قضية .. رأي عام 

 

 

هذه المقالة هي جواب على طلب أحد الأصدقاء الذي سأل ما يلي :  أود من حضرتك إذا لم يكن الموضوع محرجا أن تشرح للجميع ( وانا منهم ) .. ما معنى قضية رأي عام؟  .. وكيف يصبح شخصا معينا بذاته ، قضية رأي عام ؟ وبناء على ماذا ؟ ومن يقرر هذا ؟ لأن كثيرا من المنشورات على الفيس يقرر فيها بعض الأفراد بأن هذه القصة مثلا بخصوص فلان صارت قضية رأي عام .. وهذا الأمر ملتبس على الكثيرين ..

 قضية الرأي العام 

ظهر رأي “الجماعة” أو الكثرة مبكّراً في تاريخ “الاجتماع” ، لما تطلّبته ممارسة “القيادة” النّفسيّة الاجتماعيّة في ظروف المبادرات التي يتبنّاها أفراد بعينهم ، و هم يهدفون من ورائها إلى تحوّلها إلى قضايا جمعيّة تستأثر بموضوع التّأطير الضّروريّ للسّلوك و القناعات المشتّتة ، قسراً غير مباشر أو مباشر ، تسهيلاً للقيادة و توجيه الأغلبيّة بإدخالهم في حظائر القناعات و التّشابهات الجمعيّة ، و ذلك كجزء من لمّ الأفراد حول فكرة واحدة تجعلهم أكثر قابليّة للنّظرة الواحدة إزاء المسائل المختلفة ، و هو ما يُسهّل قيادتهم إلى قناعات و أهداف اجتماعيّة و سياسيّة يتطلّبها مبدأ القيادة و التّأثير .

1▪ كان في القديم يجري التّعبير عن قناعات الكثرة بما يُسمّى “صوت الشّعب” . و قد نستطيع تتبّع تاريخيّة هذا “المبدأ” العامّ منذ أيّام “الإغريق” و “الرّومان” تحشيداً حول “المسائل العامّة” أو المسائل التي يُراد لها أن تكون كذلك ، بشكل مباشر عن طريق “الاجتماعات العامّة” في الدّولة “اليونانيّة” و “الرّومانيّة” الجنينيّة في التّجمّعات العدديّة العينيّة ؛ و قد عرف “الإسلام” الأوّل هذا الشّكل من “الجماهيريّة” و “الشّعبيّة” عن طريق ” الجامع ” ( المسجد ) الذي كان يشكّل مكاناً عامّاً للرّأي و النّقاش و الجدال و الاتّفاق و الإخضاع و الخضوع .

2▪ فيما بعد كان ( ماكيافيللي ) أوّل من استخدم مصطلحات محدّدة للرّعاية العامّة و التّوجيه المباشر للجماهير ، مثل “الشّعب” و “النّاس” و “الرّعايا” و “الجماهير” ، و يمكننا أن نعثر في كتابه “الأمير” على هذه المصطلحات مع وصفات سياسيّة للأمير أو للحاكم تمكّنه من قيادة الرّأي العامّ و حامليه تحقيقاً لأغراض الأمير السّياسيّة في الحكم .

3▪ بعد “عصر النّهضة” الأوربّيّ و على تخوم “عصر الأنوار” جرى استخدام هذه الأفكار بمصطلحات جديدة تناسب اتّساع الثّقافات العامّة و آفاق العقل الاجتماعيّ الحديث ، فظهرت مصطلحات مثل “العقل العامّ” و “إرادة الدّولة” ( مونتسكيو ) و “الإرادة العامّة” ( جان جاك روسو ) ، و “رأي الشّعب” و “الإرادة الشّعبيّة” عند منظّري “ثورة الأنوار” .

4▪ في عصرنا الأخير استعمل عالم الاجتماع و الحقوقيّ الفرنسيّ ( غابرييل تارد ) : ( 1843 – 1904 ) ، لأوّل مرّة ، مصطلح “الرّأي العامّ” في دراسة له حول ذلك ، ظهرت عام ( 1901 ) ، و ذلك في إطار دراسته للجريمة و “التّقليد” و “المسؤوليّة الأخلاقيّة” و “النّظام العقابيّ” ، و “الرّأي و الحَشد” .

بعد ذلك جاء “الاجتماعويّ” الأميركيّ (والتر ليبمان)( 1889 – 1974 ) فأوضح في أوائل عشرينيات القرن العشرين ، العلاقة بين “الرّأي العامّ” و صناعة القناعات و ترتيب و توجيه الأولويّات و دور الإعلام في ذلك عن طريق إثارة و تحفيز الخيال .

و بسبب تعقيد مفهوم “الرّأي العام” ، و قبل أن نعمل على تعريفه أو ندرج له التّعريفات ، فإنّه يمكن لنا أن نبوّب ما يتّصل به و يصنعه و يوفّر ظروفه ، بواسطة توضيح ما يرتبط به ارتباطاً مباشراً من أوضاع تضفي عليه مغزاه و دلالاته في ضوء أوسع انتشاراً في الأذهان .

  • أوّلاً – الفرق بين الانطباع ، و الرّأي ، و الحقيقة :

5▪ بقدر ما يتجنّب العالمُ في التّاريخ دلالاته على المعطيات المباشرة التي تلهم وعي البشر اليوميّ ، فإنّه بالقدر نفسه يمارس وعي اللحظة انطباعاته على العالم الخارجيّ ، بالدّرجة التي تتقاطع فيها الذّاكرة الشّخصيّة مع ما يتشابه مخزونها التّجريبيّ مع الواقعة أو الظّاهرة الحاضرة أمام الأحاسيس .

إنّ للجميع خبرات تمّ اختزانها في المكان النّوعيّ الخاصّ من الذّاكرة ؛ و إنّه بالقدْر الذي يُثير فيه المعطى المباشر معالم الخبرة التي استقرّت في الذّاكرة ، فإنّ الشّعور الغامض الذي نسمّيه انطباعاً يتحرّك في اتّجاه ما يفترضُه متوجّهاً إلى “حقيقة” الحدث ، و ذلك سواء كان قد صنع مع العالم الخارجيّ مماسّاً أو وَتراً أو قَطراً يمرّ في مركز الحدث .

و لو أنّ وعي ذلك لا يتوقّف على الآليّة التي بواسطتها قد حصلت تلك العمليّة ، بقدر ما يتوقف على الموسوعيّة الشّعوريّة التي تُحيط بتفاصيل و مفردات الحدث الخارجيّ موضوع الاهتمام .

فالانطباع هو كيفيّة غير موصوفة للعلاقة بين الوعي و المؤثّرات ، و هو بالتّالي وضعيّة بدائيّة أو أوّليّة من وضعيّات التّموضع الخارجيّ للوعي المثقل بتجارب و خبرات عديدة ، كانت أن حدّدتْ شكل و طريقة تعاطي الوعي مع الموضوع .

و الثّابت في كلّ هذا هو أنّ الانطباع شعور غامض و مبهم عن الشّيء الذي تركَ في نفس الفرد أو الجماعة ندبة أو فجوة غير مستقرّة ، تضيق و تتّسع بحسب ما إذا كانت الإرادة قادرة على دفع التّخييل إلى المعاصرة الّلازمة و الكافية و النّاجحة للمؤثّر ، أو للموضوع الخارجيّ المنفصل عن الذّات ، بحكم “الموضوعيّة” التي تشترط العلاقة و الأوضاع التي تجمع الوعي مع عالمه الخارجيّ .

إنّ جُلَّ ما يُقدّمه الانطباع من يقين هو في إثبات وجوديّة العلاقة بين الأثر و المتلقّي ، و من دون حكم حدّيّ للمنطقيّة الوضعيّة لهذه العلاقة ، و في جدّيّة الهمّ و الاهتمام الذي أثاره العالم في النّفس البشريّة ، و لو على طريقتها النّوعيّة التي تتفاوت ما بين الرّاصدين .

6▪ و الأمر مختلف مع الرّأي . إنّ الانطباع المتحول من وضعيّة الوجود إلى وضعيّة القيمة و الوجوب هو ما يحسم وضع الرّأي عند الأفراد و الجماعات ، بحيث أنّ الرّأي يمكن أن يُحاكم بإمكانيّة الخطأ و الصّواب ، في دخوله فضاء المعياريّة ، في الوقت الذي لم يكن ليُتاح للانطباع مثل هذه الفرصة في الفحص و الامتحان الحدّيّ في إطار “الموضوعيّة” ، و لقد كان قد كفى ، في وضع “الانطباع” أنّ ثمّة علاقة من الوجود تحكم الأثر و التّلقّي ، و الأمر على غير ذلك مع “الرّأي” في القياس .

صحيح أنّ “الرّأي” لا يقدّم الحُجّة الكافية على “الحقيقة” ، على اعتباره يحتمل الخطأ و الصّواب ، بل إنّه لا يمكنه ذلك ، موضوعيّاً ، لهذا السّبب ، بالضّبط ، و هو احتماليّة تضمّنه الخطأ و الصّواب .

غير أنّ حدود الخطأ و الصّواب في معرض الرّأي ، إنّما هي أدقّ و أخطر ما في “الرّأي” من حيث أنّها توحي بكفاية الأدلّة على حقيقة من الحقائق ، فيما هي غير ذلك ، على الإطلاق .

و على هذه الخطورة تترتّب جملة من المخاطر في تكوّن و تكوين “رأي الحشد” ، و تشكّله تشكّلاً عشوائيّاً يتيح لأصحابه وهم التّحقّق و الضّبط و الدّقّة و اليقين الكامل ، في الوقت الذي لا يكون فيه الرّأي ، بطبعه المتفاوت ، مؤهَّلاً لمثل هذه المغامرة في اليقين .

7▪ الطّور الأعلى من الانطباع و الرّأي ، هو أن يتمكّن الوعي من الوقوف على “حقيقة” من الحقائق و قد تبيّنت من جهة أنّها حقيقة مؤيّدة بواسطة العلم و المعرفة ، و لو في الحدود الدّنيا من هذه الدّقّة الواقعيّة في العقلانيّة و المعقوليّة التي لا تكون بغير المعرفة و العلوم .

8▪ هذه كلاسيكيّات علميّة و معرفيّة تأكّدت بالاختبار و التّجربة و الفحص الدّقيق . و يمكن أن نضرب مثالاً على ذلك .

جميعنا يشعر ، بتفاوت ، بأثر “المناخ” على العضويّة و الفيزيولوجيّة الجسديّة ، من برد و درجة حرارة متدنّية أو من حرّ و درجة حرارة مرتفعة .

إنّ الشّعور بحدّ ذاته ، و لأنّه يتفاوت بين شخص و شخص ، كما تدلّ التّجربة في الشّعور و التّحمّل ، هو “الانطباع” حول واقع المناخ ، و هو واقع غير معياريّ و لا يخضع إلى أيّ قياس ، إذ يدخل في “تقديره” درجة تحمّل الأشخاص و الطّبيعة التّكوينيّة العصبيّة و الفيزيولوجيّة لكلّ فرد على حدة ، ناهيك عن الوضع النّفسيّ الخاصّ بكلّ شخص ، و منسوب التّوتّر الشّخصيّ ، و الذي يلعب ، بدوره ، أثراً مجرّباً و واقعيّاً ، في تقدير الشّعور بواقع الحالة المناخيّة موضوع الملاحظة .

و أمّا “الرّأي” في هذه القضيّة فهو “الحكم” النّهائيّ على حالة المناخ ، هل هي حالة عاديّة و المناخ معتدل ، أم أنّ المناخ بارد أو شديد البرودة ، أم أنّه حارّ إلى درجة لا تُطاق ؟

و نلاحظ ، في هذا المعرض ، أنّ ثمّة ميلاً قد تجاوز حالة “الانطباع” الشّخصيّ الفرديّ حول الذّاتيّة الخالصة التي كانت أن “حدّدت” وضع المناخ في حالة الانطباع ، بحيث أنّنا نقف على طور أعلى من اليقين غير المؤكّد حول حالة المناخ ، إلى الدّرجة التي يصبح فيها الرّأي يتجاوز الفرد أو الأفراد إلى ما نسمّيه بالوضع العامّ ، الذي تؤيّده الحالة النّفسيّة هذه المرّة بوصفها حالة انتقلت و تنتقل بالعدوى النّفسيّة التي تلعب دوراً غامضاً ، و لكنّه أكيد ، في تشكّل و تشكيل “الرّأي” الذي قد يبدو في كثير من الأحيان “رأياً عامّاً” .

و هذا “الرّأي العامّ” بحدّ ذاته غير أكيد من جهة أنّه يقبل أن يكون صائباً أو خاطئاً ، حسب الظّروف .

و أمّا قياساً بالحقيقة المعرفيّة و العلميّة ، فإنّ هذا الرّأي يبقى مجرّد “رأي عام” في حدود ظروفه الزّمانيّة و المكانيّة و غير المطلقة ؛ إذ أنّ جميعنا يعرف أنّ استقلاليّة واقعة أو ظاهرة المناخ إنّما تقاس فيها درجات الحرارة بالموازين المعدّة لهذا القياس و بالبارومترات الفيزيائيّة – الكيميائيّة ، و لها في ذلك أوصاف و صفات و معدّلات دقيقة و محايدة و ضروريّة للطّبيعة و موضوعيّة بغضّ النّظر عن مشاعرنا و آرائنا فيها ..

و هذا علاوة على أنّ مجرّد شعورنا ، بالرّأي العامّ ، فيه ، هو ليس يقينيّاً كما نتصوّر أو كما يُهيّأ إلينا ، ذلك أنّ ما نشعر به ، نحن ، هنا ، في إطار الرّأي العامّ ، هو غير ذلك في أماكن أخرى من “الأرض” ، و ما هو ، من المناخ ، لا يُطاق بالنّسبة إلينا ، هنا ، ربّما كان رائعاً و ساحراً بالنّسبة إلى غيرنا في مكان آخر على هذه الأرض ، و العكس صحيح .

9▪ من الواضح أنّ موضوعة “الرّأي العامّ” لا تتعلّق بالاجتماع أو بالسّياسة ، و حسب ، و إنّما هي قضيّة “كميّة” ، أوّلاً ، و “نوعيّة” ، ثانياً ، و هي لهذا ينبغي أن تقرأ ، تمهيديّاً ، في ضوء متغيّرات “الكمّ” و “الكيف” ، و في إطار “الحدود” و “القضايا” الفلسفيّة و المنطقيّة ، من ثمّ ، و التي تتحوّل في الأثناء إلى قضيّة على درجات تتجاوز فيها المسألة الشّخصيّة و الخاصّة لتتحول إلى عبارة نوعيّة عامّة ، من الضّروريّ و المهمّ أن تُدرسَ في إطار “العبارة العامّة” التي لا نجد لها بديلاً واقعيّاً خارج “الاجتماع” و “السّياسة” .

  • ثانياً – الشّخصيّ و الخاصّ و العامّ :

10▪ تختلط على “الجميع” الحدود الفاصلة في قضايا “الرّأي العامّ” ، من حيث هي تثير و تستوجب الأسئلة الحدّيّة الدّائمة ، التي لا تنتهي في التّداخلات التي يُثيرها “الاجتماع” و تثيرها “السّياسة” ، و ما إذا كان شأنٌ من الشّؤون هو موضوعٌ “شخصيّ” أو “خاصٌّ” أو “عامٌّ” يدخل في إطار قضايا “الشّأن العامّ” و “الرّأي العامّ” ؛ هذا مع تذكيرنا بما قلناه أعلاه حول أنّ “الرّأي” بحدّ ذاته ليبسَ معصوماً عن الخطأ ، مع جميع حيازاته مواصفات و صفات “الرّأي العامّ” .

في الأحاسيس و المشاعر و الشّؤون “الشّخصيّة” ، تتضخّم ، أحياناً ، ذوات الأفراد في حالات مَرَضيّة و فارغة من المضمون المسوَّغ و المسوِّغ ، إلى الدّرجة التي يشعر فيها الفرد ، و يظنّ و يؤمن و يعتقد ، بأنّ مسألة من المسائل الشّخصيّة التي مضمونها من قبيل الذّوق الشّخصيّ و الطّعم و الرّائحة و الّلون و الانطباع الاجتماعيّ الفرد و الموقف السّياسيّ الشّخصيّ المبنيّ على محدوديّة طوبولوجيّة و ثقافيّة و عرف فرديّ خالص و فلسفة شخصيّة .. و الرّأي المفرد النّاشئ في ظروف تربويّة تراكميّة كثيفة ؛ إنّما هو من شؤون القضايا “العامّة” التي يتوقّف عليها مجتمع كامل ، و ربّما “المصيريّة” التي يتوقّف عليها مستقبل البشريّة جمعاء .. في الوقت الذي لا يتجاوز فيه واقع هذا “الأمر” حدود الشّخص الفيزيائيّة الخالصة .

11▪ و بالمثل ، فإنّه يمكننا النّظر إلى المسائل و الشّؤون “الخاصّة” المرتبطة ، مباشرة ، بالقضايا الشّخصيّة ، و لو أنّها تتجاوزها إلى إطار أثر العلاقات المحيطيّة بالشّخص و البيئة التي تؤطّره كفردٍ محدّد و محدود .

و فيما يَعْلَقُ الشّخص في متلازمة هذا الوهم الذي يتجاذبه بين “الشّخصيّ” و “العامّ” ، يجهل أنّ الوشائج واقعيّة تلك التي لا يُدركها مابين الشّخصيّ و الخاصّ و العامّ ، و مع ذلك فإنّ لكلّ حدّ من الحدود معالمه المميّزة التي ينفرد بها دون أن يطغى عليها ما هو مشترك ما بين الحدود و الأوضاع جميعها و الحالات و الصّفات .

