ما تأخّر من القول.. ليس نهاية القول

هل نبتدئ من المشهد الأخير بعد رحلة الألق الذي كان، منذ عام 1968 في” شواطئ لم تعرف الدفء”، ثم بعد أن تكوّم كل هذا الخراب؟ …

لماذا.. أيها الشاعر حميد سعيد.. هل اشتعل القلب شيباّ، أم اشتعل القلب حزناً على الذي قيل، والذي كان، وبقيت جمرات تلوح هنا وهناك.. نثار من بقايا الأمس، تتطاير بين صفحات الكتاب وترسم لوحة للخراب والوحشة، ويبقى في هذا النثار صور تلوح وتتماوج من خلف ستار الأمس.. يتجاذبها حنين يخفق ما بين الذاكرة وذاك الذي اشتعل شيباً، لكن ” لا نجمةٌ يستدلّ بها في الطريقِ إلى مدن الأمسِ”..

هي الحرب، وما خلفته من جروح وانكسارات في البلاد والعباد.

لن أسأل لماذا، ولكن كيف يستطيع الشاعر أن يحمل على كاهله كل هذا الوجع، لكأنه الجبال، لكأنه بقايا نهر يجف.. ويتصاعد أنينه بين السطور. فأين، أين تلاشى”عنفوان الحرائق”.. ولهيب الشعر والألق.. وساد الصمت فوق الرماد.

أما تزال تنتظر ذاك الشجر البابلي، تاريخ الوطن، الذي رحل مع الذين رحلوا وبقي المغني..:

ظلّ المغني يواصل في آخر الليلِ/ ما كان في أولّ الليلِ/ لكن إطلاقةً متوحشةً/

دخلت بين ورد مقام الصَبا../ وغصون مَقام الحجازِ/ فما عاد يعرفُ كيف يلمُّ نثار مواجِعِهِ/ وطواه الغيابْ

يواصل الحنين والأنين، وما زال يحدق في لوحة تتجاذبه ولا يخلص من أسرها، لوحة يرى فيها كل الذي كان. لوحة تلمّ كل تلك الأنداء المبعثرة وتقطرها داخل الحروف.. يا لحميد، لكأنه يرثي كل ما تبقى من الصور، ولكأنه يرسم المشهد الأخير في اللوحة.

لقد أطاح الخراب بكل ما في الوطن من جماليات المكان والزمان، من زمان المرأة والشجر والمبادئ التي كان يحملها ذاك العجوز اليساري الذي لم يعد له ما يتحدث عنه: /إذ اختطف الغجر العابرون.. نجمته/  ثم أحلام الشعراء الذين أرادوا مُلكاً، لكن / ومات امرؤ القيس/ كان وحيداً/ وقد أنكرتهُ قصيدتُهُ وحبيبتُهُ والبلادْ/ وحلّ التأويل في كل الصور في محاولة لاستعادة بعض الذي كان. فها هي المرأة تعود إلى الحيّ:

تعود مغنّية الحيَ بعد غيابٍ/ إلى الحيِّ/ تبحث عن وترٍ/ سلبتهُ الأعاصير من عودِها/ كلّهم رحلوا../ منْ ستسألُ عن وترٍ/ سلبته الأعاصيرُ من عودِها

ثم الطفلة التي كانت تبيع الأشياء لرواد المقهى والتي لحقها القهر أيضاً:

لقد كبرتْ / حيثُ يجلسُ كلّ صباحٍ../ تمرُّ الصبيّةُ.. يسألها أو يكادُ../ عن طفلة الأمسِ / تشغله ببضائع.. لا نفعَ فيه/ تبيعُ له ما تشاءُ.. لا ما يشاءْ

ثم تغيب وتغيب لتأتي حاملة طفلها.. وتقول:

كنتَ أباً طيّباً / وكل الذي كان بيني وبينكَ / يا سيدي.. أننا فقراء

وهكذا كل النساء يحملن عبء الحياة بعد أن غدرت بهن الحياة. وحتى أمه التي:

كان الزمان يدورْ / وتوقّفَ مذ أطفأت أمه نار تنورها../ صار خبز البلاد/ بارداً../

وكساه الرمادْ/.. أم تلك النساء اللاتي” يتحررن من فقرهن/ بما كشف الليل.. مما اكتنزن بأجسادهن../ من ذهب الرغبة../ حتى إذا فُتح الباب عند الصباح../ كان الكلام المباح/

فهل كل ما كان” طواه الغياب وسارت به الذاريات إلى ملكوت الغياب”، وأن” الأناشيد صارت رمادا”.

هذا ما نتوهمه.. لكن وكما قال الرجل العجوز” إن أبهى النساء/ تُخرج الأخضر الذي اختطفته ليالي الشتاء/. ورغم رحيل المرأة من الزمان والمكان، لكنها تعلق في مكان ما، وتجر الزمان لتعود وتقيم في القصيدة. فالعكازة والشيخ والغزالة، وحتى رجل في السبعين.. وسيدة في… ما هو إلا من ذاك الوهم، لأن جذوة الحياة ما تزال مشتعلة من خلال إيقاظ هذه الذاكرة.. وما تناثُر النقط والبياض بين السطور، إلا محاولة لاسترجاع تلك القصص الجميلة التي كانت وما رحلت. فهذا الرجل في السبعين/ رجل في السبعين.. وسيدة في…؟/ يلتقيان../ أتعرفني..؟/ يفترقان../.. صمت معبأ بالكلام الغائب.. ويواصل الشجن.. فيقول/شِخنا.. وتغيرت الدنيا/ إلا خفق عباءتها.. ظل كما كان/

نعم ” خفق عباءتها” المتوهج عبر الحاضر وليس الماضي المندثر.

وأرى بأن كل ما كان، هو حاضر في ذهن الرجل ووجدانه.. وتأتي فاتحة الديوان القاتمة لتوحي بأن كليهما شارفا العجز وأنهما في” المشفى”، فالمرأة تحمل عصاها، وفي اللوحة الأخرى يتكئ الرجل على عكازته” التي لا مثيل لها في البلاد”، يحدثها/ فمذ جفّ ينبوع أحلامه في سنين شداد/ لم يجد من يحدثه/…./ يتوكأ../ يسمع وقعا على حجر الشارع../ أهو وقع خطى عابر؟/ أم صدى نقرات درابك أمس بعيد؟/…/ ليس من رقة في الحنايا.. ولا ألق في العيون…/..

لكنها الغزالة./ مذ تعلقها../ والغزالة تفتح بابا على الريح../ توقظه حين يغفو.. وتدخله في شذاها/…/ هل يعود إليه صباهُ إذا ما التقاها؟/…

تلك التي/في بيتها ينزل الدفء ضيفاً.. ويسكنه/ إذ تطوّقهُ بالحنان../ وتغطي فِراشاً يشاركها فيه.. بالزعفران/

لكن.. سيبقى باب الريح مفتوحا لينفذ منه الحنين والشوق والحضور البهي.

وكانت في ذهني وأنا أقرأ الديوان الجميل أبيات من قصيدة الشاعر ت.س. إليوت “الأرض اليباب”: في هذه الحفرة النخرة بين الجبال/ في نور القمر الخابي، يغني العشب/ فوق القبور المنقلبة، حول الكنيسة/ ثمة الكنيسة الخالية لا تؤمها غير الريح،/ لا نوافذ فيها، والباب يتأرجح…،/ العظام اليابسة لا تؤذي أحدا/.

لكن ” غزالة” حميد سعيد ستبقى تفتح باباً على ريح جميلة. وما تأخر من القول لن يكون نهاية القول.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى