العمل المستقبلي والفكر النهضوي لدى ميشيل عفلق
بقلم: د. فؤاد الحاج /استراليا
في هذه الأيام تطل علينا ذكرى وفاة الأستاذ ميشيل عفلق مؤسس فكر البعث العربي الذي منه استمدت الأفكار المستنيرة لمشروع النهضة العربية الشاملة على الرغم من التعثرات التي لا زالت تعصف بالأمة العربية، إلا أنها تبقى فكرة حية قابلة للحياة طالما أن المؤمنين بهذا الفكر من الأجيال السابقة واللاحقة الذين يعملون بوحي رسالة الأمة الخالدة، وإن لم ينتسبوا أو يكونوا أعضاء في هذا الحزب، لأنهم تتلمذوا أو تعلموا من جيل أوائل البعثيين ورواد العروبة أن الأمة ستبقى مستهدفة في تاريخها وثقافتها إن لم تقف بالمرصاد لكل الغزاة الذين يريدون استباحة حضارة الأمة ليطمسوا تاريخ، وشواهد الحال على ذلك كثيرة في تاريخ العرب الحديث وأهمها في فلسطين والعراق..
وللكتابة عن مفهوم الفكر النهضوي لدى الأستاذ ميشيل عفلق في هذه الظروف التي تمر بها الأمة العربية من احتلال وغزو ثقافي ومحاولة تدمير للقيم الاجتماعية وتهديم العائلة وإفساد المجتمع بألوان شتى من المفاهيم اللاأخلاقية تحت مسميات “الديمقراطية” و”الحرية” بالمفهوم الصهيو-أمريكي من خلال الغزو الإعلامي عبر فضائيات ناطقة بالعربية، فذلك يعني أنه يجب على الكاتب أن يغوص في أعماق تاريخ الأستاذ منذ بداية نشأته مروراً بكل كتاباته وأقواله وأحاديثه التي سمعت بعضا منها خلال لقاءاتي القصيرة والقليلة جدا معه، من هنا يمكن التأكيد على أن أشق ما يمكن الكتابة حوله هو موضوع الفكر النهضوي لدى الأستاذ ميشيل عفلق، بسبب عدم انتشار كتب البعث أو ما كتبه الأستاذ ميشيل عفلق على الرغم من وجود بعضها هنا وهناك لدى بعض الأفراد في البلاد العربية أو بلاد المهاجر، وربما يعود سبب عدم وجود هذه الكتب في المكتبات المختلفة بسبب التطورات السياسية في بلاد العرب منذ منتصف ستينات القرن الماضي على الرغم من وجودها في العراق قبل الغزو الصهيو-أمريكي في نيسان/إبريل 2003، وتم إحراق القسم الأكبر منها من قبل أعداء الإنسانية الذين نهبوا ودمروا وأحرقوا المكتبات والمطابع إضافة إلى حرق ونهب كافة مطبوعات ومعدات الطباعة في (بيت الحكمة) التي من بينها الدراسات والبحوث والكتب التي كتبت عن الأستاذ ميشيل عفلق.. أما المراجع غير العربية فلا يمكن الرجوع إليها أو اعتمادها لأن معظم إن لم قل كل المؤرخين أو المؤلفين الذين كتبوا سيرة الأستاذ الذاتية أو تلك التي تناولت تاريخ حزب البعث إنما تناولوها من أقوال فيها الكثير من نزع الخيال المجنح الذي يعتمد الإساءة أكثر من الاعتماد على حسن النية، حيث تم التقاط بعض الجمل والكلمات من المنظرين وما أكثرهم في بلاد العرب، على الرغم من أن بعض الكتب التي صدرت عن (تاريخ حزب البعث) لجلال السيد أو كتاب (الأستاذ قصة حياة ميشيل عفلق) لزهير مارديني أو كتاب (البعث والوطن العربي) للدكتور قاسم سلام فقد تناولت هذه الكتب مراحل من تاريخ الحزب وأفكاره، وسيرة الأستاذ أو قصة حياة ميشيل عفلق من وجهة نظر الكاتبين، ولم أجد فيهما ما يعينني على الخوض في الفكر النهضوي لدى الأستاذ ميشيل عفلق، لذلك أكتفي هنا بما قدرت الحصول عليه من مراجع أهمها سلسلة لقاءات مسجلة أجريتها شخصياً على مدى أربع سنوات مع المفكر العربي الدكتور الياس فرح وبعض الكتب الفكرية التي أصدرها أيضاً الدكتور الياس فرح ولم أجد ما يعينني على الخوض في غمار هذا الموضوع هذا الموضوع إلا سلسة كتب (في سبيل البعث) التي أشرف عليها الأستاذ ميشيل عفلق وتم طبعها بإشرافه قبل رحيله والتي تدل على أن مشروع النهضة العربية لديه إنما هي التي كانت وراء إنشاء حزب البعث العربي كما هي وراء الاشتراكية العربية التي بدونها لا يمكن أن تنهض الأمة لتحقيق مشروعها الحضاري الكامل..
لذلك سوف تبقى ذكرى القائد المؤسس لحزب البعث العربي الاشتراكي، ملهمة لكل المفكرين الذين ينهلون من الفكر القومي الأصيل، المتصل اتصالا حيا بروح الأمة، والذي يقول عنه الدكتور إلياس فرح “لأنه تواصل الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.. المشبع بالإيمان الجهادي، وبالشعور بالمسؤولية، وبالثقة بقدرات الأمة على التغلب على تحديات نهضتها المعاصرة، وعلى أعداء مشروعها الحضاري الإنساني الجديد.. لأن الفكر القومي المبني على أسس علمية ثورية، قد امتلك بفضل الإسهام المبدع الخلاق للقائد المؤسس، رؤية تاريخية، عميقة، وبصيرة حية”.
من هنا يمكن الاستدلال على أن الفكر القومي لدى ميشيل عفلق، هو امتداد للدور التاريخي لعصر النهضة العربية عبر التاريخ، لأن الدور الذي اضطلع به مؤسس البعث “قد نقل حركة النهضة العربية من طور التبشير بالفكرة القومية إلى بلورة المشروع الحضاري الحديث للأمة”، وبناء الحركة التاريخية التي تنهض بمسؤولية تحقيقه، فلم يعد الفكر القومي مجرد تنظير لمرحلة سياسية، وإنما أصبح دليلا للمرحلة التاريخية، فهو إعادة بناء لوعي الهوية القومية، وللتصورات المرحلية الاستراتيجية للعمل السياسي وللنضال الاجتماعي، وكذلك استشراف للمستقبل، ورسم للخطوات الآنية الظرفية وعلى وفق متطلبات المواجهة للتحديات الخارجية وللتناقضات الداخلية في الواقع العربي، فثمة مفهوم جديد للأيديولوجية وللسياسة للعمل القومي، يؤكد مستوى العمل التاريخي الذي تتطلبه المرحلة القومية وسط عالم يضج بالمتغيرات.
لقد أصبح فكر الأستاذ ميشيل عفلق مصدر توثيق وتوكيد لقدرة الفكر القومي على تقديم أجوبة متكاملة على الأسئلة المصيرية التي يطرحها النضال العربي في المرحلة التاريخية الراهنة. كما أن فكر الأستاذ أصبح مرجعا ودليلا منهجيا للمتطلعين لتجديد الفكر القومي، لأنه نظر أولاً، إلى الفكر نظرة حية، فلم يفتش عن القوالب النظرية والنظريات الجامدة التي تدعي الكمال وأنها تمثل نهاية التطور التاريخي، وقمة الأيديولوجيات ونهاية التطور الحضاري.. فبالمنهج العملي الثوري الحضاري الجديد، الذي ينطلق من واقع الأمة ككل وكأجزاء، استطاع الأستاذ ميشيل عفلق أن يحقق الترابط بين حركة الفكر وحركة الواقع العربي، وأن يجعل من نظرة البعث نسقا من التصورات المنفتحة على التطور، تغتني بالتجربة النضالية.. وبالتالي استطاع أن يحدد شروط الفهم العميق والتجديد الأصيل لفكر الأمة. “فلا تجديد بلا تأصيل وبلا تواصل وتكامل دائمين، بين الفكر النظري والعمل الميداني”..
ويقول الدكتور الياس فرح في هذا الصدد: “إن (النظرة النقدية) القائمة على تلازم الحرية والمسؤولية هي سلاح الفكر ضد الجمود وضد السلبية في أن معا. (وأن الرؤية التاريخية الحضارية) هي المدخل للقراءة الجديدة الصحيحة للتراث، ولاكتشاف الصلة الحية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وللربط بين روح الأمة وروح العصر.. وهذه الشروط كلها تشكل القانون الداخلي لفكر القائد المؤسس”.
كيف توصل الأستاذ عفلق إلى إنضاج هذه الرؤية التاريخية التي كانت بمثابة الناظم لأفكاره ورؤاه؟ كما كانت مسددة لخطاه على طريق العمل التاريخي وبناء الصرح النضالي الذي حمل اسم البعث؟
“لقد طرح هذا السؤال على القائد المؤسس، فكان جوابه، إن هذا هو عمل الباحثين، فهو لم يتوقف في البدء ليتساءل عن نظرية المعرفة أو نظرية النضال التي ينبغي أن ينطلق منها كما فعلت حركات أخرى، أو مؤسسون آخرون. لأنه لم ينطلق من موقف نظري تجريدي فلسفي، أو سياسي برغماتي تجريبي، بل انطلق من موقف نظري وعملي مصيري.. أي من نظرة حية واقعية، مقترنة بنظرة مسؤولة، إلى مصير الأمة في هذا العصر، وهي تخوض معارك المصير الحضاري. فهو قد واجه مصيره كرجل يقف أمام قدره. وانطلق بعد اطلاع واسع وعميق على تاريخ الثورات والحضارات والديانات، وبعد معاناة طويلة وبتصميم تاريخي، ليبني مسيرته النضالية.. فهو منذ كان في نهاية مرحلة الدراسة الجامعية في الغرب، في عام 1932 حدد موقفه مصيريا من ذاته ومن قضية الأمة. وأصبح هذا الارتباط المصيري قانون حياته ونضاله. وقد لخص هذا الموقف في العبارة التي أملاها، وذكر لي أنها موجود في دفتر من دفاتره القديمة، وهي: (متى انتبه المرء إلى قدره، فلا بد له من موقف مصيري، يضعه حيث شاء له القدر الذي اختاره وأحبه). فمن خلال هذا الموقف المصيري، التقت واتحدت أقداره: قدره الفردي- الذاتي وقدره داخل أسرته، وقدره الوطني والقومي والإنساني، لأنها ارتبطت جميعها بمشروع تاريخي جعل منها مضامين متكاملة لرؤية حضارية جديدة)”.
ويقول الدكتور الياس فرح: لقد جمع القائد المؤسس بين ريادات أربع:
أ – (ريادة فكرية) عبرت عن نظرته الأصيلة، وعن رؤيته التاريخية، وعن اكتشافاته الجديدة لاستراتيجية الانبعاث القومي، ولمنظورها الحضاري المستقبلي.
ب- (ريادة نضالية)، وضعت كل شخصيته في النضال، وجعلته يعيش (حياة المبدأ) المعبرة عن الاتحاد بمعاناة الأمة، وعن التمثل الحي لروح الرسالة.
ج- (ريادة قيادية)، بمستوى تاريخي، جعلت منه رمزا لتحمل المسؤولية القومية، سواء في الدفاع عن الخط المبدئي للنضال، أم التخطيط المستشرف لآفاق المستقبل ومراحله، أم وحدة الفكر والممارسة، والتوحد بالحزب.
د- (ريادة خلقية)، جعلت منه نموذجا حيا للقدوة، وصورة صادقة لتجسيد القيم المثالية.
فالذين وجدوا في شخصية القائد المؤسس مثالا، رسمت لهم صورة حياتهم، هؤلاء قد رأوا فيه التجسيد الحي للمبدئية التامة، والاقتران الرائع بين المبدئية وبين تكامل الأبعاد الفكرية والنضالية والقيادية والخلقية، للشخصية- النموذج، التي تميزت بها ريادة القائد المؤسس. وضمن هذا الأفق، أصبح تكامل الذاتي والموضوعي طابعا مميزا لشخصية القائد المؤسس، ولدوره، ولمسار حياته النضالية، كما أصبح هذا التكامل سمة مميزة لحزب البعث- كما تصور القائد المؤسس: حركة تعمل لمئات السنين.
فالبعثيون على وفق هذا التصور هم رموز لهذا التكامل، وللوحدة بين ذواتهم ومبادئهم، وبينهم وبين أمتهم وأهدافها ومشروعها النضالي التاريخي.. فهم يعيشون (حياة النضال)، ويفكرون بعقل الأمة، ويتحدون بقدرها، ويحيون بعمق معاناة جماهيرها، ويتطلعون إلى مستقبل ترتاح إليه روح الأمة وروح العصر.
لقد اتحد قدر مؤسس البعث بقدر حزبه ولكنه لم يكن قدر (ضرورة) خالصة، بل كان قدر حب، بدأ بحب الأمة وبحب تراثها الروحي والحضاري- حب الإسلام وحب رسوله الكريم.. فكانت نتيجة هذا الاتحاد خلق فكر أصيل، وحركة جديدة، وإيمان خلاق، نمت كلها في جو الرسالة. لذلك اكتسبت حياة الأستاذ ميشيل عفلق هالة معنوية متميزة رافقت كل مراحل نضاله، وفرضت على مسيرة حياته طابع الزهد والتقشف والصبر، والحب، والتسامح والتواضع، وكل السمات التي ميزت تجربته الفكرية، والنضالية، التي حافظت على المعاني المستخلصة من استلهام جو الرسالة.
إن (الريادة الفكرية) لدى ميشيل عفلق لم تكن مجرد إضافات فكرية جديدة- كما هو شأن الريادات الفكرية التي تتوقف عند حدود بناء النظريات التي تولد وتعيش مرحلتها، فتتألق ثم تنطفىء- لأنه لم يكن مجرد مفكر ومنظر، ولم يكن هاجسه بالأساس إضافة نظرية إلى النظريات، بل كان همه بناء حركة تستجيب لحاجات نضال الأمة في مرحلة انبعاثها، وأن يكون فكرها اكتشافا جديد ا لحقيقتها.
فالفكر يستمد قوته التاريخية من النضال بمستوى تاريخي، أي من صلته الأصيلة برسالة الأمة وهي تنبعث من جديد. أما الشروط الأخرى للريادة (من عبقرية فردية ومن منهج علمي، ومنظور حضاري، واتصال حي بواقع الأمة، وروح ثورية، وغيرها..) فإنها شروط مكملة، ولا تأخذ موقعها من الريادة الفكرية، إلا إذا ارتبطت عضويا بتاريخ الأمة ودورها الرسالي. فهي أولاً (أمة ذات رسالة) ومن التمثل لهذه الحقيقة تمثلاً روحياً وليس فكرياً فحسب، تأتي الشروط المكملة. للبناء الأساس- الذي تولد من خلاله الأمة ولادة حضارية.
فالفكر فكر رسالي، والإيمان إيمان رسالي، والنضال يتطلع إلى تجسيد معاني الانبعاث الروحي للأمة.
والقومية هي (قومية إنسانية) و(قومية حب) ترتفع بأبنائها إلى جو الرسالة، والحرية هي (انتصار على الضرورة): خلق الإنسان الجديد والواقع الجديد وإبداع الحياة الجديدة التي تجسد معاني الرسالة.
والاشتراكية هي قانون الحياة التي تحقق ثروتها في جو روحي، يرقى فيه الإنسان والمجتمع إلى المستوى الذي تتطلبه الرسالة.. وعلى وفق هذه المعايير، كان لا بد للريادة الفكرية لمؤسس البعث أن تنطلق من نظرة نقدية، ومن موقف نقدي للأفكار والأوضاع الجائرة والأدوار السياسية، التي كانت تهبط بالسياسة إلى مستوى يعكس واقع الانحطاط الذي خلقته الظروف السلبية التي مرت بها الأمة خلال قرون طويلة.. فكانت نظرة ميشيل عفلق النقدية، صارمة وعميقة وخلاقة لأنها كانت كاشفة لتناقضات الواقع الراهن وتشويهاته الجارحة، ومنقذ ة للحركة النضالية من الدوافع السلبية والأفكار المسخرة لخدمة واقع الانحطاط، ومجددة للصلة بين السياسة اليومية وبين المهمة التاريخية، ومدركة لمتطلبات العمل التاريخي، وللجو الخلقي، والمناخ الصحي، النقي من أمراض المرحلة ومن أمراض العصر، التي ينبغي أن تبنى عليها حركة النضال القومي.
في ضوء ذلك حددت نظرة الأستاذ ميشيل عفلق، المستوى الذي يتطلبه مشروع بعث الأمة. إذ لا تكفي المعايير العلمية الخالصة، ولا المقاييس البرغماتية، التي تقيس العمل السياسي بمدى نجاحه المؤقت السطحي السريع، بعيد أ عن القيم. لأن السياسة لكي تكون معبرة تعبيراً صادقاً عن روح الأمة، ينبغي أن تستلهم فضائل الرسالة التي تجمع بين الأخلاق والروح الثورية، والإيمان بالحرية وبالمثل التي تربط السماء بالأرض، وتجدد مثل الرسالة في حياة الأمة.
(فالريادة الفكرية) في البعث، هي ريادة روحية، جهادية حضارية، تضع العلم والتجربة والنضال في جو العمل التاريخي، لبناء المشروع الحضاري الجديد، المجسد لروح الرسالة. لذلك كانت الانطلاقة من (النظرة النقدية) المشبعة بهذه الروح، هاجس الأستاذ ميشيل عفلق أي التعبير الصادق عن أصالة الأمة، وعن روح نهضتها ودورها التاريخي الجديد.
ولم تكن (النظرة النقدية) لدى القائد المؤسس مستندة إلى أفكار جاهزة مسبقة، أو حسابات مصالح أو ظروف وضغوط يمكن أن تحد من الرؤية العلمية التاريخية الصافية، بل أنها انطلقت من الحرية ومن الحرص على الحقيقة، ومن التحرق للكشف عن الحقائق الجوهرية العميقة فكانت اكتشافات القائد المؤسس، إضاءة شاملة لحياة الأمة ومعاناتها وهي تواجه تحديات بقائها الحضاري، في معركة حضارية تطرح فيها الأمة، ويطرح أعداء نهضتها ووحدتها، كل الأسلحة الفكرية والمادية والروحية التي سوف تقرر مصير الإنسان الحضاري. فأمام التحديات المصيرية، التي تقرر مصير الأمم، يبقى السلاح الحضاري أفضل الأسلحة وأقواها.. وكان هم الأستاذ ميشيل عفلق أن يكتشف هذا السلاح في تاريخ الأمة.. فكان الاكتشاف للتراث وللأبعاد الثورية والحضارية، التي تشكل بتلازمها السلاح الحضاري الذي تمتلكه الأمة.
ومن هذه الينابيع انبثقت المعاني الجديدة، التي أوصلت إلى نظرية الوحدة والحرية والاشتراكية، وإلى اكتشاف المفاهيم الإنسانية الحضارية للقومية، وللصلة بين العروبة والإسلام، وللمعاني الجهادية والحضارية للإيمان الرسالي، وللمعنى الروحي للاشتراكية، والمعنى الثوري للحرية والديمقراطية.. وفي ضوئها تحددت معالم الطريق إلى بعث الأمة، وصاغ القائد المؤسس، مشروعه الوليد- (الحزب) تمهيداً لتحقيق مشروع الأمة الكبير (البعث).
الريادة النضالية القيادية والخلقية
إن الريادة الفكرية، كما لاحظنا لم تكن عملاً نظرياً لأن الفكر المطلوب لهذه المرحلة من حياة الأمة، هو الذي يحيل إلى العمل، أنه الفكر المناضل، الذي يعمل بمستوى تاريخي، ويسد الفراغ الأيديولوجي، الذي لم تتمكن النظريات المغتربة في الزمان وفي المكان أن تملأه إنه الفكر العلمي الثوري المقترن بمنظور حضاري.
فالمشروع القومي لدى القائد المؤسس، قام بالأساس على وحدة الفكر والنضال، ووحدة الفكر والممارسة، لذلك فقد تفرغ الأستاذ عفلق منذ عام 1942 كليا للعمل القومي، ووضع حياته بكاملها، وشخصيته في العمل النضالي.
فالفكرة التاريخية تحتاج إلى الحركة التاريخية، والحركة التاريخية تتطلب العمل بمستوى تاريخي، ومن هنا كان مصدر الإلهام للقيادة الريادية، هو استلهام تجربة الرسول العربي (صلعم) ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل، إنه عمل رسالي، ودور رسالي، وقيادة من طراز جديد، تفهم السياسة على أنها رسالة، وتنظر إلى الأجيال الجديدة، كونها أجيال المهمة التاريخية، وإلى الإنسان العربي الجديد كحامل رسالة.
ومن هنا كانت أهمية العامل التربوي، وأهمية التنظيم، والطابع القومي للتنظيم، لأنه المعبر عن وحدة الأمة الفكرية والروحية.. فالقيادة في إطار هذا السياق التاريخي، مفهوم جديد، ومستوى جديد يختلف عن مفهوم (الزعامة) ويتميز عن مفهوم (القيادة السياسية) التقليدي، لأن مهمتها ذات طبيعة ثورية خلاقة غير عادية. فهي مطالبة بأن تكون في مستوى مهمتها التاريخية. وقد كان لمؤسس البعث دور ريادي في تحديد هذه المهمة، وفي تحفل مسؤولية الالتزام بتحقيق متطلباتها. (فالريادة القيادية)، تبدأ من التصميم التاريخي على افتتاح صفحة جديدة من تاريخ النهضة الجديدة للأمة، أطلق عليها وصف (عهد البطولة)، فقد امتلك الشجاعة التاريخية، للإقدام على مهمة يشعر المناضل أمامها، بأنه مكلف بتصحيح المسار القومي، وبمعالجة الظواهر السلبية لسبعة قرون من الانحطاط، ومن التحديات المصيرية المتصاعدة. فقد كان أول من دعا أبناء أمته إلى تلبية نداء هذا النوع الجديد من البطولة- البطولة الحضارية- كما كان أول من لبى هذا النداء، ثم أن (القيادة الريادية) لدى الأستاذ ميشيل عفلق، تدعو إلى الانتقال من مرحلة الخطابة الانفعالية إلى مرحلة الكتابة العقلانية، المعبرة عن (برودة العقل ولهيب الإيمان). كما أن هذه الريادة القيادية، تدعو وتطبق في أن معاً القانون الأخلاقي لهذه المرحلة من النضال، المتمثل بأن يعيش القائد (حياة المبدأ)، وأن يحتفظ بالتفاؤل في أحلك الظروف وأشد النكسات وأمام أخطر التحديات، وأن يؤمن بأن الله والتاريخ والشعب مع الحركة التاريخية. كما أن الأستاذ ميشيل عفلق، بقي متمرداً على كل ما تفرضه الحياة العادية من قيود على الإنسان. فقد حقق إنسانيته من خلال تحرره من القيود التي تحد من مثاليته، أو تجعله عاجزاً عن حمل أعباء الدور الرسالي.
فالأستاذ عفلق كان شأن مشروعه الانبعاثي، أن يمثل وحدة الذاتي والموضوعي، والوسيلة والغاية، ووحدة الوطني والقومي والإنساني، ووحدة الروحي والاجتماعي والحضاري.. وظل يدافع عن مشروعه ضد محاولات تشويه الثورة العربية. فقد أعطته القضية التي أخلص لها العمر، قوة مستمدة من رسالتها. كما أعطته مسيرة أكثر من نصف قرن من الريادة الفكرية والقيادية النضالية، ومن العمل بمستوى تاريخي، قدرة على التعامل مع الأحداث من موقع التفاؤلية التاريخية، التي عبرت عن نفسها في مشروعه للعمل المستقبلي.
وأن تجربة العراق هي في اعتقاده، إطلالة على مستقبل ينبغي أن تتوافر شروط استكمال مهمته في الكشف والتصحيح لصورة المستقبل الحضاري للإنسانية.
العمل المستقبلي لدى الأستاذ ميشيل عفلق
إن أهمية المبادرة الفكرية والعملية التأسيسية للعمل المستقبلي، تأتي من كونها تصدر عن رؤية تاريخية مستقبلية، تتطلع إلى ملء فراغ في حياة الأمة، وإلى رفع العمل السياسي إلى مستوى العمل التاريخي. بعد أن هبط الواقع السياسي إلى مستوى يناقض حقيقة الأمة. ويمكن تلخيص فكرة المشروع التأسيسي الجديد في النقاط التالية:
1 – إن العمل المطلوب في تصور القائد المؤسس ليس محصلة لما هو موجود، بل هو خلق عمل جديد، منقذ، يصلح لافتتاح مرحلة تاريخية جديد ة وتلبية حاجاتها النضالية المصيرية.
2 – إذاً (فالعمل المستقبلي) نداء و(دعوة) (وليست مشروعاً جاهزاً) دعوة إلى العودة إلى الرؤية التاريخية التي انطلق منها البعث. فهي تجديد للمنظور البعثي في نقده للحاضر وتطلعه نحو المستقبل. (انطلقت الفكرة من حكم نقدي على الواقع العربي (في منتصف الثمانينات) بأنه قد وصل إلى نفق مسدود، وللخروج من هذا النفق، لا بد من تشخيص عميق وحاسم للواقع ا لعربي- أنظمة- ومنظمات وأحزاباً).
3 – النظرة النقدية لدى الأستاذ ميشيل عفلق أوصلته إلى الحكم على الواقع العربي بأنه استنفد ممكناته وأن الحركات والأحزاب قد أصبحت مبتلاة بأمراض تمنعها من معالجة المرض فلا بد من شيء جديد، خارج إطار المعطيات الراهنة، التي تكاد تعلن الإفلاس، وتكشف عن فراغ. (سد الفراغ لا يكون إلا بعمل مستقبلي أي بتصور تاريخي وعمل تاريخي وليس بمحصلة جمع لقوى الواقع).
4 – الدعوة هي:
أ – إلى نقد صارم للواقع العربي.
ب – إلى عمل تاريخي تنهض به قوى وشخصيات نضالية جامعة للوعي وللنضال.
جـ – وإلى صيغة جديدة تتجاوز الواقع وتتجاوز الأحزاب دون أن تتخلى عنها، فمن داخل الأحزاب ومن داخل المعاناة النضالية العامة للأفراد والجماعات،. لا بد أن تظهر الاستجابة إلى الحوار للعمل بمستو ى جديد.
5 – وقد أبعد القائد المؤسس العمل المستقبلي عن كل صيغة مصطنعة يمكن أن تحكم عليه بالفشل، وأراد أن يكون ولادة طبيعية تاريخية تماماً كما نشأ الحزب. أي من الحوار بين المهتمين بالمصير القومي، الديمقراطي الحضاري. (فهو لم يحاول أن يحل مشكلة ظرفية، بل حاول أن ينتشل العمل القومي من السقوط ومن المأزق الكبير).
6 – أما الجبهة والعمل الجبهوي، فلم تكن بعيدة عن تصور الأستاذ ميشيل عفلق وعن اهتمامه، وقد سبق له على امتداد عام كامل بين 30/4/1966 و30/4/ 1967 أن طرح ستراتيجية العمل الجبهوي وعمل لها. إلا أن المشكلة أصبحت أعمق بعد عشرين عاماً، فالمأزق العربي قد أشر منعطفاً في واقع الأمة يتطلب عملاً بمستوى تاريخي. فالجبهة كمحصلة لقوى الواقع، لم تعد كافية دون أن يعني ذلك إهمالها. فالجبهة مفيدة إلا أنها في أوضاع كالتي نعيشها لم تعد كافية.
7 – ماذا قال القائد المؤسس حول العمل المستقبلي في آذار 1989 خلال إعداد كلمة نيسان؟
ذكر ما يلي.. (العمل المستقبلي مستمد من هذه الفكرة):
(إذا بقي الوضع العربي علي ما هو عليه، تضيع الحالات المشرقة.. فالعمل المستقبلي جواب على عجز الواقع القطري عن البناء في الداخل، وعن دفع الخطر الخارجي.. لأن بوجود المخططات الأجنبية المعادية، يتحول العجز إلى انقسام وتناحر وتآمر بين الأقطار بعضها علي بعض..
فلا غنى عن العمل الوحدوي، ولا غنى عن أن يكون عملاً شعبياً بكل معنى الكلمة، متحرراً من أي تأثير للأنظمة.. فالدعوة هي إلى العمل الوحدوي كطريق للإنقاذ وحماية للظواهر الإيجابية فظهور العمل الوحدوي الستراتيجي ينعكس على المستويات الدنيا من التضامن والتنسيق والتعاون، لأنه يعطي التصور الوحدوي ديناميكية، ويكون عامل حفز للجماهير وضغط على الأوضاع الرسمية، فيشع التصور الكلي إلى مستقبل بعيد. ويلتقي بمصلحة العدد الأكبر.. فالاقتصاد القطري يحتاج إلى التكامل مع اقتصاد الأقطار الأخرى، بدلاً من الارتهان إلى الاقتصاد
الإمبريالي. والديمقراطية يسهل تزييفها إذا لم توجد رقابة عربية تساند النضال الديمقراطي وتفضح التزييف).
(العمل المستقبلي إذاً شيء تاريخي، واستعداد موضوعي لمرحلة نضالية تاريخية وتعبير عن حاجة تنبع من ضمير الأمة وتعبر عن قناعات عميقة لدى الشعب العربي.. والمهم في رأي القائد المؤسس، صياغة هذه القناعة بدون مساومة وبدون تفريط)..
ومن يطالع ما قاله الأستاذ ميشيل عفلق في خطاب ألقاه من على مدرج جامعة دمشق السورية في الخامس من نيسان/إبريل عام 1943، وبمناسبة ذكرى مولد الرسول العربي الكريم (صلعم) حيث “في مثل هذه الاحتفالات يخطر لي دوماً: ما هي قيمة الكلام؟ لم نعرف في تاريخنا زمناً كثر فيه الكلام وطغى على كل شيء مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومع ذلك فهو أقل العهود حيوية وإنتاجاً، فهل يكون الكلام إذاً مساعداًً على الشلل والعقم، بدلاً من أن يكون دافعاً إلى العمل وخصب النفس؟ هناك فرق جوهري بين الكلام المرتبط بقائله الذي يعبر عن حاصل شخصية حية وعن موقفها الكلي من الحياة، وبين الكلام المنفصل عن الشخصية الذي لا يعني غير ذهن يلهو ولسان يهذر. كان العرب شديدي التأثر باللفظ، لأن الألفاظ كانت عندهم حقائق نابضة مترعة بالحياة، فكان يسمعها القلب لا الأذن، وتجيب عليها الشخصية كلها لا اللسان وحده، لذلك كانت للفظة قدسية وكانت بمثابة عهد، تربط الحياة وتتصرف بها، سواء حياة الفرد أم حياة الجماعة. (…)
إن حياة الرسول (صلعم) وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها المطلقة لا يمكن أن تعرن بالذهن، بل بالتجربة الحية، لذلك لا يمكن أن تكون هذه المعرفة بدءاً بل هي نتيجة، فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، أي منذ مئات السنين يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها لأن فهمها يقتضي درجة من غليان النفس قصوى، وحدّاً من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفاً وجودياً يضع الإنسان أمام قدره وجهاً لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك. (…)
فهل يدري أولئك الغيورون الذين يريدون أن يجعلوا من الإسلام جراباً يسع كل شيء، ومعملاً ينتج شتى المركبات والأدوية، أنهم بدلاً من أن يبرهنوا على قوته ويحفظوا فكرته من كل تغير طارىء، يقضون بذلك على روحه وشخصيته ويفقدونه مميزاته الحية واستقلاله وتعيينه، وأنهم من جهة أخرى يفسحون المجال لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر، كي يستمدوا من الإسلام أسلحة يطعنون بها مادة الإسلام نفسه، أي الأمة العربية؟.. (…)
إن أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الإسلام.. ولكنها تعلم أن قوة الإسلام (التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب) قد بعثت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية، لذلك فهي توجه على هذه القوة الجديدة كل أسلحتها، بينما نراها تصادق الشكل العتيق للإسلام وتعاضده. فالإسلام الأممي الذي يقتصر على العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة آخذ في التفرنج، ولسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الإسلام ويضطرون لأن يبعثوا فيه معنى خاصاً إذا أرادوا أن يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء. (…)
حتى الآن كان ينظر إلى حياة الرسول من الخارج، كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل، لنحياها.. كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع أن يحيا حياة الرسول العربي، ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل والقطرة إلى البحر.. طبيعي أن يعجز أي رجل مهما بلغت عظمته أن يعمل ما عمل محمد (صلعم)، ولكن من الطبيعي أيضاً أن يستطيع أي رجل مهما ضاقت قدرته أن يكون مصغراً ضئيلاً لمحمد (صلعم)، ما دام ينتسب إلى هذه الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمداً (صلعم)، أو بالأحرى ما دام هذا الرجل فرداً من أفراد الأمة التي حشد محمد (صلعم) كل قواه فأنجبها.. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة أمته كلها، واليوم يجب أن تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم، كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمداً. (…)
وأخيراً هل بغير العودة إلى الجذور والأصل يمكن أن يتم استكمال بناء النهضة العربية التي أطلقها الأستاذ ميشيل عفلق في بدايات أربعينيات القرن المنصرم من أجل بناء المستقبل وتحقيق الوحدة العربية؟.. كلام يبدو في هذه الأيام عجيب ولكنه ليس بغريب على الأصلاء والشرفاء من أبناء الأمة العربية الذين على بعث هذه الأفكار يعملون فهم عماد الأجيال الذين كالشمعة يحترقون لإنارة درب المستقبل الموعود.