و تُعدّ المسائل “الخاصّة” صلة الوصل المباشرة من طرفيها المتباعدين ما بين القضايا الشّخصيّة المحضة و القضايا “العامّة” التي تتجاوز في أثرها جميع المحفوظ و المألوف حول “الشّخص” و “خاصيّاته” ، و الفرد و علاقاته النّوعيّة ، ليشكّل الوضع “العامّ” اختراقاً لكلّ الشّؤون الشّخصيّة و الخاصّة ، و عبوراً لحدود التّصنيف .

12▪ في “الشّأن العامّ” و “الأمور العامّة” و “المسائل العامّة” ، و قضايا “الرّأي العام” ، لا تُطرح المسائل الاجتماعيّة و السّياسيّة المعلّقة تاريخيّاً ، فهذه مكانها في الفلسفة السّياسيّة و فلسفة السّياسة و الأخلاق السّياسيّة و المؤسّسات الثّقافيّة و التّنظير المعمّق ذي التّقاليد و الأصول الثّابتة و المتطوّرة بتراكم و اطّراد ..

كما أنّها لا تُطرح المسائل و القضايا المتعلّقة بالهويّة و الجذور و الأصول و آفاق التّحوّلات و التّغيْرات و التّغييرات و التي هي مرتبطة مباشرة بدرجة الانفتاح الاجتماعيّ التّاريخيّ و درجة التّطوّر و القابليّات الموضوعيّة التي تتيح إزاحة المعوّقات من أمام تيّارات عواصف التّغيير ، بل و هي لا تنتظر إشارات المرور التي لا تصمد ، أصلاً ، أمام عواصف و أعاصير التّغيير .

إنّ أقصى ما يُمكن أن تثيره القضايا الاجتماعيّة و السّياسيّة العامّة و قضايا “الرّأي العامّ” ، إنّما هو التّشديد على ظاهرة أزفتْ ساعة انبلاجها و تدحرجها الجلموديّ الصّلب ؛ و لكنّها لا يمكن ، و لا بحال ، أن تخلق “الظّاهرة” المفارقة ، إذ أنّنا لن ننسى أنّنا ما نزال ماثلين أمام قضيّة “رأي” ، و حسب ؛ و هو الرّأي الذي حكمنا عليه ، كما حكمت عليه “المعرفة” العالية ، بأنّه حمّالٌ للخطأ و الصّواب ..

هذا و لا تزيد في هذا “الرّأي” ، يقينيّة و عجائبيّة و كرنفاليّة ، لا الحماسة و لا الاستعراضيّة الأدبيّة التي تحيط بها ذكريات “الانطباعات” من كلّ جهاتها و الخِلال .

  • ثالثاً – الخبثُ الفرديّ و الخبث الفكريّ و الخبث الاجتماعيّ ، و صناعة رأي الحُشود :

13▪ يجري ، بحكم الطّبيعة الاحتكاريّة و الغريزة الأنويّة و الأنانيّة للأفراد ، أن يعمل البعض على استثمار قابليّات الحشود العواميّة للتّعاطف و العاطفة و التّأثّر الحماسيّ المرتبط بإثارة الغرائز الشخصيّة أو الجماعيّة أو الاجتماعيّة ، بحيث يصنع أولئك الأفراد من المجتمع أدواتٍ للتّحشيد حول حالة اعتباريّة شخصيّة تُغري الأفراد ، بخبث مدروس ، في الانتشار و الشّهرة و الاشتهار المزيّف القائم على استثمار و تشغيل أدنى و أبسط مشاعر العامّة ، و بخاصّة بما يتّصل بمظلوميّة العامّة أو محروميّتهم من جانب أو أكثر من جوانب العدالة الاجتماعيّة و السّياسيّة ، و لكن من دون أن يقدّم عشّاق الشّهرة من الأفراد العابثين بمشاعر العامّة أيّ حلّ أو دفع نحو أهداف العدالة الإنسانيّة التي يوحون بها لأصحاب الحاجات المختلفة من البسطاء و الحشود .

14▪ غالباً ما يعمل محبّو الشّهرة لذاتها .. المصابون بعوز الثّقة بقدراتهم العقليّة و الفكريّة ، بخبث مفضوح بالنّقد العقلانيّ ، على تطعيم و خلط شعاراتهم الدّيماغوجيّة ( تملّق العامّة و استعطاف الحشود و خيانة العدالة ) بقضايا فكريّة تقليديّة ، اجتماعيّة و سياسيّة و ثورويّة و فوضويّة ، مضمونة الإثارة في التّجربة و مؤكّدة القدرة على التّحشيد العامّ ، باعتبار الميل الأنتروبيّ الاجتماعيّ إلى “الفوضى” ..

و هذا ما يساهم ، مضافاً إلى غريزة الجماهير ، في تعزيز السّيكولوجيا الاجتماعيّة و توجيهها نحو أغراض سياسيّة ، تخدم الأفراد الذين أثاروها و لا تخدم الحشد السّاذج الذي وقع ضحيّة استغلال أولئك لحاجاتهم و مشاعرهم و طموحاتهم ، التي عمل أصحاب خطاب “الرّأي العامّ” على تصويرها كأهداف و غايات معرفيّة و إنسانيّة أخيرة و منقذة ..

و هذا ما يؤلّب الحشود حول أفكار المستثمرين الانتهازيين الممجوجة و يجعل منها “رأياً عامّاً” موهوماً و كاذباً و مزوّراً و مزيّفاً بشعبيّة واسعة النّطاق مؤلّفة من سذاجات الجماهير المتجذّرة في سيكولوجيا القطيع ، في الاجتماع .

و في هذه الأثناء تتحوّل ، تلقائيّاً ، الطّموحات الفرديّة الموتورة من هواجس شخصيّة و خاصّة إلى قضايا مزيّفة من “قضايا الرّأي العام” ، بحيث يكون “الرّأي العامّ” نفسه ضحيّة من ضحايا الانتهازيين و الوصوليين .

15▪ ليس من الأمور المعقّدة أو الصّعبة صناعة رأي الحشد و توجيهه إلى مصبّ الاستثمارات الانتهازيّة الفرديّة و الشّخصيّة ، إذ تكفي بضع كلمات أو عبارات مؤدلَجة من قبيل “الدّيموقراطيّة” و “الحرّيّة” و “العلمانيّة” .. و “المعارضة الوطنيّة” ، إلخ ؛ لتصنعَ هيجاناً غرائزيّاً يمكن تمييزه بسهولة و تفريقه عمّا يُسمّى “الرّأي العامّ” ، ذلك أنّ للرّأي العام مواصفاتٍ و أسساً و مقوّماتٍ سوف نبحث فيها ، بالتّعريف الموجز ، بعد قليل .

  • رابعاً – تصنيف “القضايا” ( الحدود ) في الشّمول و الاشتمال :

16▪ قبل أن نعرّف “الرّأي العامّ” و “قضايا الرّأي العامّ” ، فإنّ من الضّروري أن نلقي نظرة سريعة على “القضايا” نفسها من حيث “حدّيّتها” ، أو محدوديّتها و زيفها ، أو من حيث شموليّتها و اشتماليّتها و استغراقها للهمّ العامّ .

17▪ إنّ كلّ مسألة ( أو مشكلة ، أو إشكاليّة ) تبلغ مبلغ “القضيّة” أو “الحدّ” بما تعبّر عنه من جذريّة فكريّة و عقلانيّة في ظرف من ظروف الزّمان و المكان ، لتشكّل قاعدة ثابتة لتجاوزها ، هي نفسها ، إلى قضيّة “أعمّ” و “أشمل” ، تفتح الأفق أمام العقلانيّة التّاريخيّة الجديدة التي تشتمل على “همّ” اجتماعيّ و سياسيّ جديد و متطوّر يفتح المغلق من الأبواب التي تصادف السّيرورة البشريّة ، نحو مغاز و أهداف إنسانيّة تشتمل على غاياتها الموضوعيّة . هذا و لو أنّ غموض “الغاية” الوجوديّة الإنسانيّة ، بذاته ، يبقى أمراً تقديريّاً و تأمّليّاً ، و لكنّه يشكّل أحد المشتملات الدّافعيّة و الحافزيّة في “القضايا” التي تتجاوز ذاتها باستمرار .

و حيث تشكّل الدّافعيّة الموضوعيّة و الواقعيّة سبباً شموليّاً للقضايا العامّة ، فإنّ حيويّتها و ديناميّتها لا تكتمل إلّا باشتمالها على “الهمّ” العامّ منظوراً إليه من زاوية الغاية المحفّزة للعمل العامّ في شأن “القضايا” العامّة ، عندما تعترض هذه “القضايا” حدودُها نفسها ، و ليكون من الممكن أن تتجاوز القضايا حدودَها الوضعيّة المرتبطة بالمعرفيّة الظّرفيّة ، التي حلّتْ في قلب التّردّد و الجمود و استعصاء “الحدود” .

18▪ و على أنّ مقياس قضيّة الرّأي العامّ هو شموليّتها الإحصائيّة الكمّيّة الأفقيّة في المجتمع و السّياسة ، إلّا أنّ ما يجعل القضيّة قضيّة رأي عامّ محسومة ، إنّما هو نوعيّتها التي تلبّي خطّة التّطوّر الاجتماعيّ و السّياسيّ السّلميّة الخالصة ، من دون أن تكون ملغومة بالنّوايا الفرديّة و الشّخصيّة التي تطمح إلى أن تكون بديلاً عن همّ “العامّة” ، و لو لم تدرك هذه “العامّة” مصلحتها الحقيقيّة في التّغيير .

يتبع هذا الأمر طريقة الهندسة الاجتماعيّة “العامّة” على أسس شاملة و اشتماليّة ، مع إهمال الفروق المحدودة و غير الحدّيّة للمزاج الجماهيريّ ( القطيعيّ ) ، حيث تختلف “المحدوديّة” عن “الحدّيّة” بأنّ الأولى مغلقة على ذاتها و تحمل في بذورها فَناء “القضايا” و فناء أصحابها ، بينما تنفتح الثّانية على موضوعيّة تفجير “الحدّيّة” الوضعيّة على أسس موضوعيّة صنعت من “الحدّ” نفسه ، في التّعريف ، قضيّة عامّة جديدة و أصيلة .

و هكذا فإنّ “النّوع” يجب ، دوماً ، أن يحرّك “الكمّ” ، و ليس العكس ، إذ “الكمّ” يصبح لازماً عندما تتوفّر كفاية “النّوع” الكفيل بالتّجديد . و هذه معادلة لا يجري الانتباه إليها ، عادة ، عند تصنيف “القضايا” تصنيفاً علميّاً و عقلانيّاً ، أو عند تعيير “القضيّة” الواحدة على أساس ما إذا كانت قضيّة “فرديّة” أو “شخصيّة” أو “خاصّة” و محدودة و انغلاقيّة ، يهدف أصحابها إلى طنطنة الشّهرة و قرقعة الرّيادة ؛ أم أنّها ، بالفعل ، هي إحدى “قضايا” الرّأي العامّ المدروس دراسة معرفيّة قبل اجتياح الحماسة القطيعيّة له و لو بحدود قصوى أو محدودة .

  • خامساً – دالّات و دلالات “قضايا” الرّأي العامّ :

19▪ لا مانع ، الآن ، من التّعريج على “تعريف” الرّأي العامّ و “قضايا الرّأي العامّ” ، و كيف يصبح شخصٌ ، بعينه ، “قضيّة رأي عامّ” .. و ما إلى ذلك من “حقائق” .. و أو مغالطات .

20 ▪ – أ – لا يمكننا تعريف “الرّأي العامّ” بعدد الأفراد أو السّكان الملتفّين حول “القضيّة” التي يتضمّنها هذا “الرّأي” ، إذا أخذنا باعتباراتنا تنوّع و تفاوت أغراض و أسباب الالتفاف حول خطاب اجتماعيّ أو ثقافيّ أو سياسيّ ، و تباين أهداف أفراد المجموعة الواحدة أو المجموعات من الإنحياز لهذا “الرّأي” و تبنّيه تبنّياً لا محدوداً .

فالبعض يحدوه في ذلك الشّهرة الشّخصيّة و الاجتماعيّة ، و الانتهازيّة السّياسيّة التي ـ قد – تؤهّله ليكون “أيقونة” فارغة و قدوة مزيّفة لرعاع الشّعب و ساذجي الجماهير و وحوش القطيع .

و أمّا البعض الآخر فإنّه قد يُضمر أهدافاً مختلفة عن مضمون و عناصر “القضيّة العامّة” ، و لا تشكّل هذه “القضيّة” ، بالنّسبة إليه ، أكثر من معبر تخريبيّ يمهّد له زيادة نسبة “الفوضى” العامّة ، لنراه ينقلب على مضامين “القضيّة” العامّة ، نفسها ، لتحقيق برنامج مغاير شخصيّ أو خاصّ أو جمعيّ ، شكّلت تلك “القضيّة العامّة” جسراً له ، سيحرقه بعد أن يتجاوزه بقليل .

و تاريخ “الكومونات” و “العامّيّات” و “الثّورات” العالميّة في التّاريخ الحديث و المعاصر ، حافل بأمثلة واضحة و معروفة في هذا الإطار .

فيما يطمح البعض الثّالث إلى مجرّد إحداث “الفوضى” و تغذية الظّروف الغامضة التي يجري استثمارها بشكل أو بآخر ، و بوسيلة أو بأخرى ، و لغرض أو آخر ، كلّ ذلك في سبيل “الهدم” المتعمّد الذّاتيّ ، لما يوفّره هذا “الهدم” العامّ من ظروف الاستئثار و الاحتكار الاقتصاديّ و السّياسيّ .

و يبقى البعض الأخير من أولئك النّوعيّة الأنانيّة المحدودة من المثقّفين و القادة الكاريكاتيريين الذين يهدفون إلى الانتفاخ و التّورّم الذّاتي لأسمائهم ، مع العلم أنّه يُشكّ في أنّ ذلك الهدف هو هدف خالص و نهائيّ لهذه الّلوثة الشّخصيّة الحاكمة لسلوك هؤلاء .

20 ▪ – ب – كثيرة هي التّعريفات و المقاربات التي تتناول “الرّأي العامّ” بالشّرح المختزل و المعبّر بتفاوت عن جوهره ، و عديدة هي في تاريخ “علم الاجتماع السّياسيّ” .

لقد عرّف البعض “الرّأي العامّ” بأنّه “اتّجاهات و مواقف النّاس إزاء موضوع يشتغل بالهمّ ٬ شرط أن تكون هذه الجماهير في مستوى اجتماعيّ واحد” .

و عرّفه البعض بأنّه “ثمرة الجدال و النّقاش بين الأفراد حيث يسود أحد الآراء على بقيّة الآراء لنقل الجماعة إلى رأي جديد” .

فيما ذهب ( أندريه لالاند ) ، صاحب “الموسوعة الفرنسيّة” المعروفة إلى ” أن الرّأي العامّ هو حالة فكرية تكمن في الاعتقاد أن ادّعاء أو طرحاً هو صحيح ، و لكنْ مع القبول بأنّنا قد نكون على خطأ ” .

في حين قيل ” إنّ الرّأي العامّ هو الشّعور السّائد داخل جماعة اجتماعية ، يرافقه بشكل واضح عند الافراد ، انطباعٌ بأنّه شعور مشترك فيما بينهم ” !

هذا في حين أنّ ( دو فيفات ) ، مدير معهد الصحافة ببرلين ، يرى أن “الرأي العام ـ كوَحدة أو درب لخطّ سير الجماعة بأكملها ـ لاوجود له ـ غير أن هناك رأياً ظاهراً من بين آراء الجميع ، غالب على ما حوله من آراء .

أمّا أن يقال إنّ هناك رأياً عامّاً واحداً يعبّر عن إرادة الجماعة كلها ، و يقرّه كلّ فرد فيها فهذا لا وجود له” .

20▪ – ج – يمكن ، إذاً ، أن نقول إنّ “الرّأي العامّ” هو ظاهرة سيكولوجيّة اجتماعيّة و ثقافيّة و سياسية متغيّرة و متقلّبة وغير ثابتة .

و هي تتألّف من اختلاط المشاعر و الانطباعات و الآراء و المواقف و الأمزجة الظّرفيّة و غير النّهائيّة ، التي تطبع الحشود بطابع “مشترك” و متفاوت و متباين ، بحسب ما إذا كان محورها يقع في مكان ما من مركز الشّخصيّة الفردة أو في أحد أطرافها أو هوامشها و أطيافها غير المستقرّة و غير الواضحة .

20▪ – د – تتألّف “دالّات” الرّأي العامّ و مكوّناته القَبْليّة التّحليليّة الدّافعة و المُحرّكة من خليط من “الذّاتيّات” و “المصالح” و “الأنانيّات” و “الاستبداديّات” و استسناح الفرص المركّبة التي تجمع بين ظاهر القضايا الاجتماعيّة و السّياسيّة العامّة و “حقيقة” القضايا الفرديّة و الشّخصيّة و الخاصّة و الانطباعات المؤقّتة و المشاعر العابرة و الأحاسيس الغرائزيّة ، و الّلاأخلاقيّة السّياسيّة ، و الانتهازيّة التّاريخانيّة و الاتّكاء على هموم و أوجاع آلام “العامّة” ، بقيادة أفراد يستثمرون كلّ ذلك لتحقيق مآرب محدودة و موصوفة بأغراض و أهداف و غايات مصطنعة و كاذبة ، يقوم فيها قادة أمزجة الحشود باستغلال حاجات العامّة و ومخاوفهم و العبث بأنبل وجدانيّات الجماهير ، بحيث نكون أمام مزاج عامّ تختلط فيه الرّغبة بالمُحال ، و الوعود بالأكاذيب ، لينتهي الأمر باستعباد جديد متطوّر للعامّة يحلّ محلّ اضطهاد قديم ، في دوّامة من الضّياع العامّ الذي تعيش فيه الحشود على مرّ تاريخ السّياسات العالميّة التي تتّبعها الدّول إزاء المواطنين ، و “قادة الرّأي” إزاء الهامشيين و المهمّشين ، و زعماء الفعّاليّات و الأحزاب و التّجمّعات و الجماعات و الظّاهرات الجمعيّة و الاجتماعيّة ، و المهرّجين السّياسيين و الانتهازيين التّاريخيين ، إزاء المُريدين .

20▪ – هـ – و يمكن إثبات “دلالات” قضايا “الرّأي العامّ” الكاذبة من خلال مراقبة دور “الإعلام” في صناعة “المزاج” العامّ للحشود ، و هو الذي تسمّيه وسائل الإعلام و الاتّصال بإسم “الرّأي العامّ” ؛ كما من خلال ملاحظة أهمّ صفات هذا الشّيء الذي يُسمّى “الرّأي العامّ” ، و التي تتراوح ما بين :

اجترار المثيرات و المستفِزّات و إثارة عواطف و غرائز المزاج السّيكولوجيّ القطيعيّ و الإطناب في تكرار الدّعاية بأشكال برّاقة و مختلفة و متعدّدة ..

و بإثارة الشّائعات التي تعتمد على التّشهير “الأدبيّ” و الارتجاليّ بالخصوم الاجتماعيين ، السّياسيين و الثّقافيين و الشّخصيين ..

و بالإيحاء بواقع مليء بالأزمة أو بالأزمات المفتعلة التّجسيم ..

و بحرف الانتباه عن القضايا المصيريّة الحقيقيّة عن طريق إشغال اهتمام الحشود و المريدين بما يلامس الأقرب من الدّونيّات الحسّيّة و الشّعوريّة و الّلحظيّة الواقعيّة و الكاذبة ..

و أخيراً عن طريق إثارة أشكال مصنّعة بإتقان من المخاوف و الرّعب و القلاقل بين المجموعات و الأفراد المتمايزة .. و تصويرها على أنّها مصدر الإرهاب الحقيقيّ ، في الوقت الذي تُطمَسُ فيه مصادر الرّعب و الجريمة التي هي أقرب ممّا نتصوّره جميعاً ، و التي تقع في أكثر الأماكن أمناً و أماناً على ما تصوّرها الثّقافة و المؤسّسات !

  • سادساً – قضيّة الرّأي العامّ :

21▪ يأتلف جوهر العمل الاجتماعيّ و السّياسيّ على مفهومٍ – حقيقةٍ مركزيّةٍ ، منذ نشوء التّجمّعات البشريّة الأولى في التّاريخ و الحاجة إلى سياستها ، و حتّى اليوم ، و هو ( أو هي ) السّيطرة على الأفراد و الجماعات غير المركزيّة بالنّسبة إلى مشروع السّياسة و مشروع الأفكار المنافس و البديل .

إنّ المرجعيّة الفكريّة الوحيدة التي يمكن اعتمادها في إطار دراسة ظاهرة “الرّأي العامّ” و “قضايا الرّأي العامّ” ، هي – إنْ لم تكنْ مفقودة في واقع الأمر ! – تحقيق المكاسب المادّيّة و الرّمزيّة ، الخاصّة و الشّخصيّة ، في الثّروة و “السّلطة” ، من قبل “الأقلّيّة السّياسيّة” ، بواسطة استخدام “الأكثريّة” الاجتماعيّة و استثمار نوازعها و طاقاتها و عناصرها بعد تحويلها إلى أدوات .

و ما يُقاتلُ على “النّفع العامّ” و “المصلحة العامّة” هو ليس أكثر ممّا تتيحه تلك السّياسات الأقلّويّة ، أينما وجدت ، في “الدّولة” أو في “المجتمع” ، من فُتات و هوامش و بقايا تلك “المصالح” التي تكفل حفظ النّوع البشريّ ، للعمل على إعادة إنتاجه كأدوات لتحقيق الأغراض السّياسيّة للقوى الأساسيّة السّيّدة و الفاعلة في الدّولة و المجتمع .

و من أجل ذلك تقوم قوى “السّيطرة” بخلق مرجعيّات ثقافيّة مساومة و ممالئة ، تضيفها إلى الثّابت من جمود حركة الطّموحات العامّة و معوّقات ذلك الطّموح لصناعة منظومة متكاملة من الحدّ و الكبت و القمع و السّخرية من هموم المجتمعات البشريّة ، تحت عنوان الدّفاع عن قضايا العامّة ، و ذلك بتحويل المسائل و الطّموحات الفرديّة المحمومة و المشوّهة إلى “قضايا رأي عامّ” ، بما في ذلك تقدّم بعض الأفراد إلى واجهة المشهد في التّناقض بين المجتمع و الدّولة كحماة للمجتمع و أبطال تراجيديين ( كوميديين و مهرّجين ) ، يندغمون في شعاراتهم المزيّفة و يقدّمون أنفسهم كأضاحٍ في مسرحيّات و طقوس هزليّة ، يُظهرون فيها أنفسهم كضحيّة للمجتمع و ضحيّة لقضايا العامّة و الجماهير ، فيخلقون من أنفسهم “فزّاعات” خائفة .. و قد تحوّل كلّ منهم إلى “قضيّة رأي عامّ” .

22 ▪ وغالبا ما لا يستطيع عقل الجماهير ، تدبّر السّياسات – المؤامرات الاجتماعيّة و السّياسيّة التي تحاك ضدّها ، و لو كان في هذا الأمر شيءٌ من الصّعوبة بالتّصريح به ، على الملأ ؛ غير أنّها “الحقيقة” التي توضّح ارتباكات القطيع في المنعطفات الاجتماعيّة و السّياسيّة في إطار “هندسة المجتمعات” التي تحتاج ، أوّلاً ، إلى “هندسة الإجماع” و الذي لا يكون إلّا بخلق مهزلة “الرّأي العامّ” و “قضايا الرّأي العامّ” و تلميع أشخاص مؤهّلين بالفطرة للتّهريج ، كضحايا يتحوّلون ، هم أنفسهم ، و يحوّلهم “الرّأي العام” ، نفسه ، إلى “قضايا رأي عامّ” .

23▪ كان ( غوستاف لوبون ) سبّاقاً إلى قراءة و تحليل “سيكولوجيا الجماهير” ، ليأتي بعده ( سبغمند فرويد ) ، بعد قرابة ربع القرن ، ليؤكّد ، بالعموم ، صدقيّة ( غوستاف لوبون ) حول أمر “الغريزة الجماهيريّة” الّلاواعية ، و لو من منطلقات و مبادئ تختلف بين ( فرويد ) و ( لوبون ) ، و صناعة “الرّأي العامّ” الذي يخلق “الأبطال” المزيّفين الذين يتحوّلون ، هم أنفسهم ، إلى “قضايا عامّة” أو إلى “قضايا جماهيريّة” .

يتّفق ( فرويد ) مع ( لوبون ) ، و في كتابين يحملان العنوان نفسه ، واحد لكلّ منهما ، و هو “علم نفس الجماهير” ، يتّفقان – مع فوارق المبادئ و المنطلقات و الدّوافع ، بينهما – على أنّ الدّافع السّيكولوجيّ الّلاهوتيّ – الكهنوتيّ ، هو واحد عند الجماعات المتديّنة و عند الجماعات غير المتديّنة ، في خلق “الأصنام” و “الأبطال” و “الأنبياء” المزيّفين ، و رفعهم من مستوى “العامّة” الحضيضيّة إلى مستوى “النّموذج” و “المثال” ، بما يمتلكه هؤلاء من قدرة انتهازيّة على جعل “العامّة” يتبنّون قضاياهم بواسطة التّنويميّة المغناطيسيّة و التّمويهيّة الأخلاقيّة التي تداعب لاوعي الجمهور ، بالّلعب على براءته و سذاجته الدّافعيّة ، في الّلاشعور الفرديّ الذي استحال إلى حالة عامّة ، إلى حالة “قضيّة عامّة” .

فالمتديّنون و غير المتديّنين ، يتحوّلون في إطار سيكولوجيا الجماهير (القطيع) إلى عبيد للإيحاء الذي يشكّل الخلفيّة المثيرة و التي يتمكّن أصحابها من الأفراد الانتهازيين ، من جعلها قضيّة “رأي عامّ” بالاعتماد على محدوديّة العامّة عندما تدخل في ظروف الهيجان .

و إذا كان أكبر العلماء – كما يقول ( لوبون) – و أكثرهم عبقريّة لا تمكن مقارنتهم بالوعي مع “الإسكافيّ” ، فإنّ هذا الفرق الهائل في الوعي يضمحلّ و يندثر لصالح “الإسكافيّ” عندما تتحكّم غريزة الجماهير في الحشد ( القطيع ) ، بل و يتفوّق فيها “الإسكافيّ” على “العالِم” في ظروف الحشد التي تحوّل “الجميع” إلى عبيد في قضايا ما يُسمّى “الرّأي العامّ” .

24▪ ” إنّ الحياة الواعية للنّفس البشريّة لا تشكّل إلّا جزءاً ضئيلاً جدّاً بالقياس إلى حياتها الّلاواعية ” ، كما يؤكّد ( غوستاف لوبون ) [ راجع : غوستاف لوبون – علم نفس الجماهير ] .

و من هذا المبدأ الثّابت مع تطوّر علوم الإنسان ، فإنّ ما يدّعيه اليوم – أو ما يحاولون الإيحاء به .. – “الأشخاص” الذين يطمحون إلى تحوّلهم الاستعراضيّ الفارغ إلى “قضيّة رأي عامّ” ، من خلال مواقف “علمانيّة” و مزايدات “تقدّميّة” – و هذا ما كان يحصل غالباً في تاريخ هذه المهازل – فإنّ قناعات الجماهير تتّخذ دوماً أشكالاً دينيّة ( لوبون ) في عاطفة جماهيريّة يمكن أن تتحوّل ، أحياناً ، إلى فوضى جارفة .

” فالجماهير تخلع على الأيديولوجيا السّياسيّة التي تعتنقها” .. – و أيّاً كان موقع اصطفاف هذه “الجماهير” – ” نفس القوّة المليئة بالأسرار و الخارقة للطّبيعة التي تكمن في أساس التّصوّر الدّينيّ للعالم ” .

و هكذا ” فإنّ الإنسان لا يكون متديّناً عن طريق عبادة [ كاذبة طبعاً ! ] لآلهة معيّنة ؛ بل أيضاً عندما يضع كلّ طاقاته الرّوحيّة و كلّ خضوع إرادته و كلّ تأجّج عصبيّته و تعصّبه في خدمة قضيّة ما أو شخص ما مرفوع إلى مستوى البطولة و الزّعامة” ( لوبون ) .

25▪ هذه هي “الأخلاقيّة” التي تصنع “الجماهير” ، و هي “الأخلاقيّة نفسها التي ترفع شخصاً دونيّاً و ممثّلاً هزْليّاً له طموحاته المأفونة إلى مستوى “قضيّة رأي عامّ” ، هذا مع العلم أنّ احتلال فرد من الأفراد هذا الموقع ، موقع “قضيّة رأي عامّ” ، هو ليس ميزةً تخلقها عبقريّة صامتة في الظّروف المشوّهة لشعب من الشّعوب ، بقدر ما هي تهمة سخيفة ينال فيها هذا الشّخص ثناءً مزيّفاً من واقع مزيّف و جمهور مزيّف و ظروف مزيّفة و مزوّرة و شَوهاء ؛ فيما يغيب أو يتغيّب “العباقرة” و “العلماء” في صمت الزّوايا و الأركان المظلمة و الظّالمة و لو إلى حين .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى