العلاقة الغُنُوصِيَّةُ بين ” الحقيقة “.. و ” الحقّ ” 

 

لا ينتظرْ أحدٌ من قرّائنا شَدَّتْهُ كلماتُ هذا “العنوان” أن يجد في مندرجاته ما يجعله “حكيماً” أو فيلسوفاً و مفكّراً ، بين وَهْلَةٍ و وَهلة!

فالحديث عن الكُبريات لا يمكن أن تختزله الكلمات و لو أنّه تَحْجُبْهُ الكلمات ؛ هذا و لو أنّ هنالكَ ما هو أقلّ من الكلمات بكثير و هو ما يستطيع عند “الطّاعة” المُلْهَمَةِ أن يفي بغاية هذا العناء ، من حيث أنّه لا يوجد في “معرفة” الإنسانيّة التي كتبها التّاريخ و ما لم يكتبْها من شفاهيّات و روايات مفتوحة .. و محكيّات ، من اشتغل في هذه “المسألة” و استمرّ ، و لو في القليل ، فكان على وفاق مع نفسه أو مع يقينه أو مع “اليقين” .

و مع ذلك ، فإنّه ، على عادتنا في هذه “المباحث” التي نكتبها هنا ، عَوَّدْنَا أنفسَنا على المساهمة في خوض غمار أصعب المراهنات العقليّة على ما عرفنا من ذلك في قائمة أو في قوائم التّحدّيات الفكرية ، السّياسيّة ، الفلسفيّة ، التّأمّليّة ، العَقَديّة .. المحلّيّة و العالميّة المعاصِرة ..

1▪ ربّما كان من أوسع الاستخدامات انتشاراً للكلمات اليوميّة ، هو ، كلمتيّ “الحقيقة” و “الحقّ” ..

و على رغم ذلك فإنّ ذلك يكاد يكون ، أيضاً ، من أكثر الاستخدامات غموضاً و ربّما مغالطة ، إلى الدّرجة التي يُنكر فيها البعض أيّة ذاتيّة خاصّة بالحقيقة – مثلاً – إذ يقولون إنّ الحقيقة ليست شيئاً في ذاته ، و لكنّها أيّة قيمة تنسبها إرادة أو قوّة أو معرفة أو ثقافة أو أيديولوجيا أو رغبة أو مناسبة أو ظروف أخرى .. إلى حدث أو واقعة أو حالة أو حال ؛ فيما لا يُحبّذ أولئك الخوضَ كثيراً في “الحقّ” من جهة أنّه أكثر انغلاقاً على أصحاب الرّأي و التّخمين و الظّنون ..

هذا إن لم يكن من المنتشر انتشاراً إشكاليّاً استعمال كلمة “الحقّ” في مواضع ضرورة استعمال مصطلح “القانون” ، أو العكس أيضاً .

و على العكس ، تختلط مرامي كلمة “الحقيقة” اختلاطاً عجيباً من حيث الجوهر و الماهيّة و الطّبيعة و الدّرجة و الدّلالة و الإطار و البعد و المقاصد و الاستثمار .

نحن لهذا نجد تنوّعاً لا يُحدّ في ما تنصرف إليه “الكلمة” ، و هي في ذلك تكاد لا تتميّز عمّا هو مقصود بكلمة “واقع” أو بكلمة “ملموس” أو “حسّيّ” .. و ما إلى هنالك من تحديدات عينيّة يراد بها التّأكيديّة أو الحصريّة لهويّة افتراضيّة للشّيء ، أو لهويّة مستقلّة له ، تنأى به عن المتشابهات .

2▪ في الرّبط الفلسفيّ التّقليديّ ( المنطقيّ الصّوريّ ) ، جرى ربط “الحقيقة” ب “الحدود” و “الأحكام” و “القضايا” و “البراهين” ، بشكل جرى فيه تحديد “الحقيقة” على أنّها التّطابق ( المطابقة ) بين “المعرفة” و موضوعها ، أو “التّطابق بين العقل و الأشياء” ، أو “التّطابق بين ما في الأذهان و بين ما في الأعيان” .

و نجد ذلك واضحاً في منطقيّات ( أرسطو ) و ( إبن سينا ) و ( توما الإكويني ) و غيرهم من هذا الطّريق .

و ثمّة اعتراضات بالجملة ، اليوم ، على مثل هذه الاعتبارات ، بعد أن أثيرت في الفلسفات الحديثة و المعاصرة جملة من الأسئلة و التّساؤلات التي تنسف ، نهائيّاً ، تلك “البداهات” الضّمنيّة التي يقوم عليها “المنطق” الفلسفيّ الصّوريّ ، و بخاصّة بعدما وضعت “أشياء” من مثل “المطابقة” و “المعرفة” و “الموضوع” و “المحمول” و “الذّهنيّ” و “العينيّ” ، بالتّحديد ، على طاولة التّشريح الدّلاليّ الذي أظهر آفاقاً جديدة و مختلفة كلّ الاختلاف عمّا كانت قد تواضعت عليه “الفلسفة” و “المنطق” في تطورهما الأوّليّ و الوسيط ، بحيث انصرفت “الدّلالة” بالذّات إلى تأسيس علمها الخاصّ ، و كذلك فعلت “المعرفة” على الأقلّ .

 

3▪ تبحث ” الإبستمولوجيا ” المعاصرة ، و على أيّ من تعريفاتها المتواشجة و الكثيرة ، على نحو مستقلّ في طبيعة “الحقيقة” ؛ و أعني بحقيقة ما إذا كانت “الحقيقة” ، ب “الذّات” ، هي من “الصّفات” أو من “الموصوفات” ، و بكلام آخر ما إذا كانت بطبيعتها من “الأشياء” أم من “القِيَم” .

و يتوقّف على هذا الأمر أشياء كثيرة و هامّة حول “الحقيقة” سواءٌ من حيث ماهيّتها أو أصلها أو واقعيّتها أو طبيعتها أو حدودها أو معقوليّتها ، أو عقلانيّتها كذلك . و يرتبط بذلك ، من حيث الطّبيعة و الحدود ، على الأقلّ ، كون الحقيقة أمراً نسبيّاً ، أي ما إذا كان ثمّة تعدّد للحقيقة و اختلاف باختلاف الشّأن الذي تتناوله الأفكار و التّصوّرات ، و هل هو شأن وجوديّ ( وجدانيّ ) و تحليليّ ، أم أنّه شأنٌ اصطلاحيّ و تركيبيّ ، أم أنّه شأنٌ عامّ حسّيّ و مُحايد ، أم شأنٌ جوهريّ ، أم ثقافيّ و اجتماعيّ ، أم أيديولوجيّ و سياسيّ ، و أخيراً هل هو شأنٌ عاطفيّ و ذاتيّ أم أنّه ما فوق ذلك ، بالاستقلال .

4▪ لا يستوقف ، عادة ، استخدام “الكلمة” انتباه المتكلّمين أو الكتّاب و المثقّفين ، فهي تُرسَلُ على غاربها في كلّ حين ؛ و لا يهمّ إن أصابت هدفها أو عبّرت عمّا تهدف إليه أو أنّها قد حقّقتْ شيئاً من “البيان” ، و هذا دأب استخدام و استعمال الكثير من “الكلمات” في فوضى الثّقافات المعاصرة و استحلالها و استباحتها من قبل الجميع .

و هذا هو ، بالضّبط ، ما سوف يُلقي ضوءاً هامّاً على طبيعة هذه الكلمة ، من حيث أنّ ما يجلوه الاستعمال في الزّمان ربّما كان أقرب إلى حقائق الأشياء الأصليّة ، بعد أن قطعت بتجربة الاستعمال مقاطع تاريخيّة و منظومات معرفيّة و تشكيلات دلاليّة من العبث تجاهل جدواها ، إذ أنّها من إنتاج حضارة إنسانيّة لا يختلف على واقعيّتها الكثيرون .

  • أولاً – في معايير الحقيقة :

5▪ يُلاحظ ، عادة ، إنّ مفهوم “الحقيقة” هو مفهوم متغيّر و متبدّل عبر الأزمنة و الأحقاب و المراحل التّاريخيّة التي غالباً ما يُرافقها تبدّل و تغيّر في النّظرة إلى الذّات و العالم ، على اعتبار أنّ كِلَا هؤلاء هما مدارا الحقيقة الرّئيسيّان .

و في إطار ذلك يمكننا أن نستعرض الكثير من التّفاصيل المتعلّقة بالسّطوة و الإقناع و الإلحاق إلى مفاهيم دون أخرى ، حتّى أنّنا يمكننا مقاربة “الحقيقة” من جانب آخر ، أيضاً ، و هو جانب الصّراع المباشر و غير المباشر على السّيطرة و تسويق النّصّ و الخطاب و المفاهيم و الدّلالات و الرّموز و العينيّات ، و توزيعها وفق رغبة المالكين و الحاكمين ..

هذا و لم يعرف التّاريخ أنّ الضّعيف تمكّن من فرض رؤيته كحقيقة مقابل تلك الحقيقة التي فرضها و يفرضها الأقوياء .

هنا نتحدّث عن “القناعات” الواسعة التي تشكّل في خامتها جذراً مفهوميّاً أو معرفيّاً على “الحقيقة” ، مع عدم استبعادنا لوجه آخر ، فلسفيّ محض ، للحقيقة و مفهومها في الواقع .

و أمّا ما هو مؤكّد هنا فإنّني لا أقصد بالوجه الفلسفيّ للحقيقة ذلك الوجه “الشّموليّ” ، المنطقيّ ، المزيّف ، الدي توافق “الفكر” على قيمته “الإبستمولوجيّة” على أساس مفهوم “المطابقة” أو “التّطابق” المنطقيين الفلسفِيَّين الّلذين يؤطران “الإبستمولوجيا” ب “المنطق” الصّوريّ ، و هذا ما هو من سخافات تطوّر النّظرة إلى الحقيقة و تحديد طبيعتها و شموليّتها و كنهها الواقعيّ .

6▪ إنّ قناعات الأفراد بحسب ما قد تكوّنت بالثّقافة الخاصّة و الشّخصيّة و الفرديّة ، هي الجزء الأعمّ من مفهوم “الحقيقة” التي تدور حولها و في سبيلها الآراء و الاختلافات و الخلافات و ربّما الصّراعات و المواقف .

و إن كنّا نهدف إلى أن نقول إنّ “الحقيقة” منتوج و أثر فرديّان ، و هما غالباً كذلك ، فإنّ هذا لا يمنع من أن ننظر إلى “الحقيقة” المتعلّقة بعلم من العلوم أو باختصاص من الاختصاصات على أنّها هي أقلّ انتشاراً من كونها قناعات فرديّة و آراء شخصيّة ، بحيث لا يملك العامّة في هذه الأحوال الخاصّة أكثر من مجرّد آراء أو انطباعات شخصيّة قد تبعد و تقرب من “الحقيقة” المخصوصة ، تبعاً لاجتهاد و تعمّق الجهود الفرديّة و إلمام أصحابها بالعلوم المقاربة أو المجاورة لعلوم تلك “الحقائق” .

و من أسخف ما نطالعه في فلسفة المنطق التّقليديّ ( الصّوريّ ) هو أنّ موضوع “المنطق” نفسه إنّما هو “الحقيقة” أو “الحقّ” .

لقد صار ، اليوم ، مع الاكتشافات الكمّيّة و النّوعيّة في البيولوجيا و الفيزياء و التّقانة ، من المتعذّر ، إطلاقاً ، القول إنّ “الحقيقة” هي موضوع و مضمون “المنطق” ، ناهيك عن أنّ ذلك هو “الحقّ” ، و ذلك لأسباب كثيرة من أهمّها أنّ “المنطق” هو ، بتعريفه العامّ ، اتّساقُ الكلام و لزوم النّتائج عن الأسباب ، فيما أنّ الاشتغال ، فلسفيّاً ، بالحقيقة و الحقّ ، هو ضرب من القضايا غير الحمليّة ، بمعنى أنّها ليست علاقة ما بين موضوع و محمول ، و من ذلك أنّها ليست ، أيضاً ، “قضايا” أو “أحكام” تعليليّة أو تركيبيّة بقدر ما هي قضايا “أوّليّة” و تحليليّة .

7▪ تتعلّق “الحقيقة” بالوقائع الفعليّة أكثر ما تتعلّق بأيّ ربط آخر أو روابط “منطقيّة” بين مقدّمات و نتائج ؛ إذ كثيراً ما تواجهنا حقائق ليس لها تسويغ مباشر أو محكم ، و إنّما تُرَدّ بالأصل إلى تقديرات و تخمينات لا يمكن إثباتها إلّا عن طريق اتّباع “استدلال رياضيّ مقلوب” ، و هو ذلك النّوع من “الاستدلال” الذي ينبني على التّحليل بعكس طريقة “الاستقراء” الخادعة .

فالجريمة الموصوفة ، بوصفها حقيقة ، لا تنبني ، مثلاً ، على منطقيّة أسبابها التّركيبيّة المحيطة بها أو المؤلّفة لظروف الفعل ؛ و ليس هنالك أيّ أثر اجتماعيّ أو شخصيّ أو فرديّ يمكن أن يمنعها من أن تكون “جريمة” ، بشرط أن يكون لها ركنُها القانونيّ الذي يجعل منها “جريمة” بالتّجريم القانونيّ الوضعيّ الحصريّ المقعّد و المكتوب .

و هي تبقى ، كجريمة ، في كلّ ظروفها ، كذلك ، و لو أحاطتها ، في بعض الأحيان ، بعض الظّروف المخفّفة أو المشدّدة أو المُحلّة من التّجريم ، مع أنّها في هذه الحالة الأخيرة يسقط عنها الوصف الجرميّ الوضعيّ ، من دون أن تسقط وصفيّاً ، كجريمة ، من وجهة نظر الهيئة العرفيّة ( الاجتماعيّة ) أو قواعد العدالة أو الأخلاق الطّبيعيّة أو الحساسيّة العامّة .

8▪ كان ( كانط ) من أكبر المحاججين ضدّ عقلانيّة القرن الثّامن عشر ، حيث “حسم” أمر أنّ “العقل” لا يمكنه الوصول إلى معرفة حقيقة الأشياء بذاتها ، و إنّما أقصى ما يمكنه في ذلك هو أن يبقى على مستوى معرفة سطحيّة الأشياء الخارجيّة . نافح ( كانط ) ضدّ وثوقيّة “الأنوار” التي كانت تحضّ على ، و حسب ، “استخدام العقل” . رفض مقولة “تشجّع لتعلم !” و في السّياق كان ضدّ المبدأ التّنويريّ العقلانيّ القائل “فلتكن لديك الشّجاعة لاستخدام عقلك الخاصّ!”.

و على رغم ذلك ، و على رغم “لا أدريّة” ( كانط ) ، فإنّه كان ضدّ مبدأ “الوصاية” على “العقل” ، و بخاصّة منها تلك “الوصاية الدّينيّة” .

يمكننا من خلال ما تقدّم أن ندركَ حالة تعقّد و تعقيد “الحقيقة” ، و تجشّم عناءات الأحكام الصّادرة عنها ، زيفاً أو واقعيّاً ؛ غير أنّنا ، و هنا بالضّبط ، ندخل معترك المعايير و المقاييس التي تقرّ بحقيقة الشّيء ، بحقائق الأشياء ، و نتريّث – أو هكذا علينا ، في واقع الأمر – كثيراً قبل أن ننضمّ إلى جوقة المؤيّدين و المهلّلين لحقيقة أو لحقائق تواضعيّة و اصطلاحيّة في ما هي أبعد ما تكون عن ذلك ؛ إذ “أنّ التّجربة لا تعطي قطّ لأحكامها كليّة حقيقيّة و صارمة بل كلّيّة مفترضة و مقارَنة”.

[ كانط – نقد العقل المحض – ص( 46) ] .

9▪ كان ( هيغل ) أكثر “تفاؤلاً” بخصوص إدراك “الحقيقة” ( أو الحقّ ! ) ؛ و مع ذلك فإنّه كان يُقارن بين موقفين من “الحقيقة” .. متوزّعين بين عجز “دودة الأرض” .. عن إدراك “الحقيقة” ، و بين من أشاع ، مع “العقلانيّة” ، أنّ “الإنسان الحديث” صار يتنسّم ، تنسّماً ، هواء الحقيقة العليل ، بزهوٍّ و غرورٍ لا يُطاقان .

10▪ و أمّا عن أنّ “الحقيقة هي معيار ذاتها” – كما يقول ( سبينوزا ) – فهذا ما يوقعنا في اختلاط “عقلانيّ” مربك ، لا سيّما أنّ ( سبينوزا ) نفسه يُنكر القول : “إنّ الفكرة الحقيقيّة لا تضمّ أيّ واقع أو كمال أكثر من الفكرة الخاطئة” . و من ثمّة يعود إلى “المطابقة” الشّهيرة في “القضيّة رقم( 35 )” من كتابه “الأخلاق” ، التي منطوقها : ” الخطأ يقوم في عدم المعرفة التي تحتوي عليها الأفكار غير المطابقة أي المجتزأة و الغامضة” .

11▪ في مؤلّفه “نداء الحقيقة” يذهب ( هايدغر ) في نقد صريح لمعايير الحقيقة العرفيّة التي اتّفق عليها “الفهم المشترك” و “الحسّ السّليم” ، يُعارض ( هايدغر ) بين “الحقيقة” و “البداهة” [ البداهة ، التي يرى فيها ( ديكارت ) كلّ “الحقيقة” ! ]، ذلكَ لأنّ هذا “الحسّ” [ و ذلك “الفهم” ] يُصرّ على مقتضيات النّفع المباشر الملموس ، “و يكافح المعرفة بماهيّة الوجود ، و هي المعرفة الأساسيّة التي تسمّى من قديم الزّمان بإسم الفلسفة” .

و قد ابتعد ( هايدغر ) ، ساخراً ، إلى أعماق أخرى في أنّنا “فضلاً عن ذلك فإنّنا نحصر أنفسنا داخل حدود المعقوليّة التي يتّسم بها الفهم العامّ ، ما دمنا نتصوّر أنّنا نعيش آمنين وسط هذه “الحقائق” المتنوّعة التي تمدّنا بها تجربة الحياة و الفعل و البحث العلميّ و الإبداع الفنّي و الإيمان الدّينيّ .

إنّنا نشارك بأنفسنا في تمرّد “البديهيّ” على كلّ ما يستحقّ أن يوضع موضع السّؤال (…) .

” إنّ هذا الفهم العامّ يُهيب ببداهة الموجود المنكشف و يُفسّر كلّ تساؤل فكريّ ( أو فلسفيّ ) بأنّه تهجّم على الفهم السّليم و اعتداء على حساسيّته المُريبة” .

[ المصدر – نداء الحقيقة ] .

12▪ و بين شطط الصّوفيين و خَبَالهم في هلاك إدراكاتهم لما يسمّونه “الحقيقة” ، بالهوس و الاندماج .. و بين وثوقيّة “الماركسيين” – و يقينيّاتهم ! – الذين يرون “الحقيقة” في الجزء الأهمّ من المادّيّة التّاريخيّة ، في علاقات الإنتاج ؛ و بين “الحقيقة” تلك التي تشير إلى ذاتها ( كما كان يُحبّ سبينوزا أن يقول ) ؛ فإنّ ( نيتشِه ) ينظر إلى “الحقيقة” على أنّها ذلك الخطأ ، الشّرط ، الملازم للوجود ، و على أنّ “الخطأ شرطٌ للمعرفة” . و على ذلك جرى ( كارل بوبر ) [ حوارات في الفكر المعاصر ] ؛ إذ أنّه كان مؤمناً بواقعيّة أنّ “ما أقصده بقولي إنّنا لا نعرف شيئاً هو أنّنا حتّى عندما نقول “الحقيقة” ..

” إنّنا لسنا ، على العموم ، متأكّدين من أنّ الأمر يتعلّق بها ، و ذلك لأنّنا مُعرَّضون للخطأ. و إذا ما أبعدنا القابليّة للخطأ ، فإنّنا نُبعِدُ الحقيقة ذاتها أيضاً”.

13▪ هكذا نرى أنّ للحقيقة مذاهب و منطلقات و أغراضا و معايير تتعلّق بموقف الذّات المفكّرة من العالم و الوجود ، كما تتبع القدرة على النّفاذ إلى مفردات وتفاصيل المغزى الذي قد يكون هو بدوره خاضعاً لإسقاطات النّفس الفردة أو لإسقاطات الهوى الجماعيّ و التّواضعات الاتّفاقيّة بين مجموعات واسعة من البشر قد تستغرق ، أحياناً ، مجتمعات بكاملها ، و قد لا تكون أبعد من كونها أحد تهويمات و ضروب الفاقات الدّماغيّة و العقليّة ، و ذلك بقدر ما يُشير إليها التّعصّب في اعتناقها و الاعتقاد بها و اعتبارها من تحصيلات الحاصل .

و بالمقابل ، فإنّنا نجد بعض الانسجامات في طرق التّفكير الفكريّة و الفلسفيّة الحرّة التي تنظر إلى “الحقيقة” بوصفها مشروعاً في حالة من التّوتّر الدّائم و الانكشاف الذي يتبع “خطّة الوجود” التي لا يمكن ابتسارها أو اكتشافها عن طريق الإسقاط النّفسيّ أو الذّهنيّ و ذلك مهما كان الفاعلون قد أوتوا .. من حكمة أو عبقريّات .

  • ثانياً – في معايير الحقّ :

14▪ إذا كانت المجادلة واسعة ما بين أصحاب “الحقيقة” و مُدّعي معرفتها و الواثقين من الوقوع في حياضها و المُنتفخين بأوهامهم عليها ، و المُتورّمين ثقةً باستبطانها ، سواءٌ أَعْلَنُوا ذلك أم لم يُعلنوه ؛ فإنّ “الأمر” مع “الحقّ” هو شيء آخر مختلف كلّ الاختلاف عمّا هو مع “الحقيقة” ، ضيّق “الحرّيّة” و “التّحرّر” الفكريّ و الثّقافيّ ، و ذلك على اعتبار أنّ “الحقيقة” امتدادٌ – و هذا أقصى ما يُمكن لنا بها ، و فيها ، و معها ، من تعريف – و انطلاقةٌ من “مبدأ” كلّيّ ، أصليّ ، و قَبْلِيٍّ ، هو “الحقّ” على التّحديد ، بوصفه مبدأً لكلّ “الحقائق” التي تنتظم .. أو لا تنتظم الوجود ، و هذا بحسب عائديّة الاعتقاد و المواقف و المعتقدات !

و إذا كنّا قد لاحظنا في “معايير الحقيقة” أنّها تُفسح المجال واسعاً للمواقف الفكريّة الفرديّة و الفردانيّة و الشّخصيّة و الخاصّة ، و تتبعُ التّجربة الفردة و ربّما الوحيدة ؛ فتكون “الحقيقة” المختلفة عند أصحابها المتنوّعين و المختلفين و الذين على خلاف .. رهينة بالنّظرة الواحدة ، الواحديّة ، إلى الخبرة ، و ربّما من أحد جوانبها أو من زاوية رؤيةٍ من زواياها و مسقطات إحداثيّاتها العديدة و غير المحدّدة ، أو أنّها ملاذ آمن للتّعصّب و التّطرّف و الانعزاليّة التي تقي الكثيرين مغامرة الاستمراريّة في التّفكير و تغيير طرائق التّفكير و تبديل مواقع المعقوليّة بحثاً عن عقلانيّة متعالية باستمرار ، أو أنّها ، على العكس ، تهرّبٌ من التّفكير و التّأمّل و الضّريبة المترتّبة عليهما .

15▪ أمّا عن معايير “الحقّ” فهي معدومة أو تكاد . ليس سبب ذلك أنّه تنقصُه المعايير و المقاييس و الأدلّة و الحضور ، بل بسبب توفّر هذه الأشياء كلّها ، علانية ، بالضّبط .

عندما يتطلّب الشّيء مَعاييرَ ، فهذا لأنّه ، عندها ، يكون في مرحلةٍ هي قبل النّجوز . هذا و لا يحتاجُ “الحقّ” إلى معايير سابقة عليه و هو إليها في افتقار ، على عكس “الحقيقة” التي وجدناها كيف أنّها تستجدي النّابهين و غير النّابهين ، تلفتهم إليها و هي في طور التّكوّن و التّكوين .

16▪ على أنّ هذا ليس كلّ شيء . فالحقّ يُعرف بمصدره عندما يكون له مصدر ، أو أنّه يُشير إلى مصادر الحقيقة عند الّلزوم .

” الّلزوم ” ؟! نعم ! إنّه لطالما كان الحقّ واجباً ، فيما هو “الواجب” ، هو ، عين الّلزوم !

و عندما نُضطرّ إلى أن نمارسَ ، في بحثنا على “الحقيقة” – ( هذا مع أنّنا لا نجد ما يُثير من جدوى للبحث عنه سوى “المعلومة” التي تجزم بكفايةٍ اتّفاقيّةٍ ، غالباً ، في أمر “الحقيقة” ! ) – أو في عملنا على اكتشاف ما يُرادفها ، ما يُشبه الظّنّ أو التّردّد المؤكد محلّ يقينٍ غير جازم و لا حازم – أحياناً ، بخاصّة ! – فإنّ موقفنا من “الحقّ” هو على النّقيض من ذلك ، حصراً ، من جهة أنّ “الحقّ” جازمٌ في حضوره و ذلك في قوّة الأدلّة الدّالّة على الوجود الباعث على وعيه على نحو من الأنحاء .

لا أظنّ أنّ عاقلاً يرى في هذا الكلام متّسَعاً للنّقاش أو للأخذ و الرّدّ ، باعتبار أنّ من أبسط تعريفات “الحقّ” أنّه هو “الوجود – في ذاته” ، “في – جوهره” ، عندما ينكشف – كما هو حاصلٌ على مرأى الجميع – للخلق نفسه ، سواءٌ أكانت هذه المشاهدة واعية أم غير ذلك ، و هذا ، بالضّبط ، ما يُدْخِلُها ( المشاهدة ، العينيّة و العقليّة ) في ممارسة و مشقّة دور إدراك “الحقيقة” ، هذا إن كانت هي – “الحقيقة” – بالأصل معطاة للإدراك !

17▪ نفتقر ، في الواقع ، إلى “معايير” للحقّ كما قلناه . هو بجوهره يرفض المعايير . و على رغم ذلك فإنّ “الحقّ” يتّسع ، في ما يتّسع ، لكلّ ما من شأنهِ أن يتوجّه إليه بإدراك عادل في تجريده و تشخيصه لأهمّ معطياته ( “الحقّ – الوجود” ) في عدالة الوجود .

و مع ذلك فإنّ إدراك “الحقّ” لا يكون إلّا بالمعرفة .. و لهذا غالباً ما ينجح البشرُ بالفَشَلِ في إدراكه .. و لهذا ، أيضاً ، قيلَ “إنّ الحقّ لا يُعرف بالرّجال ، و لكنّ الرّجالَ تُعرف بالحقّ” .

  • ثالثاً – العلاقة بين “الحقيقة” و “الحقّ” :

18▪ كثيراً ما يجري الخلط بين “الحقيقة” و “الحقّ” في معرض القول بالوقائع “الأكيدة” التي تُستخدم كشواهد على إبراز جانب من جوانب السّلوك أو الحدوث دون غيره من جوانب أخرى ، لا تخدم تأكيد المغزى أو الدّلالة المزعومة أو “الأكيدة” في مناسبات التّحديد أو الإثبات .

و لقد وصل الأمر بهذه الطّريقة من الاستخدام إلى ابتذال في الاستعمال و فقدان للقيمة المعرفيّة الاحتماليّة الكامنة في مجرى هذا الاستعمال .

و على العموم ، فإنّه من غير المشكوك فيه ثابت العلاقة ما بين “الحقيقة” و “الحقّ” ، تبعاً لما نراه في تبنّي أبعاد هذه “المنظومة” الغامضة و المنيعة على الاستيلاء التّركيبيّ و على الحكم التّحليليّ معاً ، في واقع الإيمان المتدرّج حتّى الاستماتة بصوابيّة الاعتقاد بحقيقة شيء ما أو بالحقّ في السّلوك ، و اعتماداً على “الثّقافة” الدّافعيّة التي تكمن وراء السّلوك الذي يُشير إلى اعتقاد – من حيث المبدأ ، على الأغلب – يوحي بملموسيّة الرّؤية المحفّزة لدافع هذا الموقف أو ذاك السّلوك ، هذا و لو كانت تلك الرّؤية من الخشونة و الإبهام على درجة تستغرق قناعات أصحابها و لو في ظلام السّلوك أو التّعبير أو الممارسة حتّى الموت أو الانتحار في سبيل ما تضمن له “العقيدة” أو “الاعتقاد” حقيقته بالنّسبة إلى “الحقيقة” و “الحقّ” .

قد لا يعني نقد واقع العلاقة التي تجمع الحقيقة و الحقّ سوى الجانب المعرفيّ ( الإبستمولوجيّ ) من هذه العلاقة عند فحص العمل الاختصاصيّ ، على تجذير المعرفة في أصولها الباعثة على وضوح منطلقات المواقف و الالتزامات الجزئيّة و الكلّيّة ، التي تسوّغ قناعات الأفراد و المجموعات و الجماعات و النّسقيّات الفكريّة الصّانعة للمنظومات .

و على رغم هذا الغموض فإنّ وضوح دوافع “الإبستمولوجيا” ، نفسها ، و الحاجة إليها ، و الاشتغال فيها ، لا يمكن أن يكون جميع ذلك بريئاً من دافعيّته ذاتها تلك التي تقبع وراء الانشغال بالعالم و المجتمع و العلاقات و الأفكار التي تشكّل ، بنفسها ، موضوع المُثير الدّاخليّ أو الخارجيّ أو ذلك الذي لا يمكن تحديده على الضّبط .

19▪ عند التّوسّع في الفهم ، فإنّ علينا ، في هذا الإطار ، النّظر إلى كلّ ما من شأنه أن يُحدث الفارق أو الإضافة أو ما إلى هذا و ذاك على أنّه من قبيل “الحقيقة” ، و بخاصّة إذا لم نستطع التّوصّل إلى لغة نعتمد فيها على ثوابت بخصوص “الحقيقة” ، و هو أمر مستبعد على الإجمال .

فالسّلوك اليوميّ و الخطأ و الصّواب و التّعصّب و التّطرّف و الجريمة و النّضالات و الخذلانات و الصّادّات ، و المعتقدات و الأديان و الأحزاب و القتل و الثّأر و القبح و الجمال و التّنوّع الذي لا ينتهي و لا يُحدّ ، و التّوقّعات و المخاوف و الحظوظ و المصادفات و الجوع و الشّبع ، و شغف المعرفة و شهوة الحيازة و الاستحواز .. وانكشافات الشّريط الجينيّ لكون المكوّنات و التّكوين .. بالتّدريج ؛ و جميع ما إلى ذلك و ما يتّصل به بالطّبيعة أو بالدّرجة أو بالمقدار .. ؛ كلّ ذلك “حقائق” أو “شيئاً” من “الحقيقة” ، أو جزء من هذه أو تلك .

و إذا أخذنا بهذه “الحقيقة” المُثلى .. فإنّنا واجدونا نكسبُ دفعةً من وهج الحرّيّة العقليّة ، مع العلم أنّه دون ذلكَ عَرَقٌ و جهد و كدّ ، لولا أنّ واجب العدالة في “الحقّ” هو ما يُملي علينا مثل هذه العزيمة و هذا الصّبر البازلتيّ .. في الانحياز إلى “الحقّ” .

” الحقّ” صعبٌ مُستصعبٌ على وضوحه .. و “الحقيقة” مستحيلةٌ على انخفاضها إلّا لمن خُلِقَ على مسافة ودودة مع “الحقيقة” و كان ما وراءه “الحقّ” .

20▪ يربط “الحقيقة” ب “الحقّ” الشّيء كلُّه . و كلاهما على وفاق . غير أنّ هذا الاستسهال الفلسفيّ – السّفسطائيّ الإنسانيّ – الشّخصيّ ، العامّ – و ليسَ المُطلق – هو ما يجعل علاقة “الحقّ” و “الحقيقة” علاقة ، أبداً ، مُرتجاة ..

و على ما نزعم ، فإنّ الوفاق السّريّ الشّهير ..(!) بين “الحقّ” و “الحقيقة” ، قد وقع ، و في حالة خاصّة ، تحت ضغط التّأويل الّلغويّ الفقهيّ ( الهارمونيطيقي ) “الآدميّ” ، لِيُنتجَ ما قد جعله ( الوفاق .. ) من خاصّيّات الغياب !

و لأنّ “الرّجاء” و “الأمل” هما سَاقَا البشريّة و قدماها ، فقد انعقدت “القناعات” منذ بدايتها ، و منذ وحشيّتها و كهفيّتها و حجريّتها و بدائيّتها ، على التّوالي .. كما قد قرأنا التّاريخ و عاينّاه على ما نستطيع ، انعقدت على فقاعة من فقاعات “المعرفة” الحدسيّة الفارغة ، ثمّ على فهم و مفاهيم و اتّفاقات ضمنيّة و علنيّة ، لِتُسَجِّلَ أفظع سابقة غابرة منضافة إلى أقصى الجهل المعاصر بالكلمات ، لتقدّم لنا الدّليلَ إثرَ الدّليلِ على انعدام ثقتنا ، كلّ منّا ، بحقائق الآخرين ، فإذا انعدام ثقتنا ، هذا ، يدفعنا ، في ما بيننا ، إلى أقصى أطراف و أجزاء الأقطاب التي لا تحصى ، وفق الخبرة و الحاسوبات الحضاريّة الإنسانيّة المعاصرة جدّاً و “الذّكيّة جدّاً” .. و تالياً إلى انفرادٍ خلف انفراد .

و عندما أزرى بنا ، جميعنا .. ، هذا البينُ العملاق من مسافات الجهل و التّجاهل ، نتجَ عن ذلك أنّنا تحوّلنا إلى مجرّد “أصداءٍ” لكلماتٍ قديمة تنتعش بها “الذّاكرة” ، تشبهُ نغماتِ الرّيح ، القلقة ، التي تُعيد على أسماعنا الثّقيلة بأحاسيسنا الأخرى .. ما أكّد لنا حاجتنا إلى معرفة الحقيقة و الحقّ ، بأحاسيسَ يوميّةٍ فرديّة و جماعيّة لا تصمدُ إلى ما قبل الزّوال من نهار مُبْكِر .

21▪ لاحظنا ، حتّى الآن ، كيف أنّ الّلغة الغُنُوصيّة التي يُقالُ إنّها تعود ، كفلسفة عقليّة أُولى ، إلى أكثر من عشرة آلاف عام ، هي الّلغة الوحيدة القادرة على التّجرّؤ في خوض هذا العالم المعرفيّ ( الإبستميّ ) ، الأونطولوجيّ الذي يواشج الميتافيزياء في رؤية “الحقيقة” ، بينما لا تسمح لنا “المعرفة” أن نُحيط بالحقيقة نفسها ، و الأَولَى أن تسدّ علينا طريقَ الوصول إلى “الحقّ” ، هذا “الشّيء” الذي لا ينكشف لأحد من البشر إلّا ما كان دونه تَجَاوُزَ هذا الطّلبِ في ذلك ، لأنّ المعرفة الفلسفيّة الغنوصيّة لا تُطلب على الحصر ، إذ أنّها تختصر الوهم الإنسانيّ و القلق العقليّ نحو موقف أكثر عقلانيّة ممّا قد عُرفَ على العقلانيّات جميعها حتّى الآن .

22▪ تتطرّق “الغنوصيّة” بجرأة إلى علاقة “الحقّ” ب “الحقيقة” . و يمكن أن تَنْظُرَ إلى زعمها بتعاليمها الفلسفيّة الاستسراريّة على أنّها أحجيّة من عمر البشريّة القديم و غير المعروف و غير المكتوب و غير المقول .. تكاد تكون الأحجية الأكثر إثارة لهلع الجهل البشريّ على مرّ الأحقاب و العصور ، و الذي ما يزال يُراوح في تردّده أعشى العقلِ الذي طغى على كلّ اعتكاف في الثّقة الأكيدة في المعرفة المنقذة لقيم الخلق . إنّه لم يُعطَ هذا الخلق للإدراك من أجل آلام البشر و إنّما كان في هذا الأمر وَحْيُ عقلٍ يتجاوز حُلومَ المنحدرين إلى آخر قائمة التّلاشي في الانتشار في مشروع الزّمان .

لم يكن من المستغرَب و لا من المدهش أن تحتوي أعظم فلسفات التّاريخ المعروفة في منظوماتها الكلّيّة الشّاملة ( سقراط ؛ أفلاطون ؛ أرسطو ؛ هيغل ؛ هايدغر ؛ كيركيغارد ..) على تعاليم للخاصّة و لخاصّة الخاصّة تنطوي على أبعاد و أسرار “غُنوصيّة” لم تعرف طريقها إلى الاستحكام ، بسبب ما قد جنح عنه “العقل” البشريّ الدّعيّ – حتّى الآن – إلى “اكتشافات” هزيلة و متناقضة و غير متّسقة و لا منسجمة و خبيثة و فيها احتقار للعقل الإنسانيّ و مشاغله الرّفيعة ؛ و قد كان من الممكن ، مع قليل من توجّهات الغاية ، الحرّة ، أن تنتهي تلك الاكتشافات إلى “حقيقة” ما ، بل و حتّى إلى “الحقيقة” المشفوعة برعاية “الحقّ” في الظّلام ؛ إلّا أنّ “الغاية” نفسها ، و هذا على ما قد تأكّد في تراكم الضَّياع ، لا تعدو أن تكون “إشارات” و كنايات و استعارات لا تأبه أبداً لملموسيّة “الدّليل” !

23▪ لا يستوي البحث في “الحقّ” بواسطة العلم ؛ هذا و لو أنّ “الحقيقة” لا يُمكن أن تكون ، في الانكشاف و الاكتشاف ، بغير “العلم” . و على ذلك فإنّ علاقة الحقّ بالحقيقة هي علاقة “خارجيّة” ، على عكس ما قد يتوهّم البعض من صلات قربى بين الحقيقة و الحقّ . فالجوّانيّ في الإيحاء الفاضل ( الحقّ ) هو فضلٌ و توسّعٌ ربّما يُقَيَّضُ له أن يتشخّص للنّاظرين و ربّما العكس .

غير أنّه ، و مهما كان إيحاء “المفضول” ( الحقيقة ) في “التّوسّع” و الانكشاف ، فإنّه لا يُقيَّضُ له – بالمطلق – أن يتحوّل إلى “جُوّانيّة” بالنّسبة إلى ما هو خارج عنه ؛ و من البديهيّ أن نفهم ، هنا ، قصدنا بأنّ “الحقيقة” جوّانيّة بالنّسبة إلى “الحقّ” ، و ليس “الحقّ” ، بالنّسبة إلى “الحقيقة” ، هو كذلك .

يقول ( هيغل ) في “أصول فلسفة الحقّ” : ” إنّ الفكرة الشّاملة عن الحقّ – من حيث بدايتها الأولى – تقع خارج علم الحقّ” . و لكنّ هذه الموضوعة “الإشكاليّة” لفيلسوف فلاسفة التّاريخ ( هيغل ) تحمل في مظانّها نقيضين . فهي ، أوّلاً ، يمكن أن توحي بأنّ “فكرة الحقّ” ، نفسها ، هي خارج “دراية” أو “إدراك” الحقّ . و هي ، ثانياً ، تذهب إلى حقل آخر للتّدبّر في أنّ “فكرة الحقّ” هي منيعة على “علم الحقّ” ، بما هو هذا “العلم” نشاطٌ إنسانيّ تالٍ على فكرة الحقّ ، و لهذا هو ( العلم ) ممتَنَعٌ عليه الإحاطة بالحقّ .

في الاحتمال الأوّل ، نكون أمام وهمٍ هيغليّ مؤسف ؛ و في الاحتمال الثّاني ، فنحن أمام “حقيقة” منكشفة لفيلسوف الفلاسفة ، و هذا ما نحبّذه مع شيخ الفلاسفة على مرّ “المقول” ، حتّى اليوم ؛ إذ ما من “حقيقة” تحيط بـ”الحقّ” ، و أمّا العكس فصحيح .

24▪ سنتحفّظ ، أخيراً ، على ما جرى في تاريخ الفلسفة و الفكر من خلط بين”الحقّ” و ” القانون ( الوضعيّ ) الذي هو غير ما نقصده بـ” النّاموس ” . و لقد وقع ( هيغل ) ، نفسه ، أيضاً بهذا ” الإلتباس ” – على ما نرى ، – فكان الفكر في التّاريخ ، و كذا الفلسفة ، قد وقعا في الدّائرة المغلقة ، الفارغة ، نفسها ، تلك التي لم تأبه كثيراً إلى علاقة “الحقّ” مع “الحقيقة” ..

إذ ننظر إلى “القانون” بوصفه أحد مندرجات “الحقيقة” على ما مثّلنا عليها ، أعلاه ؛ فيما يبقى “الحقّ” خارجيّا بالنّسبة إلى الحقيقة ، و جوّانيّا بالنّسبة إلى ذاته ؛ في حين أنّ “الحقيقة” خارجيّة على “مَرَّتَين” ، بالنّسبة إلى ذاتها ، أوّلاً ؛ ثمّ ، ثانياً ، بالنّسبة إلى انكشافها “الصّريح” – و المبهم و الغامض ، في وقت واحد – كمتخارجة ذاتيّة بالنّسبة إلى “الإدراك” ؛ و في هذا اختلاف واضح ، و تمايزٌ مراتبيّ متين .. ما بين “الحقيقة” و “الحقّ” .

25▪ هذا حديث طويل لا ينتهي في “الحقيقة” و “الحقّ” . و ربّما كان التّهيّب الفكري المألوف من الخوض فيه ، هو اعتراف “معرفيّ” و فلسفيّ طويل ، بلا إحكاميّة أو مُحكَميّة الّلغة و الأدوات و العبارة و الإشارة ..

و هذا هو ، المجال الأكثر غنًى و خصوبة أمام العقل المفكّر الذي يضني تبجّحه حتّى الآن و حتّى اليوم .

* ( الغُنُوصيَّة ) : هي نَزعة فِكريَّة ترمي إلى مَزْج الفلسفة بالدِّين ، وتَشتَمل على طائفة من الآراء المَضنون بها على غير أَهلها ، وتُطلَق خاصَّة على جماعة من المُفكِّرين في القَرنَين الأَوَّل والثَّاني للميلاد .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى