لا تناقض بين الإسلام والقومية العربية

بقلم : عبد الحليم قنديل

لا مسوغ لاصطناع تناقض مع القومية باسم الإسلام.

لامجال لاصطناع التناقض، والقرآن الكريم لايسند دعاة التناقض، فالقرآن لم يحصر مفهوم الأمة في نطاق العقائد الدينية فقط، والأمة في القرآن ‘هي كل جماعة يجمعهم أمر واحد .. دين واحد أو مكان واحد أو لغة واحدة أو زمان واحد’، وليس يلزم في الأمة قرآنيا أن تكون جماعة بشرية، فقد تكون من الطير أو من الحـــيوان، والأمة في اللغة مصطلح تفرع عن المادة اللغوية ‘أم’ وهي كل شيء يضم إليه ما ســواه، جاء في القرآن الكريم:

‘وما من دابة في الأرض ولاطائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم’ (سورة الأنعام: 38) وجاء في القرآن: ‘قيل يانوح أهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك’ (سورة هود: 48) وهنا الأمم بمعنى الجماعات المتميزة من الطيور أو الحيوانات التي اصطحبها نوح في سفينة النجاة، والأمم في القرآن تتعدد في الزمان والمكان يقول سبحانه:

‘ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة’ (الشورى:8).

ويقول: ‘وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون’ ( يونس :19)

وقد وردت كلمة أمة في أربع وستين آية من آيات القرآن الكريم، وحملت دلالة التميز مع اختلاف مضامين التميز، ولم ترد بمعنى التميز في العقيدة ـ على نحو قطعي ـ سوى في آيتين متجاورتين، قال تعالى: ‘إنا وجدنا آباءنا على امة وإنا على آثارهم مهتدون’ (سورة الزخرف: 22)، وقال تعالى: ‘إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون’ (سورة الزخرف:23 ).

ومعنى هذا أن المسلمين ـ قرآنيا ـ أمة بمعنى العقيدة، وأن العرب أمة بمعنى تميز خصائصهم التي تجعل منهم قومية واحدة، والقومية في اللغة مشتقة من الفعل الثلاثي ‘قــــام’ والفعـــــل الرباعي ‘أقام’ بمعنى الثبات والاستقرار في المكان، والقوم في القرآن لا يربطهم المكان فقط بل اللغة واللسان،

يقول الله تعالى: ‘وما أرسلنـــا من رسول إلا بلســـان قومه ليبين لهم’ (سورة إبراهيم :4) أي بلغة قومــــه، ويقــــول ‘فإنما يسرناه بلسانك’ (سورة مريم :97)، ويقول ‘وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا’ (سورة الأحقاف: 12 )، إذن فالوجود فوق أرض واحدة ووحدة اللغة التي هي الوعاء الثقافي روابط توجد القومية، ومن ثم يظهر أن القول بوجود الأمة العربية و القومية العربية لا يتناقض مع النص القرآني بل يصدقه .

ورغم أن مفاهيم الأمة والقومية هي اصطلاحات حديثة، ومن مواليد القرن التاسع عشر، إلا أن فلاسفة ومؤرخي العصور الإسلامية الوسيطة عرفوا الأمة بالمفهوم الطبيعي الاجتماعي لا بالمفهوم الديني فقط، يقول الفارابي: ‘إن الأمة تتميز عن غيرها بالخلق الطبيعية والشيم الطبيعية واللسان’ ويضيف المسعودي إلى خصائص الأمة الفارابية ‘وحدة المكان’، أما ابن خلدون فقد استخدم الأمة بمعنى ‘الجيل’ وهو يقدم تعريفا للأمة بأنها ‘الجماعة الشاملة التي تتميز عن غيرها بالنسب أو بالجهة أو بالعوائد والشعار أو بغير ذلك من الخصائص والمميزات’.

وفي الطريق ذاته سار مفكرون إسلاميون مجددون عرفوا بصدق انتسابهم لشعار الجامعه الإسلامية، يقول جمال الدين الأفغاني: ‘الأمة العربية هي عرب قبل كل دين ومذهب’ ويرى اللسان ‘من أكبر الجوامع التي تجمع الشتات، وتنزل من الأمة أكبر المفاخر’، ويقول عبد الرحمن الكواكبي: ‘إن الأمة قوم بينهم روابط جنس ولغة ووطن وحقوق مشتركة’ ويضيف ‘أن العرب هم أقدم الأمم وأعرق الأمم’ .

وقد تأثرت جماعات الإسلام السياسي في بلادنا بفكرة الباكستاني أبي الأعلى المودودي عن القومية، يقول المودودي: ‘إن القوميات جرت بلاء عظيما على الإنسانية، ووزعت العالم الإنساني إلى مئات وآلاف الأجزاء، وهي على الدوام متحاربة بينها لأجل ما في نفوس أهلها من العصبية’، ويضيف ‘والقومية تنشئ العصبية الأهلية في الإنسانية فكل أمة تريد اجتثاث غيرها ومعاداتها والنفرة منها لا لشيء إلا أنها أمة غيرها’، وقد صدر المودودي في رأيه الرافض للمبدأالقومي عن تجربة تاريخية عايشها، وهي تجربة انفصال باكستان عن المجموع الهندي في أواخر الأربعينيات، انفصلت باكستان على أساس ديني إسلامي مناقض للهندوكية السائدة في الهند، ومن ثم تولد عند المودودي ربط عقلي مفاده أن الانتماء الإسلامي لباكستان لا يتم إلا بنفي الهندية كمشروع اندماج قومي تاريخي، لذلك جاء رفضه للقومية باتا وحاسما ووضع فيها كل نقيصة، وأحالها إلى محض انتساب عرقي عنصري، وجاءت تجربة انفصال بنغلاديش ( باكستان الشرقية سابقا) عن باكستان الغربية لتؤكد خطأ المودودي، فبنغلاديش وباكستان يربطهما الدين، لكن لانتفاء روابطهما القومية ـ اللغة والجغرافيا .. الخ ـ وضع نهاية للوحدة بينهما، ومن ثم فلا معنى لتصديق نظرية المودوي وهي حصيلة تجربة انسلاخ باسم الدين أعقبتها تجربة انسلاخ باسم القومية، أما الدين والقومية ـ عند العرب ـ فلهما معنى توحيدي لا انسلاخي.

القومية العربية دعوة توحيد يعز العرب ويعز الإسلام، ولا يجوز أن توصف حركة القومية العربية بالانفصالية أو العداء للإسلام لمجرد أنها عارضت الخلافة العثمانية وسعت لدولة عربية مستقلة، يقول المفكر الإسلامي التجديدي أحمد كمال أبو المجد ‘إن موقف هؤلاء القوميين كان موقفا إسلاميا مستنيرا في مواجهة موقف متخلف عقيم تصور أن اللافتات التي ترفعها الدولة العثمانية المتداعية قادرة وحدها على صنع المعجزات لحساب الإسلام والمسلمين’. ويضيف ‘أن هؤلاء شعروا بالمفارقة الهائلة بين تحدي الحضارة الغربية الزاحفة بأسلحة العقل والتنظيم والقوة العسكرية وبين ضآلة ما أعدته الدولة العثمانية لمقاومة الزحف، بعد أن تدثرت بالجمود وتزملت بالانغلاق، وبعدت عن الاجتهاد والنظر وفقدت مقومات الحركة الفعالة التي لا يصلح غيرها لمقاومة الزحف الغربي’. أما حركة القومية العربية المعاصرة منذ الخمسينيات فلا يمكن أن توصف بأنها حركة تمزيق للوحدة الإسلامية لأن الواقع القائم ليس واقع تجمع إسلامي سياسي، وإنما رفع القوميون دعوتهم ـ كما يقول أبو المجد ـ في وجه واقع التجزئة الإقليمية والانحصار داخل حدود الدول والكيانات العربية المجزأة، والتي يعكس أكثرها ثمرات جهد استعماري واع أو صراعات حكام تنازعوا أسلاب شعوبهم في مرحلة من مراحل التاريخ .

ورابطة القومية العربية لها اوثق الصلة بالإسلام، إنها ثمرة مباركة لثورة الدين الإسلامي وتاريخ حضارته، كانت المنطقة قد شهدت قبل الإسلام تفاعلا لغويا ثقافيــــا وهجرات بشرية ومعارك مشتركة ضد مخاطر خارجية، ثم أتى الإسلام، ومعه الخلق العربي الجديد والمكتمل، توحدت بالإسلام قبائل الجزيرة العربية، ثم امتدت فتوحاته إلى دمشق (635م) وبقية الشام قبل نهاية (640م) ومصر والعراق ( قبل نهاية 643م) والمغرب العربي كله (698م)، رفع الإسلام عن شعوب المنطقة عبودية الفرس والروم، وألغى ما بينهما من حدود وقــــدم لها لغة مشتركة ونظما مشتركة للحياة الاقتصادية والســــياسية، ثم انصهر الجميع في معارك مشتركة ضد مخاطر خارجية أظهرها الخطر الصليبي والمغولي، وكانت الحصيلة: ان صنعت الأمة العربية بخصائصها الموحدة التي جعلت منها قومية متميزة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى