الانتخابات القادمة وسقوط الربيع التونسي إلى الجحيم

تعيش تونس أجواء متوترة وعلى صفيح ساخن مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة،التي ستجرى في خريف 2019، جرّاء أزمة الانتقال إلى الديمقراطية، إِذْ تُسْهِمُ الأحزاب الحاكمة  التي أصبحت لا تُجِيدُ من الديمقراطية سوى الفوز بالانتخابات، نظرًا لاعتماد الحزبين الكبيرين، “نداء تونس” و”حركة النهضة” ، على ماكينة قادرة على الحشد وجمع الأصوات والاستئثار بالنصيب الأكبر من نتائج صناديق الاقتراع، كما جرى في انتخابات سنتي 2011، و2014.

فمشروع حركة النهضة (الإخوان المسلمين)، الذي أسهم إِسْهَامًا كبيرًا في تعميق أزمة نظام الحكم الليبرالي في تونس،القائم على فلسفة “الديمقراطية التوافقية” التي تعاني بدورها من الفساد البنيوي والظلم المتزايد، والفشل في تحقيق انتظارات الشعب التونسي من الثورة، لا يزال يعتبر نفسه أنه المشروع البديل لكل المشاريع التي تطرح في البلاد،وأنّه المشروع الأقوى إقليميا (الدعم القطري و التركي)، ودوليا (الدعم الأمريكي) ،بعد أن أثبتت أحداث “الربيع العربي”، أنّ جماعة الإخوان المسلمين في كل من تونس ومصر،والمغرب، وليبيا،وسورية،جزء أساسي من أدوات المشروع الإمبريالي الأمريكي للهيمنة على العالم العربي والإسلامي  .

ويُعَدُّ الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين،النجم الساطع في فضاء السياسة التونسية والمغاربية،لا سيما حين أفرزه تنظيم الإخوان المسلمين كقناة اتصال مع الدول الغربية، ولا سيما مع الولايات المتحدة الأمريكية.وخاض الغنوشي مرحلة طويلة من الحوارات والنقاشات مع مراكز الدراسات والأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة وأوروبا، وكان قادرًاأنْ يُبدِّدَ لهم مخاوف تستهدفهم و تستهدف مصالحهم من الإخوان المسلمين،بل على العكس من ذلك، أثبت  لهم أنّ مشروعهم “أي الإخوان والمشروع الغربي” يلتقيان في مواجهة التيار القومي العربي،الذي ينظرله الغرب وأمريكا على أنه الخطر الأكبر لهم في المنطقة،وأنّ الإخوان المسلمين سيكونون حريصين على مصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في المنطقة، ولايوجدفي تفكيرهم أي بذرة أوأسباب للمواجهة مع الأمريكان أو الكيان الصهيوني .

ومنذ أن وصلت حركة النهضة إلى السلطة في تونس سنة 2011، أصبح واقع الحال يشير إلى أنّ الديمقراطيّة ونظامها السياسي، من حيث قواعدها الكلاسيكيّة، القائمة على مبدأ حُكم الأكثريّة، وعلى احترام الإرادة العامّة واختيار الشعب لحاكميه تعبيراً عن السيادة الشعبيّة، واللّذين تكفلهما من حيث المبدأ عمليّة الفصل بين السلطات، لا يمكن أن تجدطريقها إلى التطبيق في تونس ( البلد الذي يلقب دوليًا بأنه النموذج الناجح في عملية “الانتقال الديمقراطي).

لأن الحكومات المتعاقبة في تونس منذ حكومة الترويكا بقياة النهضة الإسلامية ولغاية الإئتلاف الحكومي الذي يرأسه رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد،باتت تشكل مصدرًا من مصادر عدم الاستقرار السياسي والتضامن بين مختلف طبقات المجتمع وفئاته، حين تحولت إلى عنوان لحكومات الأثرياء المتشكلة من “طبقة الأرستقراطيين الأثرياء من النظام السابق، والأثرياء من الإسلاميين الجدد، وأثرياء التهريب أوالاقتصاد الموازي”، وأداتها دولة الظل العميقة-الجديدة، ممثلة بشيخيها الرئيس الباجي قائد السبسي، وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، اللّذين يُكَّرِسَّانِ نظام الحكم الليبرالي المعولم في تونس منذ اجتماع باريس في أغسطس/ آب 2013.

التجربة الديمقراطية في تونس التي تعيش منذ ثماني سنوات تحت مجهر المراقبين وطنيا ودوليا ، باتت في موقع الشكّ والرّيبة، لأنّ الأحزاب الحاكمة التي أعلنت أنّها اختارت الإستثمار في الديمقراطية وهو الأمر الذي وافق في ما يبدو إتجاهات الرأي دوليا ومكّن تونس من ورقة تفرّدت بها دون باقي دول “الربيع العربي”، ارتكبت التجاوزات ،ورسّخت “دكتاتوريّة الفوضى” و”النّزاعات”، بدلاً من انتقالها إلى أُفق التداول الديمقراطي، وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، وتأصيل مشروع وطني ديمقراطي حضاري يقوم على المرتكزات التالية: الإيمان بالديمقراطيّة في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستقلّة في مواجهة النموّ المشوّه والتبعيّة للدول الغربية و المؤسسات الدوليةالمانحة، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة في مواجهة الاستغلال، والحفاظ على الاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهَيمنة الأجنبيّة والمشروع الصهيوني، والإيمان بالوحدة العربيّة في مواجهة التجزئة ،والأصالة والتجدّد الحضاري في مُواجهة التغريب.

نخلص من كلّ ما تقدَّم إلى القول إنّ عجز”الانتقال الديمقراطي” في تونس، نابع أساسًا من عدم امتلاك الأحزاب الحاكمة لثقافة ديمقراطية،ولا يُمكن للثقافة الديمقراطيّة أن تولد ما لم تكُن الدولة التونسية مُصمَّمة كبناء مؤسّسي، أي دولة مؤسسات ،تكون وظيفتها  في التوفيق ما بين حرّية الأفراد والجماعات وبين بناء اقتصادوطني مستقل ،ومحاربة الفساد، والعمل على تحقيق السيادة الوطنية لتونس ،جنباً إلى جنب مع بناء هذه الديمقراطية الفتية.

كانت طموحات الشعب التونسي تتمثل في بناء نظام سياسي ديمقراطي، يقوم على الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بوصفه مِعْيَارًا كَوْنِيًا في تصنيف النظم الديمقراطية من غيرها، وهو ما يتطلب من الأحزاب التونسية التي تنطحت لعملية البناء أن تكون حاملة لمشروع فكري وثقافي وطني وديمقراطي، وهوما افتقدته كُلِّيًا الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، أو الأحزاب العلمانية التي تبنت المرجعية البورقيبية، ولهذا السبب عجزت جميعها عن بناء نظام ديمقراطي جديد، وإعادة بناء الدولة الوطنية.

وفي ضوء التطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة السياسية التونسية قبيل أشهر قليلة من الانتخابات التشريعية والرئاسية التي ستجرى في خريف 2019،وفي ضوء أيضًا تزايد عدم الرضى الشعبي عن النظام السياسي التونسي الهجين،وتفاقم الاختلال على المستوى السياسي،وتزايدالتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الطبقة الأرستقراطية التونسية المهيمنة وباقي الطبقات والفئات الشعبية ، وسيطرة التمزق الاجتماعي، وتزايد النزعة الفردية والأنانية،غياب الشعور بالألفة والتضامن الاجتماعيين، صادق البرلمان التونسي مؤخرًا ، الذي يهيمن عليه الإئتلاف الحاكم المتكون من حزبي “تحيا تونس، و النهضة الإسلامي “على إجراء تعديل القانون الانتخابي.

تعديل القانون الانتخابي أم إنقلاب على الديمقراطية

صادق مجلس نواب الشعب (البرلمان التونسي ) في جلسته المنعقدة يوم الثلاثاء 18حزيران/يونيو2019، على عدد من التعديلات  للقانون الانتخابي. وشمل التعديل فصولا تتعلق بشروط التقدم للانتخابات الرئاسية عبر رفض ترشح وإلغاء نتائج كل من ثبت قيامه أو استفادته من الإشهار السياسي عبر جمعية خيرية أو قناة تلفزية على غرار ما يضبطه القانون المنظم للأحزاب السياسية.

وأقر التعديل نسبة عتبة لا تتجاوز 3% في الانتخابات التشريعية، واشترط على أي مترشح للانتخابات تقديم “بطاقة عدد 3 “والتي تثبت خلو سجله من أي سوابق أو ملاحقات قضائية.ويرفض القانون الانتخابي الجديد ترشحات كل من يثبت قيامه بخطاب لا يحترم النظام الديمقراطي وقيم الدستور، وكل من يدعو للعنف والتمييز بين المواطنين، أو من يمجد انتهاكات حقوق الإنسان.

فقد شهدت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب يوم الثلاثاء الماضي حضورًا مكثفًا لنواب الكتل البرلمانية، وهي أساسا كتلة الائتلاف الوطني(حزب تحيا تونس، الذي يترأسه رئيس الحكومة الحالي السيد يوسف الشاهد)، وكتلة حركة النهضة ،وبدرجة اقلّ كتلة الحرة لحركة مشروع تونس، التي تساند تعديل قانون الانتخابات والاستفتاء لتفادي ما حصل خلال الجلسة العامة المنعقدة يوم الجمعة الماضية من عدم حصول التعديلات التي تم عرضها على التصويت يومها على عدد الاصوات المطلوبة، أي 109،من أصل 217 .وقد تحصّل مشروع قانون تعديل قانون الانتخابات على 128 صوتا في مقابل رفضه من 30 نائبا واحتفاظ 14 نائبا بأصواتهم.

فقد حصل مقترح التعديل المتعلّق بتعديل الفقرة الثالثة من الفصل 110 من قانون الانتخابات على 133 صوت في مقابل رفضه من طرف 30 نائبا جلّهم من نواب حركة نداء تونس بشقّيها(المنستير و الحمامات) واحتفاظ 6 نواب بأصواتهم.وينصّ ذلك التعديل على إلغاء الفقرة الثالثة من الفصل 110 وتعويضها بفقرة تنصّ على “أنّه لا تُحتسب الأوراق البيضاء والأصوات الراجعة للقائمات التي تحصّلت على أقلّ من 3 بالمائة من الأصوات المصرّح بها على مستوى الدائرة في احتساب الحاصل الانتخابي”.

نفس عدد الأصوات تقريبا التي حظي بها ذلك المقترح حصل عليها كذلك مقترح إضافة فقرة جديدة إلى الفصل 110 من قانون الانتخابات تنصّ على أنّه “لا تدخل في توزيع المقاعد القائمات المترشّحة التي تحصّلت على أقلّ من 3 بالمائة من الاصوات المصرّح بها على مستوى الدائرة”، حيث صوّت 134 نائبا مع الفصل معدّلا ورفضه 32 نائبا واحتفظ 9 نواب باصواتهم.

التوافقات لتمرير تعديلات القانون الانتخابي شملت كذلك تمرير مقترح كتلة الحرة لحركة مشروع تونس الذي ينصّ على الغاء الفقرة الأخيرة من الفصل 121 من قانون الانتخابات والاستفتاء التي تمنع تمكين كل من تحمل مسؤولية في هياكل “التجمع الدستوري الديمقراطي” الذي كان يحكم في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي ، من عضويّة أو ترؤّس مكاتب الاقتراع، وقد وافق على مقترح التعديل 132 نائبا ورفضه 30 نائبا في مقابل احتفاظ 8 نواب بأصواتهم. ووبذلك سمح القانون الانتخابي لأول مرة بعد الثورة لرموز نظام بن علي بالإشراف على مراقبة الانتخابات، بعدما تم إقصاؤهم من ذلك خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2014.

وسارعت شخصيات وجمعيات مدنية رأت أنها مستهدفة مباشرة بهذا التنقيح الانتخابي، إلى التعبير عن موقفها الرافض له، حيث هاجم المرشح الرئاسي وصاحب قناة “نسمة ” الخاصة نبيل القروي عبر تدوينة له الائتلاف الحاكم.

وقال القروي إن “ما حدث في مجلس النواب لم يكن تعديل قوانين ولا تصويتا على تنقيح.. هو عملية انتحار جماعي للمنظومة الحاكمة وإعلان لإفلاسها وإفلاس كتلتها النيابية من نواب العار”.وأكد أن القانون الانتخابي استهدفه شخصيا، مشددا في المقابل على مواصلته العمل على مشروعه السياسي و”انتصاره الحتمي”.

ووصف سليم بن حسن رئيس جمعية “عيش تونسي” التي استُهدفت -حسب مراقبين- بهذه التنقيحات في حديثه للجزيرة نت، ما حدث في قبة البرلمان بأنه “محاولة انقلاب على الديمقراطية ودولة القانون وعلى إرادة التونسيين”.ولفت بن حسن إلى أن الأحزاب الحاكمة “النهضة” و”تحيا تونس” استشعرت الخطر المحدق بها بعد نزول شعبيتها الكبير في نوايا التصويت مقابل صعود شخصيات وأطياف أخرى في استطلاعات الرأي، مما دفعها إلى قطع الطريق على منافسيها.

وأكد أن جمعية “عيش تونسي” ستخوض معركتها أمام الرأي العام قبل معركتها القانونية للدفاع عن حقها في المشاركة في الحياة العامة والدفاع عن خيارات التونسيين.
بدورها، توجهت الأمينة العامة للحزب الدستوري الحر عبير موسى بكلمة مباشرة لأنصارها من مقر البرلمان الأوروبي في بروكسل.وقالت إنها غير مشمولة بالتنقيحات الخاصة بالقانون الانتخابي بعد حذف عبارة “كل من مجد الدكتاتورية” من أحد فصوله، مؤكدة عزمها على التقدم لخوض الانتخابات الرئاسية.

 

استطلاعات الرأي تثير رعب أحزب الإئتلاف الحاكم

تأتي هذه التعديلات على القانون الانتخابي،في ضوء الهلع و الخوف الكبيرين اللذين أصابارؤساء الأحزاب الكبيرة والصغيرة، الثورية والمعتدلة، نتيجة استطلاع للرأي في تونس (12 يونيو/ حزيران الجاري) عن نيات التصويت في الانتخابات التشريعية (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) والرئاسية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، والتي عبرت عن نيات الناخبين التونسيين، ومزاجهم العام تجاه أحزاب منظومة الحكم والمعارضة بمختلف هوياتها والشخصيات المستقلة التي يفترض أن تؤهلها مكانتها لدخول السباق الانتخابي. وقد بينت هذه النتائج الصعود الصاروخي لنبيل القروي وقيس سعيّد وعبير موسي وألفة التراس وغيرهم،ما أرعب الأحزاب الحاكمة .

لقد تصدّر حزب افتراضي المشهد، بحصوله على نيات تصويت 29.8%، متفوقاً على حركة النهضة بفارق كبير، التي حصلت على نيات تصويت بـ 16.8% ،ليحلّ الحزب الدستوري الحر، وزعيمته عبير موسي في المرتبة الثالثة بنسبة 11.3%. وكانت المرتبة الرابعة لحزب “تحيا تونس” الذي يترأسه رئيس الحكومةيوسف الشاهد بنسبة 8.6%، ليليه حزب التيار الديمقراطي بنسبة 5.8%. ودخلت السباق الانتخابي أول مرة حركة “عيش تونسي”، لتحتل المرتبة السادسة بنسبة 5.4%.

وقد كرّس سبر (استطلاع) الآراء في علاقة بالانتخابات الرئاسية توجهات الناخبين نفسها، بمنح صاحب قناة نسمة التلفزيونية، نبيل القروي، المرتبة الأولى بنسبة 23.8% يليه أستاذ القانون الدستوري ،الجامعي قيس سعيد بنسبة 23.8%، ثم زعيمة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، في المرتبة الثالثة بنسبة 10.8% يليها رئيس الحكومة وزعيم حزب تحيا تونس، يوسف الشاهد، بنسبة 7.4%. وكانت المرتبة الخامسة من نصيب زعيم التيار الديمقراطي محمد عبو بنسبة 6.6 %، وغير بعيد عنه بفارق بسيط، يحتل الرئيس السابق المنصف المرزوقي، المرتبة السادسة بنسبة 6.3%.

رغم أنّ استطلاعات الرأي هذه للناخبين التونسيين ،تأتي قبيل أجواء انتخابية قادمة، وتدفع نحو توتير الأجواء للمترشح والناخب، فإنّها لا ترقى إلى مستوى استطلاعات الرأي التي تجري بصفة محترمة ومحترفة في البلدان الديمقراطية.ومع ذلك، فإنّها أحدثت زلزالاًقويًا لدى حزب النهضة (الإخوان الإسلامين)، الذي ما انفك يتفاخر طيلة السنوات الماضية من أنّه يُعَدُّ الحزب الأول في تونس، علمًا أنه خسر ثلثي ناخبيه ،منذ أن فازفي أول نتخابات بعد سقوط نظام بن علي ،في 23أكتوبر 2011، على أساس أنه يخاف ربيّ، وحصل على المرتبة الثانية في انتخابات 26أكتوبر2014، على أساس ما وزّعه من كراتين في أغلبها “شوكوطوم” كما يقول عنه خصومه متندرين.

ويعرف حزب الإخوان المسلمين في تونس (النهضة)،أ نه طيلة هذه السنوات لم يقنع ناخبيه بما يجعلهم يتشبثون به، فلا هو طبّق الشريعة التي جاء من أجلها، ولا حقق الجنة الموعودة من الثورة التي ركب عليها وأصبح المتحدث الرسمي باسمها، ولا هو حقق للناس ما يصبون اليه من رفاه معيشي واستقرار أمني، ولا حتى أعاد لهم الامل في الحياة الكريمة، بل قضى تسع سنوات في المناورة على الحكم وفي التحالفات وفي تغيير الجياد التي يراهن عليها للبقاء في سُلطة لا هو حكم بها كاملة ولا خرج منها وابتعد عن أخطائها ولا هو تمتّع بغلاّتها واستعمل صلاحياتها، بل بقي دائما في الصفّ الثاني، لا هو في الرابحين ولا في الخاسرين، ولا في الجلادين ولا في الضحايا.كما يعرف ان ما أغرى به بعض الناس من خلال التعويضات او العفو التشريعي العام أو حتى اثقال الوظيفة العمومية بانتدابات ذوي القربى، لا تعني في النهاية أن جمهوره الانتخابي مستقر، فهذه الاصناف التي سميناها لا تتعدى في المحصّلة بضع عشرات الالاف، وهو يحتاج الى ملايين ليضمن بقاءه في السلطة، على حسب قول الصحافي التونسي محمدبوعود.

أما الحزب الثاني الذي يترأسه رئيس الحكومة التونسية يوسف شاهد،”تحيا تونس” فهو موقن بشكل كامل أن الملتفّين حوله هم طُلاّب سلطة وراغبو كراسي، وان اي تراجع له على الحسابات التي وضعها، يعني آليا نهايته بشكل درامي. فالحزب يراهن الان على أنه سيحتل مكان حزب نداء تونس الفائز في انتخابات 2014 ، (الذي يعيش تصدعات كبيرة في بنيانه، وتشظى إلى أكثر من حزب)، على المرتبة الأولى، أو الثانية في أول امتحان له في انتخابات  2019 ،قد يضعه أمام “بلدوزرات” انتخابية جديدة، تكتسح جماهيره وتقضي على أنصاره، وتخرجه من المعادلة قبل ان يتمتع بشرعيتها.

فشل الانتقال الديمقراطي في ظل غياب التنميةالمستقلة

رغم إخفاق الأيديولوجياالليبرالية ، التي أعتقد المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما عقب نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي في سنة1991، أنها انتصرت،و أنها تمثل “نهاية التاريخ” وأنه لن يكون هناك أيديولوجيا جديدة بعد الليبرالية. ثم ظهر له أنه أخطا التقدير كما أخطأ معه جمعٌ كبير من المفكرين، فإنّ الأحزاب الحاكمة في تونس ( اليمين الديني واليمين العلماني )خلال  مرحلة الانتقال الديمقراطي (2011-2019)، لا تزال تعتقد في صوابية اعتناقها للإيديولوجيا الليبرالية على الصعيد الاقتصادي، رغم أنّ أزمة النظام الرأسمالي العالمي، تبين لنا أن نهاية الليبرالية في الأفق، كما توضح لناأنّ النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي يتآكل ويتلاشى من داخله، لأسباب نظرية وعملية لا يمكن إصلاحها مرة أخرى ، وأنّ نهاية هذا النظام حتمية كما هو حال كل الأيديولوجيات التي نشأت ثم اندثرت في الماضي.

لكن أحزاب الإئتلاف الحاكم المتكونة من حزب الإخوان المسلمين”النهضة”، و”حزب النداء”العلماني،وحزب “تحيا تونس” بزعامة رئيس الحكومة التونسية الحالي، لا تزال تسير على نفس نموذج التنمية السابق في عهدالنظام السابق، والذي وصل إلى مأزقه المحتوم، بانفجار ثورة 2011في تونس.فقداستنفد النموذج التنموي التونسي السابق أغراضه، وتفكك ، وعجزت التنمية في سيرورة التبعية للغرب التي اتبعها، عن تحقيق التوازنات الكبرى، في الوقت الذي كان مطلوبا منها أن تنتهي من هذا الهدف، وترتاد آفاقا أخرى تهم تقوية أنظمة الحماية الاجتماعية، وتحقيق الإنصاف والرفاه الإنساني.

وأمام انتظارات الشعب التونسي من الثورة، لم يعد السؤال المطروح يروم حول السير في ركاب هذا النموذج التنموي المفلس ، وإنما التفكير و العمل من أجل بلورة نموذج جديد من التنمية، يستجيب لمتطلبات الاندماج الاجتماعي.فالنموذج التنموي القائم على اعتناق الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، أدّى إلى احتدام تناقض داخلي تجلى في ثلاث ظواهر مترابطة: المضاربة المالية ضد الإنتاج، والسوق ضد الدولة، والفرد ضد الجماعة.وكانت لهذا النموذج التنموي  تداعيات خطيرة على مستوى الاندماج الاجتماعي، تمثلت في تفاقم ظاهرة الإقصاء على مستوى الشغل، وتطوير أجيال جديدة من الفقر والفقراء، وذلك بسبب أثر الثورة ما بعد الصناعية في تطور أشكال الأنشطة الاقتصادية، وما نتج عن ذلك، من التركيز أكثر على التكنولوجيا بدلا عن اليد العاملة، والإيذان بانتهاء عصر التشغيل الكامل بالتزامن مع ظهور أشكال جديدة لتعبئة العمل.

أمام هذه المعضلة، فإنّ ما هومطلوب من الحكومات المتعاقبة في تونس،هوحل مسألة التشغيل في المجتمع التونسي من منظور جديد، لتجاوز المستقبل الصعب الذي ينتظر الشباب، لا سيما حملة الشهادات الجامعية ، حيث أن النموذج الاقتصادي الحالي، لا يمتلك أي قدرةلأسباب موضوعية، على التوفيق بين النمو والتشغيل التام لمجموع الساكنة النشيطة التي تلج الأسواق الوطنية للشغل.

وفضلاً عن ذلك، تتجسد أزمة نموذج التنمية الحالي في الظواهر الخطيرة التالية:

1 ـ أزمة الأنظمة الوطنية للحماية الاجتماعية، بسبب تضاعف العجز المتزايد عن تمويل أنظمة التغطية الصحية والتقاعد وتعويض الأشخاص في وضعية بطالة، ومختلف أنواع التحملات الاجتماعية التي تخص الأشخاص في وضعية صعبة.

2 ـ التفكك المتنامي للبنيات التقليدية للتضامن الاجتماعي، بسبب زعزعة استقرار العلاقات الأسرية والجماعية، وأثر هيمنة السوق في ذلك.

3 ـ النقص المتزايد للموارد العمومية المخصصة للقطاعات الاجتماعية، وذلك في مقابل تزايد الطلب الاجتماعي، والذي صار يشكل ضغطا كبيرا على القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن والشغل والتغذية.

4 ـ الاختلالات المالية الدورية التي ظهرت في صورة أزمات مالية دولية، والتي ترتب عنها توسيع دائرة الفقر، وتعميق التفاوتات الاجتماعية، وتهاوي الطبقات الوسطى وانهيارها، مقابل إغراق الطبقات الميسورة في الاستهلاك المفرط أو الاستهلاك العبثي.

ولم يكن في برنامج الحكومة التي يترأسها يوسف الشاهد، أي مسعى لمحاربة الفساد، الذي أصبح له لوبيات قوية داخل هياكل ومؤسسات الدولة نفسها، حيث استطاعت هذه اللوبيات بعد الثورة المزاوجة بين التهريب والإرهاب. فسارت حكومة الشاهد في نفس الطريق الذي كانت تتبعه حكومة النهضة، من تشريع القوانين وفقا لمصالح لوبيات الفساد، والمافيات، وارتباطات تونس بالمحاور الغربية والخليجية المعادية لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، ولانتهاج تونس نموذج جديد من التنمية يقطع مع نهج التبعية للغرب.

والحال هذه أبقت حكومة يوسف الشاهد على نفس تلك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الفاسدة التي تشكلت تاريخيًا واستطاعت التداخل مع الدولة، الأمر الذي أدّى إلى المحافظة على اقتصاد الريع والامتيازات والفساد والرشوة وشيوع المضاربات على انهيار النموذج التنموي،وإلى مزيد من تفقير الفقراء وإثراء الأثرياء، وإعادة إنتاج شروط الأزمة الهيكلية التي تعاني منها تونس، بينما المطلوب هو اتخاذ إجراءات ضرورية لمحاربة الفساد وتوفير أموال إضافية للميزانية من المتهربين من الضرائب فضلا عن مكافحة التهريب.

ومن مخاطر الممارسات التي نشأت على هامش النموذج التنموي الراهن، أنها نسفت قواعد المنافسة الشريفة، وأبطلت مبدأ تكافؤ الفرص بين الشركات والمقاولات وأيضا بين المواطنين، مما أنتج في المحصلة، ظاهرة سيادة سلطة المال الفاسد ، وانعدام الثقة في المؤسسات، وبروز أشكال غير مسبوقة من العنف الاجتماعي والحركات الاحتجاجية التي وصلت حد الثورة في تونس.

الإئتلاف الحاكم في تونس بشقية الإسلامي والعلماني، الذي يتبع الليبرالية الاقتصادية المعولمة، عاجزتمامًا عن بلورة نموذج تنموي جديد، يسعى للتوفيق بين النجاعة الاقتصادية والإنصاف الاجتماعي، والتوزيع المنصف للثروة، والاستدامة، إلى جانب إشاعة قيم العدالة والحرية والكرامة.

الفساد ينخر الديمقراطية الناشئة في تونس

من المعوقات الرئيسة التي تقف في وجه تطور الديمقراطية الناشئة في تونس، وبالتالي في وجه التغيير المنشود الراديكالي الذي كان شعارًا للثورة التونسية لكي تحقق أهدافها الاستراتيجية، هي ظاهرة الفساد التي نخرت المؤسسات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية التونسية، وضربت مقومات الدولة ومرافقها، وعوّقت ولا تزال حركة التغيير، وإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية سليمة.

فقد أضحت ظاهرة الفساد الإداري والمالي منتشرة بصورة واسعة وعميقة في عهد حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته وأصهاره، الذي ورّط أجهزة الدولة في الفساد، لكن هذه الظاهرة اتخذت أبعادًا واسعة في زمن الثورة، لأنّ الأحزاب التي فازت في انتخابات 23أكتوبر2011، كانت “متعطشة للسلطة”، لا سيما حزب النهضة الإسلامي الذي كان مُسَيْطِرًا على حكومات الترويكا، وذلك بعد فترة طويلة من الإقصاء، إلا أنّه لقلة خبرته وعدم معرفته بدواليب سير الحكم لم يكن قادرًاعلى بناء منظومة حكم تعبّرعن المرحلة الجديدة وتستجيب لمتطلباتها.

وفي انتخابات خريف 2014، دفعت الأحزاب المتعجلة بالإمساك بمقاليد السلطة، لاسيما “نداء تونس”، و”النهضة”الإسلامي، و”آفاق تونس” و”الاتحاد الوطني الحرّ”إلى استمالة المنظومة السياسية الاستبدادية القديمة من رجال أعمال فاسدين ونهابين للمال العام، وتأليف قلوب منتسبيها من أصحاب المصالح المهددة لضمان الاستفادة من “خبراتهم” واطلاعهم على القواعد الخفية لتسييرالدولة والاعتماد عليهم لتمويل حملاتها الانتخابية ومصاريف انتشارها الباهظة. فيما سارع أصحاب المصالح المهددة من ناحية أخرى إلى الارتماء في أحضان هذه الأحزاب الآنفة الذكر، لضمان الحفاظ على امتيازاتهم. ويكفي للتدليل على ذلك ما برز أثناء الحملات الانتخابية من عدم التزام من الأحزاب الكبرى بقواعد تمويل الحملات الانتخابية، وهو أمرأقرت به اللجنة المستقلة للانتخابات وكذلك العدد الهام من رجال الأعمال المنضمين للهياكل القيادية للأحزاب الناشئة حديثاً في تونس. وقد اعترف العديد من هؤلاء بتمويل أكثر من حزب عملاً بمقولة “لا تضع جميع بيضك في السلة نفسها”.

وكرست الانتخابات الأخيرة في تونس، زبونية جديدة على حساب بناء مؤسسات ديموقراطية حقيقية تكرست أكثر من خلال التعيينات في مراكز الحكم (الوزراء، أعضاء الدواوين الوزارية) لا على أساس الكفاءة والنزاهة بل على أساس القرابة والاستمالة، كما ساهم هذا الأمر في تعزيزالإفلات من العقاب ومنع إقامة عدالة انتقالية حقيقية تسمح بالمرورإلى مرحلة جديدة من بناء الديموقراطية التونسية. ومن جهة أخرى برز التمويل الأجنبي لهذه الأحزاب كنوع من الفساد السياسي وتهديد جدّي للمسار الديموقراطي وتحريف للتنافس السياسي النزيه. وعادة ما يتخفى هذا النوع من الفساد وراء أنشطة جمعياتية ظاهرها مساعدات اجتماعية وباطنها التأثير على الناخبين، خصوصاً في الأحياء الفقيرة. وقد أكدت دائرة المحاسبات بصفتها مكلفة بالرقابة على تمويل الانتخابات عن صعوبة مراقبة هذا النوع من التمويل نظرًا لتخفيه وراء جمعيات تكون واجهة للتمويل غير المباشر لهذه الأحزاب.

ورغم أن الثورة التونسية ربطت بين الفساد والاستبداد فقرنت التخلص من الفساد بدحر الاستبداد، فإنّه مع ذلك وبعدثماني سنوات من الثورة وفي ظل الانتقال الديموقراطي، بدأ يتبين أنّ التصور النظري يحتاج تعديلاً، إذ إنّ الديموقراطية لا تمنع الفساد ما لم يكن هناك للأحزاب الجديدة مشروع وطني ديمقراطي لإعادة بناء الدولة الوطنية، وبلورة نموذج جديد للتنمية المستقلة. والحال هذه اغتنمت لوبيات الفساد المالي والتهريب، والتهرب الجبائي، فرصة هشاشة الأوضاع وضعف أجهزة الدولة، وكذلك ترنح المسار الثوري، وعدم احترام القانون، أي مع عدم وجود دولة قانون، لتؤسس ما سمي ب”الدولة الخفية” الفاسدة المتناقضة مع الشرعية، وهي منظومة يصعب تفكيكها، من دون إعادة الاعتبار لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، دولة الحق والقانون، واستقلال المؤسسة القضائية.

وبذلك شكل الفساد السياسي خلال السنوات الثماني الماضية، أي منذ انتخابات 2011ولغاية 2019، عبراستغلال الواجهة الإصلاحية للنظام الجديد لإعادة توزيع «لمنظومة نهب الثروات الوطنية» من خلال سعي الكثير من السياسيين الجدد لخدمة مصالح ذاتية وتكديس الثروات الشخصية بالاستعانة بالوسائل القديمة غير المشروعة وتطويع الأدوات التي سبق أن استعملها النظام الفاسد لمواصلة نهج الفساد (تطويع القوانين للحصول على الامتيازات، الرخص الإدارية والبيرقراطية المكثفة).

الخاتمة

الشعب التونسي في هذه الدورة الانتخابية الجديدة، مطالب بالمشاركة في الإنتخابات القادمة والمساهمة في اختيار الأفضل من بين الأحزاب ومكونات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة، لممثليه في مجلس نواب الشعب ومنصب رئاسة الدولة ،أي اختيارالأجدروالأقدر على تسيير شؤون البلاد،وحَثِّ الكفاءات الوطنية للإنخراط في العملية الإنتخابية والمساهمة الفعّالة في المجهود الوطني لإنقاذ البلاد من أزمتها.

تونس في أمس الحاجة إلى دولة قوية وعادلة وحكومة شجاعة تعطي المثل في العطاء والكفاءة والحنكة في الإدارة وتطبيق القانون على الجميع والضرب بيد من حديد على الفاسدين
،و تعمل على تقوية أسس وقواعد الديمقراطية التمثيلية والتشاركية، وهذا يمثل الجانب المؤسساتي في الموضوع ،أي ضرورة استكمال مسار الإنتقال الديمقراطي وبناء المؤسسات الدستورية ،و تفادي التجاذبات السياسية الحادة والصراعات الحزبية الضيّقة والإيديولوجيات التي تشهدها البلاد، مما أدّى إلى تشتت الساحة السياسية وعدم بروز بديل قوي قادر على تحمل المسؤولية الجسيمة للحكم بعد الإنتخابات.

إنّ النموذج الديمقراطي المستند إلى توفير الحرّيات العامّة وحقوق الإنسان وحفظها، وإلى احترام التعدديّة وتكريسها، فضلاً عن تثبيت النظام التمثيلي وفصل السلطات والتداوُل السلمي للسلطة، والمساواة بين المُواطنين من حيث توزيع الثروة والفُرص، وهي عناصر تُحاكي النموذج الديمقراطي العالَمي، لكن مع مراعاة الخصوصيّة التونسية والعربية، هو الضمانة الحقيقية لبناء دولة الحق القانون والمؤسسات،ونجاعة السياسات العمومية، وربط المسؤولية بالمحاسبة،وإعادة الاعتبار لدور الدولة وهيبتها، وإعادة تعريف وتحديد وظائف الدولة ،والتأكيد على أهمية الاقتصاد الاجتماعي التضامني باعتباره إطارًا لترشيد عوامل الإنتاج والاستعمال الأمثل للثروات، ولتوزيع أكثر إنصافًا لهذه الثروات بين الفئات الاجتماعية الشعبية ، أخذًا بعين الاعتبار المعيار الاجتماعي والترابي والجنسي والعمري، وهذا التوجه يخص الجانب الاقتصادي والاجتماعي.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى