عودة الى نكهة الستينات مع الكاتب فرج نور سلمان
بقلم : زياد شليوط
جاءني حاملا كتابا قديما، وطلب مني أن أقرأه. انه أستاذي في المرحلة الثانوية المربي عكرمة سلمان من قرية عبلين المجاورة لبلدتي شفاعمرو، والذي تربطني به علاقة مميزة حتى اليوم. والكتاب هو مجموعة قصصية لشقيقه المحامي والكاتب فرج نور سلمان، بعنوان ” أبرياء وجلادون” الصادر عام 1960. وكنت قد تعرفت أيضا الى المحامي والكاتب فرج بعد دخولي عالم الصحافة، وكنت قد قرأت له المقالات الساخرة والتحليلية في صحيفة نصراوية محتجبة “فينوس” وبعدها في صحف أخرى، وأعجبت بتلك المقالات حقا.
سعدت بثقة أستاذي و”سرقت” الوقت لأقرأ قصص ” أبرياء وجلادون” والتي تأتي بنكهة الستينات من القرن الماضي، حيث الحكم العسكري على المواطنين العرب من ناحية، والمد القومي والكرامة في عهد القائد الراحل جمال عبد الناصر، وارتفاع شأن المعسكر الاشتراكي الداعم لتحرر الشعوب من الناحية الأخرى. وقصص المجموعة تختلف عما نقرأه من قصص في أيامنا من حيث المبنى والأسلوب، فهي تتبع ما عهدناه في ذلك الزمن ودرسناه في المدرسة من حبكة للقصة ذات بداية وتصعيد وتعقيد ومن ثم الحل.
وهذه جولة سريعة مع قصص مجموعة ” أبرياء وجلادون” للكاتب الفلسطيني فرج سلمان، آمل أن تجد صداها لديكم. القصة الأولى ” انسان” تتحدث عن طالب جامعي يسافر في القطار (الكاتب درس في الجامعة العبرية في القدس)، يجلس بجانبه انسان كثير الكلام والطالب يحاول أن يتجنبه لكن يضطر لمجاراته.
القصة الثانية ” مش مهم” تأتي من واقع الناس في فترة الحكم العسكري، تصور حياة العمال البسطاء الذين كانوا يركبون بالعشرات في الحافلة. كشف المتعاونين مع السلطة ضد شعبهم، متمثلة في شخصية المختار المشارك في رحلة الباص. تتعرض القصة لطوشة الباصات المعروفة في شفاعمرو ومشاركة العمال وأعمال التضامن.
القصة الثالثة ” يحيا العدل”، فيها الكثير من السخرية السوداء، حيث يتعرض الكاتب الى ظلم المحاكم الإسرائيلية وتمييزها الصارخ بحق المواطنين العرب، حيث يكيل القاضي بمكيالين، يتعامل بفظاظة وقسوة وازدراء مع المواطنين العرب، وبالمقابل يتماثل ويتماهى مع المتهمين اليهود ويعمل على مساعدتهم وانقاذهم من ورطتهم وكل ذلك على حساب العرب طبعا، مما يستدعي استياء واعتراض الراوي الذي يقوم صديقه بلجمه، والا سيكون مصيره مشابها للعرب الآخرين. ربما من هنا جاء عنوان الكتاب.
“القديسة” قصة جريئة بمفهوم الزمن الذي كتبت ونشرت فيها، وصراحة فوجئت بها خاصة وأن تلك المواضيع الاجتماعية لم يتطرق اليها الأدباء في ذلك العهد، حيث أولوا المواضيع السياسية الاهتمام الأكبر وربما الوحيد، وبذلك يكون الكاتب سبق عصره في كتابتها. تتحدث القصة عن فتاة تحولت الى زانية بعدما اعتدى عليها خطيبها، وفيها وصف جريء للكاتب عن الفتاة ومفاتنها وممارستها للبغاء، لكن التحول يكون في انقلاب الفتاة على ذاتها وكرهها لنفسها وتراجعها عن كل ما كانت تقوم به وابتداء مرحلة جديدة من حياتها.
“نقطة سوداء” تبدأ بتشويق لمعرفة ما هي النقطة السوداء، عندما يخرج فريد وهو قلق ويحمل ألف سؤال وسؤال حول النقطة السوداء في حياته والتي تلاحقه منذ سنوات، ويريد أن يتخلص منها، ويراجع ذكرياته فينقلنا الى أيام الحكم العسكري والوقوف في طابور للحصول على تصريح والمعاناة والاهانة من وراء ذلك، والمتعاونين مع الحكم العسكري ويكون أحدهم ابن عم فريد، وهنا نعرف النقطة السوداء التي يخجل بها وتعكر صفو حياته وتضعه في دائرة الشك من قبل أصدقائه وأهل قريته. وفي النهاية يصل للحل، وهنا اعتمد الكاتب على تكنيكية سينمائية في أن فريد يتحسس آلة حادة في جيبه، ويذهب بنا التفكير الى أنها سكين يريد به قتل ابن عمه والتخلص من العار الذي يلاحقه أينما ذهب، لكن نعرف في النهاية ومن خلال الحديث مع شريكه في الغرفة، أن ما يحمله قلما يريد أن يكتب به قرار براءته من ابن عمه.
لقد تفاعلت مع هذه القصة لواقعيتها وصدقها وتصويرها مرحلة هامة وصعبة من حياة شعبنا. وخاصة في مشهد لقاء فريد، الخريج الجامعي الشاب الوطني والمدافع عن شعبه مع مفتش المعارف “العربي” العميل، حين جاء يطلب وظيفة للعمل في التدريس، لا سيما وأني مررت بهذه التجربة في حياتي فعلا، وقد وجدت نفسي مكان فريد وهناك العشرات بل المئات مثلنا، ممن رفضوا للعمل في التعليم بسبب نشاطهم ومواقفهم الوطنية.
قصة اجتماعية أخرى بعنوان “الوحش”، تتحدث عن شخص يدعى جميل وهو أبعد ما يكون عن الجمال، حيث يصف لنا الكاتب منظره الخارجي البشع جدا كالذي نراه في الأفلام الخيالية، وهو يكره اسمه جدا “جميل” وهو عكس هيئته، وبالتالي يحقد على والديه وأبناء المجتمع الذين يسخرون منه ويعيرونه، فيبتعد وينعزل ويسكن في كوخ، فيه يتلصص على العشاق الشباب من أبناء قريته وتذهب به الأفكار نحو الأنثى وهو الذي لم يلمس امرأة في حياته، الى أن تأتي فتاة بشعة مثله وتسكن في كوخ مقابل، وتتوطد العلاقة بينهما وتثور مشاعرهما الى أن تنفجر يوما ما.
” ثأر” القصة الأخيرة في المجموعة، وهي على عكس سابقتها، أظنها أضعف قصة في المجموعة، مضمونا وبناء. تتحدث عن شاب تعرض والده وشقيقه للاعدام الميداني من قوات الاحتلال، وينتظر فرصة الثأر، لكن صراعا داخليا في نفسه يغلب الإنسانية على مشاعر الانتقام.
لا شك أني استمتعت بقراءة مجموعة ” أبرياء وجلادون” القصصية للكاتب والمحامي فرج سلمان، وأود أن أشكر أستاذي عكرمة على هذه الهدية القيمة. وهذه التجربة تدعوني لتقديم اقتراح على دور النشر المحلية، أن تعمد الى إعادة طباعة ونشر الكتب المستحقة، من فترة الخمسينات والستينات لكتابنا وشعرائنا، كي يتعرف اليها أبناء الأجيال الحالية، ويعرفوا كيف عاش آباؤهم وأجدادهم وفي أي ظروف قاسية، وكي نحافظ على موروث أدبي يجدر الاعتزاز به.
(شفاعمرو – الجليل)