طاقة الحدس

قد يرى بعض الأشخاص من حولنا رؤى لأشياء قد لا يكون لها واقع تحليلي أو تفسير علمي، ولكنها موجودة في حياتنا، ودون أي دراسة يقومون بعمل تفسير دقيق خلال لحظات لموقف من المواقف المعقدة، والوصول لاستنتاجات تحتاج إلى أوقات طويلة وخبرة ودراسات عميقة، ولا عجب أن يكونوا من أصحاب التصرفات والمواقف المختلفة عن الغالب الأعم من الناس، فنجد أن معظم هؤلاء من أصحاب المواهب كالفنانين والموسيقيين والأدباء والمؤلفين والمبدعين في مجالاتهم، أو من أناس نصفهم في مجتمعاتنا بالحساسين وممن يصعب التعامل معهم. فهل هناك علاقة بين آرائهم وتوقعاتهم وبين صفاتهم المختلفة عن باقي الأشخاص وما يمتهنونه من مهن؟ وإن وجدت هذه العلاقة فما تفسيرها؟
والإجابة تكمن في أن هؤلاء يتمتعون بقدرة خاصة من القدرات العقلية وموهبة إنسانية لها جوانب نفسية وعقلية وروحية تعرف بـ(الحدس).
قسم العلماء مفهوم الحدس تقسيماً لغوياً وفلسفياً، وأيضاً ضمن العلوم النفسية قديماً وحديثاً، فقد عرف (الحدس) لغوياً على أنه: الرمي أو الظن والتخمين، والرأي أيضاً أنه المضي في المشي دون هداية أو الخروج عن المسار في طريق مستمر، كما أن كلمة Intuition بالإنجليزية تأتي من الفعل اللاتيني المترجم إلى consider وتعني الاعتبار. وفي العصر الإنجليزي الأوسط يأتي معناه من كلمة Intuit ويعني التفكير والتبصر.
ودرس فلاسفة المشرق والمغرب مفهوم (الحدس) دراسة دقيقة في نطاق تخصص دقيق، واتسقت دراساتهم مع فلسفات العقل، وقد أجمع الفلاسفة في الشرق على أن قدرات الإنسان، وصفة (الحدس) التي يمتلكها؛ تتمحور حول معتقداته وقيمته الروحية ذات المعاني المستمدة من النصوص الدينية. كما فسرها (صهيب الدين السحروادي) على أنها ارتقاء بالمعرفة الداخلية المكتسبة من النور الإلهي ومعاني التأمل المسماة (بالمشاهدة)، وكما رآها المتصوفة فهي المعنى الذي يأتي بالأحكام الصحيحة، بينما يرى (ابن سينا) الحدس على أنه صفة خاصة وقدرة يختص بها الأنبياء، وكذا فسرها (التهاتوي) على أنها تمثل المبادئ المترتبة داخل النفس وخروجها دفعة واحدة من غير قصد وكأنها وميض أو برق.
كما عرف (الجرجاني) الحدس على أنه سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب.
أما في الهندوسية ففسر (أروبيدو) الحدس على أنه يأتي كحقل من حقول المعرفة، وهي المعرفة من خلال الهوية، واعتبرها معرفة عامة لدى المسنين من طائفة (الفيديك)، ومؤخراً تم الاستحواذ على هذه المعرفة من خلال العقل الذي ينظم إدراكنا والأفكار والأفعال الناتجة عن الفلسفة (الفيدية) كما وافقه (أرسو) على هذه الفلسفة.
أما الحدس في البوذية فوصف على أنه المعلومات اللاشعورية التي لا يستطيع بالضرورة الفكر الواعي الوصول إليها. كما طورت هذه الفلسفة من حدسية الفرد من خلال تقنية (الكوانز)، كما عرف (كيويويا) الحدس على أنه الفلسفة الدينية المستمدة من تعاليم (لاوتسي) على أنها معارف (الطاوية) وهي حدس وإبداع شخصي. وقد تم تناول مفهوم (الحدس) في الفلسفات الغربية بداية من (أفلاطون) في كتابة (الجمهورية) على أنه قدرة العقل البشري الأساسية على فهم الطبيعة الحقيقية للواقع.
كما أشار (ديكارت) في كتابه (الفلسفة الأولى) وعلى خطاه كل من (لوك) و(ليبنز) إلى أن الحدس هو معرفة موجودة مسبقاً من خلال التفكير العقلاني أثناء التأمل، وهو ما يشار إليه بالحدس العقلاني، كما عرفه (إيمانويل كانت) أنه معلومات حسية أساسية توفرها الإدراكات المعرفية للحساسية أو ما يطلق عليه (الإدراك بشكل فضفاض).
وقد ذكر الحدس كل من (هاميلتون) و(ديوي) و(ما نسل) في موسوعة (لالاند الفلسفية) على أنه معرفة الفردي، وهي رؤية مباشرة ولحظية لموضوع فكري يتمثل أمام الفكر ومدرك في واقعه الفردي، وعند (شوبنهور) الحدس هو كل معرفة تأتي دفعة واحدة وبلا مفاهيم، وعرفه (أندريه لالاند) أنه ضمان الحكم وسرعته وتنبؤ غريزي لوقائع أو روابط مجردة، وهو ما يشار إليه في تعريف (هنري بوانكار) للحدس في الفلسفات الحديثة، كما عرفه (هنري برجسون) في فلسفته الحديثة على أنه عرفان من نوع خاص شبيه بعرفان الغريزة ينقلنا من باطن الشيء ويطلعنا على كل ما في داخله ولا يمكن التعبير عنه بالألفاظ.
كما عرفه (باستيك) على أنه إدراك أو حكم مباشر في الغالب، ذو صبغة وجدانية أو انفعالية دون أية خطوات عقلية أو شعورية في الإدراك.
وكان للحدس في علم النفس نصيب كبير من الدراسة، حيث رأى (سيجموند فرويد) الحدس على أنه الوصول إلى المعرفة من خلال التلاعب الفكري للملاحظات التي تم وضعها، كما عرفه (كارل يونج) على أنه الإدراك عبر اللاوعي، وهي وظيفة غير عقلانية تتعارض مع (الإحساس) بشكل مباشر ومعارضة أقل مع الوظائف العقلانية للتفكير والشعور، ويرى أن الحدس هو نوع (بديهي) يخرج منها الشخص صاحب (البديهة المقلوبة) أو الشخص (الانطوائي البديهي) أو من أصحاب (البديهية المنحازة) كبديهية الأديان والسواعد.
وقد ارتبط مفهوم (الحدس) في علم النفس الحديث (بنموذج قرار الاعتراف) (RPD)، وهو ما أوضحته (غاري كلاين) بأنه استخدام قاعدة الخبرات لتحديد المواقف المشابهة والحلول الممكنة بشكل (بديهي)، وبالتالي فإنه مزيج بين (الحدس والتحليل).
ونستشف من كل هذه الآراء والتوضيحات أن المفهوم العام (للحدس) هو القدرة على إدراك بعض المعارف دون أي إثباتات أو شواهد أو أسباب منطقية.
وقد قسم (جولد نبرج) الحدس إلى تقسيمات وظائفية ومستويات، ذكرها كالآتي:  (حدس عملياتي)، (تقويم حدسي)، (تنبؤات حدسية)، (حدس إبداعي)، (إشراق حدسي)، (اكتشاف حدسي).
أما (فوجان) فقد قسم (الحدس) إلى أربعة مستويات من الإدراك، وكانت كالآتي: (الحدس الجسماني)، (الحدس الانفعالي)، (الحدس العقلي)، (الحدس الروحي).
أما (بورز) فقسم (الحدس) إلى مرحلتين، الأولى الاستدلالية والثانية التكاملية. وقسم باستيك (الحدس) إلى خصائص يتسم بها صاحب هذه الملكة، ومنها:
التعاطف، الحداثة، المعرفة الكلية، مفاهيم ما قبل اللغة، الاستغراق في الخيال،
الإحساس بالعلاقات، الاعتماد على البديهة، الارتباط بالإبداع، الانفعال غير الملموس، الارتباط بالتمركز حول الذات (وليس بالضرورة إصابة الهدف)، التأثر بالخبرات السابقة، الاندماج الوجداني، السير عكس المنطق، الومضات الفكرية، عمليات ما وراء الشعور.
فمن يملك تلك الخصائص أو بعضاً منها فلا شك أن له نصيباً في (الحدس).
ولكن هل يمكن تطوير (الحدس) لمن يمتلكه؟
في مقالة نشرتها جامعة مينيسوتا عن كيفية الارتقاء (بالحدس)، ذكرت في مضمونها ثماني مراحل للتدريب تحوى تمرينات حركية جسدية وتركيز واستحضار للأفكار والتأمل وتحريك بعض الذكريات في اللاشعور، كما أن هذه التمرينات تحمل أهدافاً تنموية كتلك التي تحملها تدريبات التنمية البشرية في مجملها، وتعنى باتباع البرامج كسلوك يومي لتنمية الحواس في الروح والعقل. ويمكن الرجوع للتدريبات من خلال الموقع
https://www.takingcharge.csh.umn.edu/activities/exercises-developing-your-intuition
ولا شك أن (الحدس) هبة من الله عز وجل إذا أحسن استخدامها، فلله الحمد والشكر على ما أنعم به على عباده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى