صفقة القرن وعودة الاستثمار في المشروع القومي الديمقراطي العربي
بقلم : توفيق المديني

بدا واضحاً أن الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب تعمل على تمرير ما بات يعرف في الخطاب السياسي والإعلامي الأمريكي والصهيوني بـ “صفقة القرن”، وهي خطة السلام الأمريكية القائمة على مسارين متوازيين: التوجه الأمريكي- الصهيوني المعنون بالمبادرات الاقتصادية بورشة البحرين، لتحسين مناخ الثقة بالتسوية، والتمسك بالحل الاقتصادي لإزاحة أكبر قدر ممكن من العقبات أمام الحل السياسي، وفتح الملفات الكبرى لقضايا الحل النهائي من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
دور الأصوليات المعاصرة في تصفية القضية الفلسطينية
القارئ الجيّد لمفردات الخطاب حول ما يسمى بـ “صفقة القرن”، المطروحة بقوة من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب، والتي تقوم على سراب بناء تنمية اقتصادية في المنطقة، في ضوء “فلسطين جديدة” بدون تاريخ، وبدون مشروع للتحرير، وبدون دولةٍ وطنية، يلمس بوضوح الدور الكبير الذي تلعبه الأصوليات المعاصرة، في تصفية القضية الفلسطينية.
أولاً: الصهيونية اليهودية المتغلغلة في الكيان الصهيوني (الحريديم) والتي تنتشر في مستويات مختلفة من المجتمع ومؤسسات الكيان الصهيوني، وأصبحت تلعب دورًا بالغ الخطورة في سياسة الاستيطان، والسياسة الخارجية على امتداد الحكومات الصهيونية الفاشية المتعاقبة. وازداد خطر الأصولية الصهيونية اليهودية المتطرفة في الكيان الصهيوني مع ميلها لانتهاج سياسة الإرهاب، وتوظيف النصوص الدينية لتبرير الاحتلال، والاستيطان، والإبادة الشاملة للشعب الفلسطيني، من خلال التمسك بمعتقد الوعد الإلهي لبني “إسرائيل” بأرض الكيان الصهيوني (أرض فلسطين)، وكذلك حسبان معاداة الأغيار (غير اليهود) من الأعمال التي يثاب عليها اليهود. ويسعى الحريديم لشيطنة الآخر، حيث يصنفه على أنه عدو الله، مما يعدو مبرراً لدى الأصوليين الصهاينة لاستخدام الإرهاب نحو غير اليهود كأداة شرعية.
ثانياً: الصهيونية المسيحية أو الانجيلية
هناك اعتقاد سائد في الفكر السياسي العربي يقوم على أن العلاقة بين الحركة الصهيونية العالمية والولايات المتحدة الأمريكية توطدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حين أصبحت أمريكا قائدة بلا منازع للمعسكر الإمبريالي الغربي، في ضوء أفول نجم الإمبراطورية البريطانية.
بيد أن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، شهد عملية صعود متواصلة لظاهرة الأصولية المسيحية، بحيث لم تعد تقتصر على كونها، مكونا من مكونات الثقافة الأمريكية، والفكر الأمريكي فقط، بل كان لها تأثيراتها على الحقل السياسي، حتى ارتقت لتصبح الإيديولوجية الحاكمة والموجهة للسلوك السياسي الأمريكي، منذ إدارة رونالد ريغان. لكن مع وصول جورج بوش الابن، وبروز “مشروع قرن أمريكي جديد” على يد المحافظين الجدد، وضرورة ترجمته واقعاً استعمارياً، وما يستدعيه من ضرورة توفير الغطاء الإيديولوجي، أضحت” الصهيونية المسيحية” إيديولوجية هذا المشروع الامبراطوري وصنوه الإقليمي “إسرائيل الكبرى”.
كيف تشكلت هذه العلاقة بين “الصهيونية المسيحية” و “الصهيونية اليهودية”؟
تعود هذه العلاقة إلى بدايات الهجرة اليهودية للولايات المتحدة الأمريكية، إذ حمل أبناء المهاجرين الأوائل أسماء عبرية، وكذلك مستوطناتهم الأولى. ومن اللافت أن أول دكتوراه منحتها جامعة هارفارد في العام 1642م، كانت بعنوان “العبرية هي اللغة الأم”، وأول كتاب صدر في أمريكا كان “سفر المزامير” وأول مجلة كانت مجلة “اليهودي”.
وكان البيوريتانيون شديدي المحافظة على التقاليد العبرانية. وكان مذهبهم بمنزلة بعث للروح اليهودية القديمة، وقد تميزوا باعتمادهم الشديد على كتاب “العهد القديم”, فاعتبروه وحياً سماوياً، يغذي الفكر ويرشد نحو الصلاح… وأدى غلوهم في إجلال “العهد القديم” من الكتاب المقدس، إلى التماثل في المشاعر والطموحات بينهم وبين اليهود (شعب الله المختار).
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر أسفر الواقع السياسي في انجلترا عن ظهور جيل جديد من المسيحيين المتصهينين، اقترنت في ايديولوجيتهم الحوافز الدينية بالحوافز الإمبريالية. أو قل بدأ العمل على توظيف الدافع الديني لتحقيق مكاسب سياسية ذات أبعاد استراتيجية استعمارية. فقد أثارت كتابات المسيحيين المتهودين الموالية للصهيونية موجة من التعاطف في أوساط الرأي العام. وتوضحت تماما المزايا الاستراتيجية التي يمكن جنيها من خلال وجود منطقة نفوذ بريطانية في الشرق المتوسطي. وهكذا راحت فكرة ضم فلسطين لبريطانيا، عن طريق زرع كيان يهودي فيها بحماية بريطانية، تروق لكثيرين ممن كانوا لا يكترثون بها قبل ذلك. واحتلت مكانة بارزة في أذهانهم مسألة الترابط بين العمل البشري من أجل تحقيق إرادة الله بعودة اليهود إلى أرض فلسطين، وبين المصالح الاستراتيجية البريطانية.
وهكذا أضحت فلسطين في نظر إيديولوجية الأصولية المسيحية البروتستانتية الوطن الذي أعطاه الله لبني “إسرائيل”. وتؤمن الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية بعقيدة “هرمجدون”. يقول القس بيلي غراهام الذي ظل منذ العام 1970 يحذر من أن العالم يسير بسرعة كبيرة نحو هرمجدون، إن الجيل الحالي من الشباب قد يكون آخر جيل في التاريخ. وظل يردد في اجتماعاته الكنسية وبرامجه التلفزيونية مقولته الشهيرة: “يتساءل الكثيرون: أين تقع هرمجدون؟ وما مدى قربنا منها؟”. وفي محاولته الإجابة يقول “حسناً أنها تقع إلى الغرب من نهر الأردن بين الجليل والسامرة في سهل يزرعيل. عندما وقف نابليون في هذا الموقع العظيم، وقال:” إن هذا المكان سيكون مسرحاً لأعظم معركة في العالم”. ويضيف غراهام” إن الكتاب المقدس يعلمنا بأن آخر حرب عظيمة في التاريخ، سوف تخاض في ذلك الجزء من العالم: الشرق الأوسط”.
ولعل أهم مكونات العقيدة القيامية “للصهيونية المسيحية” هي “هرمجدون”، و”هرمجدون” هي مدينة فلسطينية تقع في سهل مرج ابن عامر، وتقع بالقرب منها عدة جبال ذات أهمية استراتيجية، جعلت من المدينة حلبة لكثير من المعارك العسكرية في التاريخ. و”هرمجدون” في معتقدات “الصهيونية المسيحية” هي الموضع الذي ستجري فيه المعركة الفاصلة والنهائية بين ملوك الأرض تحت قيادة الشيطان (قوى الشر) ضد القوى التابعة للإله (قوى الخير) في نهاية التاريخ، وقد ورد ذكرها في رؤيا يوحنا (6:16): ” فجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون”. (وحسب سفر الرؤيا يمتد سهل مجيدو من القدس إلى البحر المتوسط) يرتبط كل هذا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد مرة أخرى، لأنه شرط الخلاص”.
ثالثاً: الصهيونية الإسلامية كأحد إفرازات الإيديولوجية الوهابية المتطرفة، التي تشرعن الحلف غير المقدس بين السعودية والإمارات والبحرين وقطر، والكيان الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية. ولعل الأمر الأكثر إثارة للجدل، والأكثر خطورة من التشدد تجاه إيران، هو تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بشكل علني، بين الممالك الخليجية والكيان الصهيوني وفي سياق ما يبدو تعزيزاً للعلاقات مع ضامني الأمن الغربيين، وتقوية للجبهة المناهضة لإيران، إضافةً إلى أنه نتيجة بناء روابط تجارية مثمرة مع أحد الاقتصادات الأكثر تطوراً في المنطقة، يظهر أن بعض الحكام الخليجيين يرغبون في التعاون والتآزر الأمني مع الكيان الصهيوني بشكل علني، حيث تشكل “محور أمريكي خليجي صهيوني غير مسبوق يرتسم في الشرق الأوسط”.
فبمجرد أن تحوّل تنظيم “داعش” الإرهابي إلى العدم بدأت الصراعات التي كانت نائمة، أو التي دُفع بها إلى مستوى ثانوي، فترة ذروة وانهيار مشروع التنظيم، تستيقظ في الشرق الأوسط، إذ أتاح أيضاً القضاء على تنظيم “داعش” ظهور الصراع الخفي بين المملكة السعودية وإيران، المدرج تحت اسم فضفاض وخادع، هو “الحرب بين السنة والشيعة”. فعادت نار الصراع الطائفي والمذهبي للاشتعال، تذكيها الولايات المتحدة، من خلال خروج إدارة الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى الست. فيتشكل حالياً في الشرق الأوسط محور غير مسبوق بين السعودية والإمارات والبحرين والكيان الصهيوني والولايات المتحدة، توحده الكراهية المشتركة لإيران، وإرادته في لجم نفوذها في المنطقة. ويرى هذا المحور أنّ الكيان الصهيوني والسعودية لا يمكنهما أن يقبلا سعيَ إيران الدائم لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، والذي تريد منه إيران تأمين تفوقها الاستراتيجي.
وإذا كان الرئيس السابق، باراك أوباما، قد استطاع خلال فترة طويلة إلزام الكيان الصهيوني والسعودية بالتعقل، بل وتجاهل قلقهما، فإنّ وصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم الصعود الخاطف للقادة المغامرين في دول الخليج، من أمثال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ومحمد بن زايد، الرجل القوي في الإمارات قَلَبَوا كلّ شيء. وإذا كان التطبيع مع الكيان الصهيوني ظل لفترة طويلة في كنف ٍ من السرية، فإنّ حركة التطبيع تسارعت مع وصول جيل جديد إلى السلطة في الخليج، لا يجد حرجاً من تابوهات أسلافه. إنّ محمد بن سلمان، الرجل القوي في السعودية، ومحمد بن زايد، الرجل القوي في الإمارات، لا يثقلان نفسيهما بالقضية المقدسة الفلسطينية، لأن هوَسَهُما هي إيران، كما هي هوَس الكيان الصهيوني، والذي أدرك أنه من السهل تقسيم العرب، حين لا يفعلون ذلك بأنفسهم، كما حدث في الأزمة الحالية مع قطر.
صفقة القرن نسخة عن الشرق الأوسط الجديد
يرى المحللون في المنطقة، أن هذه الأصوليات الصهيونية المعاصرة: اليهودية والمسيحية والإسلامية، تتنافس فيما بينها، لخدمة المشروع الإمبريالي الأمريكي مع سعي إدارة ترامب تسويق خطتها المقترحة للتسوية، الملقبة بـ “صفقة القرن”، والتي يعمل عليها فريق جاريد كوشنير (صهر ترامب)، لعقد “مؤتمر إقليمي للسلام” في المنامة بالبحرين، أعادت إلى الأذهان ذلك المشروع المدحور، الذي عاد ليطل برأسه من جديد، مشروع شمعون بيرس الذي طرحه في كتابه حمل اسم “الشرق الأوسط الجديد” عقب توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، واتخذ من الاقتصاد مدخلاً للترويج “لنظام إقليمي أمني وسياسي واقتصادي يشكل الامتداد الإقليمي” للنظام الدولي الجديد بزعامة الولايات المتحدة، ويكون الكيان الصهيوني قطب الرحى فيه بما يتوفر له من غطاء سياسي، ومن دعم مالي واقتصادي وتكنولوجي.
صفقة القرن التي بشرت إدارة ترامب بها الحكام العرب لقبولها في مؤتمر المنامة، كانت ولا تزال مجرد فكرة جوهرها استئصال النظم والقوى والأفكار المعادية للسياسات الأمريكية والصهيونية والتمكين للنظم والقوى والأفكار المؤيدة لهذه السياسات. ولا شك أن صفقة القرن تنفذ الآن عبر سلسلة كاملة ومتواصلة من الإجراءات والقرارات، مثل إغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، ووقف المساعدات الرسمية، وتفليس الأونروا، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وإلحاق القنصلية بـ “السفارة”، وشرعنة الاستيطان وضمّ الجولان، على طريق ضمّ ما يُمكن من الضفة. حُكم ذاتي مقلّص بدلا من “الدولة”، الإبقاء على غزة مفصولة، وسرقة أموال المقاصة، وأخيرا “الحل” الاقتصادي من أجل إنهاء قضية اللاجئين وضخ كل ما يلزم وكل ما هو ممكن من أجل التوطين، وتصفية كاملة للمشروع الوطني الفلسطيني الذي قام على التحرر، والتحرير لكل الأرض الفلسطينية السليبة، ونكون أمام تطبيق فعلي للوطن البديل.
وتقوم صفقة القرن إلى تحويل كل الأمة العربية بكل ثرواتها وجغرافيتها ومواقعها ومواردها لمستعمرة جديدة للولايات المتحدة، وتحويل الكيان الصهيوني إلى دولة طبيعية أو صديقة أو شقيقة، للدول العربية الخاضعة للانتداب الأمريكي، وعلى تأكيد السيطرة والتسلط العسكري والسياسي والاقتصادي للكيان الصهيوني، وإن ضمان هذا الهدف الاستراتيجي يستوجب توفير التمهيدات التالية:
1- تحويل الكيان الصهيوني إلى أكبر قوة عسكرية متفوقة على الدول العربية كلها في المنطقة مع تمتعها حصرياً بالأسلحة النووية.
2- إضعاف وتحطيم قوة الدول والقوى المنافسة كافة القادرة على إيجاد التوازن أمام هذا الكيان، ولا سيما سورية وإيران كدولتين إقليميتين معارضتين لهذا الكيان.
3- فرض تسوية استسلامية أُحَادِية ومجحفة على سورية لكي تتنازل عن مرتفعات الجولان الاستراتيجية.
4- تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني وكل الدول العربية والاعتراف الرسمي به من دون منح الشعب الفلسطيني المظلوم حقوقه، ولاسيما إقامة دولته الوطنية المستقلة.
5- السيطرة الاقتصادية الكاملة على منطقة الشرق الأوسط في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد.
صفقة القرن مجال حيوي” لإسرائيل” كإمبريالية فرعية
إذا كان الوطن العربي يعتبر من أعرق بؤر الحضارة في العالم، وأعظم ممر للهجرات كما للفتوحات، فإن أكثر ما يميز تاريخه منذ أن ظهرت المسألة الشرقية إلى الوجود متزامنة مع المرحلة الرومانسية للاستعمار الأوروبي، ومع بداية فرض الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم في أعقاب ثورة التحرر الوطني التي اجتاحت البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أصبح الكيان الصهيوني أمراً واقعاً متجسداً في دولة “إسرائيل”، ركيزة للإمبريالية الأمريكية بل قوة محلية أو إمبريالية فرعية، هو أن الوطن العربي يمثل نظاماً سياسياً يحتوي على قسمات مشتركة لأنظمة الحكم المختلفة فيه ومخترقاً اختراقاً كاملاً من جانب القوى الإمبريالية الغربية، وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية، وتابعاً لدول المراكز الرأسمالية الغربية في شكل الأعراض المرضية للمسألة الشرقية، حيث يتميز النظام السياسي المخترق بأربع خصائص:
الأولى، وتتميز أن القوة أو القوى الإمبريالية الخارجية لا تقوم بإلحاقه بنظامها السياسي بالكامل ولكنها لا تتركه يفلت من قبضتها الخانقة أبداً.
الثانية، وفيها يعيش النظام السياسي المخترق في مجابهة مستمرة متصلة (وربما يومية) مع القوة أو القوى الإمبريالية المهيمنة.
الثالثة، وفيها تختلط القضايا المحلية والقومية بعضها ببعض وبحيث لا يفهم النظام السياسي للمجتمع المخترق (حتى على المستوى المحلي) دون الرجوع إلى القوة أو القوى الإمبريالية الخارجية المهيمنة.
الرابعة، وفيها يكون النظام السياسي المخترق عبارة عن لعبة سياسية تلعبها القوى الاجتماعية والإقليمية والدولية في تحالفات متبدلة متغيرة.
ولقد تعزز الاختراق الإمبريالي الأمريكي للوطن العربي مع قيام الدولة الصهيونية، وولادة مولود جديد أصبح يسمى الأمن الصهيوني كلازمة للأمن الأمريكي، وتزايد أخطار الكيان الصهيوني مع تنمية قواه التي تأتي ضمن إطار التحول النوعي في العلاقات الاستراتيجية بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي دوره في المخطط الأمريكي في المنطقة العربية بشكل رئيس، وضمن إطار حشد قوى الحركة الصهيونية العالمية التي أفسح نهج التسوية الذي سارت عليه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979، التي أخرجت أكبر دولة عربية ألا وهي مصر من معادلات الصراع العربي الصهيوني، وتوقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 في المجال فرصة تاريخية مهمة جداً لتحقيق هدفها الرئيس ألا وهو تثبيت قاعدة الكيان الصهيوني واستثمار مواقع وعلاقات وخبرات اليهود في العالم عامة لتمكينه عن طريق الانخراط والتغلغل أن يصبح جزءاً من المنطقة العربية أولاً، ثم على السيطرة على مقدراتها والتحكم في ثرواتها من خلال بناء “السوق الشرق الأوسطية” ثانياً.
وفي الحقيقة التاريخية فإن إقامة صفقة القرن التي تأتي ضمن ثوابت الاستراتيجية الأمريكية التي تخوض معركة التغلغل والسيطرة على الوطن العربي بأساليب مختلفة، أولها ضمان أمن وتفوق الكيان الصهيوني نوعياً بفضل المساعدات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية التي قدمتها وتقدمها الحكومات الأمريكية المتعاقبة، التي لا تكتفي بتبرير انتهاكات وجرائم الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين، ودعمه سياسياً في كافة المنتديات الدولية، فعلى مدار الأعوام الـ 70 الماضية قدّمت واشنطن له مستويات دعم مالي لا يمكن مقارنتها بأي دولة أخرى، فكانت “تل أبيب” أكبر متلقٍّ لمساعدات واشنطن الاقتصادية والعسكرية. ويقترب الدعم الأمريكي الذي تلقّته “إسرائيل”، منذ احتلال فلسطين عام 1948 وحتى 2017، من الـ 130 مليار دولار، بحسب التقديرات الرسمية، إلا أن تقديرات أخرى تقول إنه وصل إلى نحو 270 مليار دولار.
ويتحكّم في هذه المستويات الضخمة من المساعدات عوامل ترتبط بضغط اللوبي المؤيّد للكيان الصهيوني على الولايات المتحدة، إضافة إلى حرص واشنطن على استمرار تفوّق تل أبيب عسكرياً واقتصادياً في الوطن العربي
ولأن هذا المال يوفر فرص عمل ويدر أرباحاً في كثير من المناطق فإن الكونجرس مهيأ سلفاً، بل هو متلهف أبداً للاستجابة لتزلف اللوبي الصهيوني وتملق جماعات الضغط المناصرة للكيان الصهيوني. وهذا الفيض العرمرم من المال قام بمهمتين خطيرتين: فمن جهة، منح الكيان الصهيوني قدرات هائلة ومكنها من الإعداد لقتال أمريكي الروح وخوض حروب أمريكية الطابع، ومن جهة أخرى أرغمها على سلوك هذا الدرب سواء في التهيئة والتحضير، أوفي خوض المعارك، إلا أن الولايات المتحدة خاب سعيها منذ عام، 1950 فلم يحالفها النصر في أي من حروبها الكبرى التي خاضتها.
وإذا كانت ثمة قيود على المطامع الإقليمية للحركة الصهيونية، فإن لا حدود لمطامعها الاقتصادية. فالتطلعات الاقتصادية الصهيونية إلى السيطرة على ثروات الوطن العربي وخيراته ومصادره الطبيعية وطاقاته البشرية وتسخيرها في خدمة الأهداف الصهيونية، لم تكن وليدة الساعة، ولا وليدة المسار الذي بدأ بزيارة السادات للقدس. فهذه التطلعات ولدت مع الحركة الصهيونية، بل قامت عليها، وهي ملازمة أيضاً لطبيعة الكيان الصهيوني الذي لا يستطيع البقاء إلا بتوفير الرقعة الاقتصادية الأوسع – على حساب الوطن العربي طبعاً.
خاتمة
الإصرار على الخيار الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية والعربية، والإبقاء على الأمة حيّة تقاوم، وتطالب بحقها الطبيعي والقانوني والتاريخي والديني في أرض فلسطين، هو المحور الذي أبقى القضية الفلسطينية حيّة. أما خيار التسوية بشروط الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، فهو الهزيمة بعينها للأمة.
في الواقع العربي، هناك خياران يتصارعان، خيار المقاومة وبناء ذات الأمة الديمقراطية بالمعني العصري لهذه الكلمة، وخيار التسوية الذي يرجع عند البعض من العرب والفلسطينيين، أن ينتج حلاً تقبل به الشرعية الدولية. خيار التسوية هذا، قاد القضية الفلسطينية إلى التصفية، وليست صفقة القرن، سوى آخر حلقاتها.
إن القضية الفلسطينية هي قضية الصراع العربي مع الإمبريالية الأمريكية، وللحركة الصهيونية في فلسطين دورًا وظيفياً تؤديه في هذا المجال. ولذلك يجب أن يبقى الصراع دائراً، وألا يجزأ، لأن تجزئته في فلسطين، ومحاولة الفصل بين الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني قاد الحركة الفلسطينية إلى الضلال، وأضاع فلسطين، وأية محاولة لاعتبار حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حكماً، سيقود إلى الضلال والضياع. ثم إن أية محاولة لاعتبار المشكلة فلسطينية – صهيونية، سيقزم المسألة، وسيجعلها مثل مئات قضايا اللاجئين في العالم، وستطرح الحلول الإنسانية لمشكلة اللاجئين.
وقد أثبتت التجربة التاريخية في الوطن العربي، من جملة ما أثبتته من حقائق واقعية..
أولاً: إنّ المقاومة الفلسطينية على اختلاف مكوناتها الإيديولوجية والسياسية، تعاني من أزمة قيادة حقيقية، إضافة لغياب المشروع الوطني للتحرر، والتحرير، لأنّ العديد من الفصائل التي نادت بالتحرر والتحرير سرعان ما تحولت إلى غطاء لليمين الفلسطيني الذي تبنى نهج التسوية تاريخياً، وقاد القضية الفلسطينية إلى ماهي عليه الآن. وتشير المعطيات الآنفة الذكر إضافة لما تطرحه صفقة القرن من تسوية مذلة، إلى وجود ترابط بين قيام سلطة الحكم الإرادي الذاتي بقيادة محمود عباس والوطن البديل، لما تنطوي عليه فكرة الحكم الإرادي الذاتي من تحويل الفلسطينيين إلى مجرد فائض سكاني على أرض فلسطين، الأمر الذي يستدعي وجود فائض جغرافي، يستوعب الفائض الديمغرافي. وهذا الفائض الجغرافي هو الأردن. بمعنى أن الحكم الذاتي، هو محطة في مسار لمشروع الوطن البديل. ويجري ذلك عبر تأزيم سلطة الحكم الذاتي باتجاه الانفراط والاندماج في الدولة الأردنية التي يجري تغيير هويتها إلى فلسطينية، وتمثل ملاذاً للمشروع الفلسطيني، والديمغرافية الفلسطينية.
ثانياً: إنّ المشروع القومي العربي بشقيه البعثي والناصري الذي تصادم مع المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، هُزِمَ تاريخياً. ويعتقد خبراء كثر أن إعادة بناء المشروع القومي الديمقراطي العربي، يُعَدُّ شرطًا ضروريًا لتحرير الأرض وإن لم يكن كافيا، إضافة لتلازم النضال من أجل الديمقراطية والنضال ضد الإمبريالية والكيان الصهيوني. فلا تقدم يرجى في ظل التبعية والاحتلال. ولا يمكن أن نحرز تحريرًا في ظل وجود مقاومات عربية تستند في أساسها إلى النزعة “العسكريتارية” المحضة خارج عالم الفكر والثقافة والسياسة، وغير ديمقراطية في بنيانها الداخلي.. وتستند أيضاً إلى الطوائف أو المذاهب.
ثالثاً: إعادة بناء الدولة الوطنية في الوطن العربي، لا سيما في سورية والعراق ومصر، والجزائر، ويستلزم نجاح محاولات إعادة البناء للدولة الوطنية مجموعة شروط على المستوى الداخلي، هي: حدوث توافق بين القوى الداخلية حول مبدأ إعادة البناء ذاته، وكذلك متطلباته، وكيفية تحقيقه، والاستعداد لتحمل تكلفته، ولن يتأتى ذلك إلا بعد بلورة مشروع وطني جديد للتحرر في مواجهة المشاريع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية. فكلما زادت درجة الاستقلال والمحافظة على السيادة الوطنية، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية للصراع العربي الصهيوني، استطاعت الدول الوطنية أن توجه عملية البناء لمصلحتها والعكس صحيح. وكشفت تجارب إعادة بناء الدولة في العراق وأفغانستان عن أن التوازنات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط هي العامل الأخطر في تحديد فرص نجاح إعادة البناء او فشله.
رابعاً: هناك تناقضات كبيرة ما زالت عالقة بين دمشق وواشنطن، ولا سيما فيما يتعلق بتسوية الصراع العربي – الصهيوني، والملف النووي الإيراني، وعلاقات سورية بحركات المقاومة الجهادية في فلسطين ولبنان. فسورية، كما يؤكد المحللون، تدعم خيار المقاومة. وهذا يطرح على الدولة الوطنية السورية إعادة علاقة التحرر، والتحرير، ببناء مقاومة عربية تحمل في سيرورتها التاريخية مشروعا نهضويا فكرياً وسياسياً، يضع تحرير فلسطين كمهمة قومية وإسلامية، وعليه أن يضع التحرير في موقعه من مهمات المشروع القومي الديمقراطي النهضوي، باعتباره هدفاً رئيساً، لا يعلو عليه أي من الهدفين الآخرين، تحقيق الوحدة القومية، وبناء الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث بالتلازم مع بناء دولة الحق والقانون، من حيث الأهمية. إذ إن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة عضوياً، بصرف النظر عن الأولويات التراتبية التي يحتلها أي منها في ظل تضاريس الجغرافيا الطبيعية والبشرية، والتاريخية والاستراتيجية للمنطقة العربية.
خامساً: وتندرج الحرب الأمريكية – الصهيونية ضد سورية في سياق الضغط على إيران ومحاولة إضعاف ومحاصرة نفوذها وقدرتها على ممارسة رد الفعل، في حال استهدافها بحرب عسكرية لطالما استعدت لها “إسرائيل” ولم تسقطها الولايات المتحدة من حساباتها وخياراتها، في إطار الحلول المطروحة لمواجهة الملف النووي الإيراني، إذا ما فشلت استراتيجية الحوار والتفاوض. ويعتقد المحللون السياسيون أن التهديدات بالحرب تأتي أيضاً في سياق الضغط على إيران وسورية، من أجل إنجاز صفقة القرن، مع ما يعنيه ذلك من تنازلات مطلوب تقديمها إلى الجانب الأمريكي والصهيوني، الذي لا يخفي قلقه من قوة الحضور الإيراني والتأثير السوري على الساحة الفلسطينية.
سادساً: إن تحرير فلسطين ليس مشروعاً بونابرتياً لحاكم عربي، ولا هو مشروع لأي حزب، أو حركة أصولية، أو طبقة اجتماعية، إنه في جوهره جزء من المشروع القومي الديمقراطي النهضوي الذي يشمل تيارات الأمة كلها، وجزء من تقدم الأمة العربية ووحدتها. والنضال من أجل تحرير فلسطين هو الاندماج في المشروع القومي الديمقراطي المعادي جِديًا وفِعلياً وراديكالياً للإمبريالية الأمريكية، والكيان الصهيوني، والدول العربية التسلطية، والمستند إلى قوى الشعوب العربية، وإلى جماع الأمة، ولا إلى فئة، أو طبقة، أو حزب، أو حركة أصولية، مهما ادعت تلك الحركة أنها ممثلة للأمة، ونائبة عن أكثريتها، وإن كان ذلك لا ينفي حقيقة أن الدولة الوطنية العربية المتقدمة، ستكون مسؤوليتها أكبر وتأثيرها أعمق، ولكن لن تكون أبداً بديلاً عن الكل، أو نائبة عن الأمة العربية وشعوبها.