وزير المستعمرات“. وهكذا حصلت بعض الدول الصغيرة، مثل مشيخات الخليج، على إستقلالها – أو هكذا ترائى لنا. فالحقيقة المرَّة هي أن الإستعمار لم يرحل من تلك البلاد أساساً بل إستمر يجثم على صدورها كما فعل دائماً. أمثال تلك المشيخات والمملكات ليست في حقيقة الأمر دولاً مستقلة، ولم تكن في يوم ما، حتى وإن كانت لها أعلام وأعياد إستقلال وغير ذلك من ألأقنعة ألزائفة التي تخفي الحقيقة المرّة. حال تلك الدول كحال موظف بسيط له بعض الحرية في التصرف في مكتبه لكنه يعرف أن هناك تعليمات يجب عليه أن يتبعها وأن هناك من يراقبه و يوبخه أو حتى يطرده نهائياً من منصبه.

ونحن نشاهد المسرح السياسي الدولي، كثيراً ما يظهر لنا بعض القادة العرب وهم يقومون بأدوارهم التي تمرسوا على القيام بها. في المسرح السياسي لا بد أن تؤدى الأدوار بأمانة تماماً كما هو الحال في المسرح الترفيهي، وأي خروج عن النص تكون عواقبه وخيمة.

عندما أنظر إلى حال الدول العربية الآن أجده حالاً يرثى له، فليست من دولنا العربية دولة واحدة مستقلة. فمشيخاتنا ومملكاتنا لم تحصل أساساً على إستقلالها وجميعها ولدت بعيوب خلقية ومكبّلة بعهود وإتفاقيات لا حصر لها مع مستعمريها، وبقاؤها مقرون ببقاء ورضى مستعمريها . وجمهورياتنا ليست أحسن حالاً، فها نحن نرى مصر، التي قادت حركات التحرر الوطني في يوم ما، وقد تنكرت لنضالها وتاريخها المجيد وتخلت عن إستقلالها و دخلت طواعية إلى حظيرة الإستعمار الجديد. أما العراق وسوريا واليمن فلا تزال تخوض حروباً ضروسةً للتخلص من إلإستعمار بشكله الجديد وألإحتلال الأجنبي.

والحال كذلك، أليس أجدر بنا كعرب أن نلغي أعياد ألإستقلال، ذلك الإستقلال الزائف؟

والمؤسف أكثر أن هذا الوضع المزري ينسحب أيضاً على معظم الدول الإسلامية التي لا يسر حالها كثيراً. فباكستان مثلاً، وهي دولة نووية وذات قوة عسكرية معتبرة، لكنها أيضاً مسلوبة الإرادة ومحدودة الحرية و كأن كل قنابلها النووية لا تمكنها من التغلب على قوة الجاذبية التي تبقيها أسيرة في الفلك الأميركي. و نفس الشيء ينطبق على تركيا، التي كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل. تركيا أيضاً ذات قوة عسكرية معتبرة و تعج بالقنابل النووية الأميركية لكنها لا تستطيع حتى الإقتراب منها. الأسلحة النووية الأميركية في تركيا ليست لها أي فائدة للشعب التركي بل كل الضرر لأنها تضع تركيا على قائمة الأهداف المستهدفة نووياً. لكن تركيا أيضاً مكبلة الأيدي ولا حول لها ولا قوة ودورها المرسوم هو أن لا يظهر لها عضلات إلا عندما تعتدي على سوريا أو العراق أو الأكراد. ها هو اردوغان، الخليفة المزعوم، وبعد عقدين في السلطة لا يستطيع أن يسحب إعتراف بلادة بإسرائيل. قارن ذلك بموقف الخميني، الزعيم المستقل، الذي إتخذ تلك الخطوة بعد أقل من ربع ساعه من إنتصار الثورة الإسلامية.

السر يكمن في كلمة واحدة هي ”الإستقلال“. إذا كان الحاكم مستقلاً فإنه يتكلم بحرية ويتصرف بحرية.

إيران هي الدولة الوحيدة الكاملة الإستقلال في المنطقة وهي لا تدور في فلك أحد ولا تتلقى تعليمات من أحد. قادة إيران يتكلمون بحرية وبلغة واضحة ويتصرفون بحرية لأنهم لا يحسبون حساباً لأحد على وجه الأرض إلا للشعب الإيراني. وحرية إيران تسبب صداعاً للقوى الإستعمارية في الغرب وتنغص عليهم معيشتهم، ولهذا يريدون التخلص منها. وكذلك تسبب إيران قلقاً بالغاً للحكام العرب الذين يتناقض حالهم المقيد والمكبل بإستقلالية الجمهورية الإسلامية وحريتها المطلقة في الحركة والمناورة و إتخاذ القرار.

يحضرني هنا الخطاب المشهور للزعيم المستقل جمال عبدالناصر الذي أعلن فيه تأميم قناة السويس. طبعاً لم أسمع الخطاب في وقته، فقد كنت طفلاً صغيراً، لكني سمعته كاملاً عندما بدأت أتصفح الإنترنت. كان خطاباً طويلاً لكنه مع ذلك كان شيقاً ومثالاً ساطعاً لإسلوب الزعيم المستقل في التعامل مع الأحداث وإتخاذ القرار. وقبل أن يعلن قرار التأميم، إستعرض عبدالناصر الأحداث التي تعامل معها منذ تسلمه لمقاليد الحكم. فتحدث عن حلف بغداد وأوضح أنه رفضه لأنه لم يكن تحالفاً بين أصدقاء بل تبعية. وتحدث عن كسر إحتكار السلاح و وكيف أن القوى الغربية عرضت عليه السلاح بالمجان مقابل أن تأتي بعثات عسكرية لتتحكم بكيفية إستعمال ذلك السلاح ( وهو ما لا يزال يحدث الآن في الدول العربية) فرفض وقال أنا مستعد أن أدفع ثمن السلاح كاملاً مقابل أن تكون لي الحرية في إستعماله. ثم تحدث عن شروط الغرب لتمويل السد العالي وكيف أنهم إشترطوا إرسال بعثة إقتصادية للتحكم في الإقتصاد المصري، وطبعاً رفض عبد الناصر كل تلك الشروط مؤكداً مقولته الشهيرة بأنه لا إستقلال سياسي من غير إستقلال إقتصادي.

فعلاً ما أشبه اليوم بالبارحة وفعلاً كان جمال عبد الناصر رحمه الله مثالاً للزعيم المستقل، وربما آخر زعماء العرب المستقلين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى