90 عاماً على ميلاد العندليب الأسمر (1-2)
بقلم : زياد شليوط
يعود الحديث ليتجدد عن عبد الحليم حافظ، ونحن نقف على مسافة أكثر من شهر لحلول ذكرى ميلاده التسعين، ذلك الحديث الذي لم ينقطع يوما، منذ وفاته قبل 43 عاما في نهاية آذار 1977، حتى يصدق فيه القول أنه ما زال يشغل الناس على صعيدين، الأول متابعة أغانيه بشغف وبشكل غير منقطع وغير مسبوق من قبل عشاق فنه خاصة والجمهور العربي عامة، والثاني مواصلة الحديث عن عبد الحليم إعلاميا في تلقف آخر أخباره أو أسرار حياته وما ينتج عنها من حكايات وشائعات حتى اليوم، والتي تتصاعد سنويا وتتكثف في ذكرى وفاته من كل عام.
ومع أن ذكرى وفاته الأخيرة في مارس الماضي، مرت هادئة نوعا ما، الا أن بوادر السخونة بدأت تظهر مع اقتراب ذكرى ميلاده التسعين في حزيران القادم. وقد لفت نظري أن التسخين يأتي من بلادنا وليس من مصر على عكس المتوقع، وفي هذه المقالة سأتناول ما جاء من إساءة لعبد الحليم في مقالين من كاتبين أحدهما يهودي والآخر عربي.
كتب جبريئيل م. روزنباوم في ملحق “هآرتس” الأدبي – الفني ليوم 8/5/2019، مقالا عن أم كلثوم بعدما حضر عرضا غنائيا لأغانيها في القاهرة مؤخرا، أورد فيه أكثر من حادثة على لسان محمود، ضابط الإيقاع في الفرقة الماسية والتي سمعها منه شخصيا كما يذكر.
الحادثة الأولى، والتي لم أسمع بها من قبل، تقول أن أعضاء الفرقة الماسية سافروا مع عبد الحليم إلى دمشق، لكن ما أن صعدوا الى الطائرة جاءت أوامر بعودتهم، وتبين أن أم كلثوم تريد تسجيل أغنية في الإذاعة وهي معتادة على عازفي الفرقة، مما سبب غضب عبد الحليم.
الحادثة الثانية وهي حادثة معروفة، والتي جمعت بين عبد الحليم وأم كلثوم في الحفل الغنائي بعيد ثورة 23 يوليو وبحضور الرئيس جمال عبد الناصر، حيث اعتلت أم كلثوم المسرح أولا واستمرت تغني حتى ساعات الفجر، وهذا ما اعتبره عبد الحليم محاولة منها لمنعه من الغناء.
ما يثير في الأمر أن الكاتب وضع رأيه الشخصي، الذي ادعى فيه أن عبد الناصر ” بمكانته وبشخصيته لم يجرؤ على الطلب من أم كلثوم أن تنزل عن المسرح وهكذا لم يغن عبد الحليم تلك الليلة”. هنا يظهر النقص في المعلومات لدى الكاتب أو أنه يهدف الى الطعن في عبد الناصر ومكانته والإساءة له. فالمعروف أن عبد الحليم ورغم ما قامت به أم كلثوم انتظر واعتلى المسرح بعدها، وقبل أن يغني قال عبارته المشهورة بأن الغناء بعد أم كلثوم يعد إما تكريما أو مقلبا، فغضبت أم كلثوم من مقولته وحصل خصام وجفاء بينهما.
ويروي عبد الحليم في مذكراته لايريس نظمي بأنه لم يشارك في حفل الثورة في العام التالي في أعقاب ما حدث، وانتبه عبد الناصر الى غيابه، وعرف المشكلة، فاتصل الرئيس بعبد الحليم طالبا منه المشاركة في حفل الثورة في الإسكندرية بعد ثلاثة أيام، وفعلا شارك عبد الحليم وحرص الريس على حضور الحفل، ويروي حليم ” شعوري بالاهانة زال باصرار الرئيس جمال عبد الناصر على اشتراكي في حفل الإسكندرية وبحضوره الحفل وبقائه فوق مقعده حتى لحظة انتهائي من الغناء. كان ذلك أكبر تكريم لي، ولو لم يحدث ذلك لظللت أتألم سنوات طويلة من هذه الإهانة التي لحقت بي دون ذنب مني”. (ص 120)
وفي مكان آخر أيضا يسيء الكاتب عن قصد كما يظهر، للرئيس والزعيم جمال عبد الناصر بالعودة للقول: ” حتى الرئيس لم يتمكن من الوقوف أمام قوة أم كلثوم، واضطر الى تلبية رغبة المغنية حتى عندما مس الأمر بالمغني الأثير عنده”. لكن الوقائع وما جاء على لسان عبد الحليم، يفند ما يذهب اليه روزنباوم من محاولة رخيصة ومكشوفة لإساءة الى الزعيم.
ورغم أن الكاتب يعترف في مكان آخر بأن عبد الناصر وفق بين عبد الوهاب وأم كلثوم وفض الخلاف بينهما، والذي نتج عنه أغنية ” انت عمري”، إلا أنه صور الأمر وكأن عبد الناصر غضب من عبد الوهاب، وبناء عليه استجاب عبد الوهاب لطلب عبد الناصر. وهذا يظهر رغبة الكاتب بالإساءة لعبد الناصر. لأن تلك الحادثة مشهورة ومعروفة، ويذكرها الأستاذ سامي شرف، مدير مكتب الرئيس عبد الناصر في حديثه مع الصحفي عبد الله إمام في كتابه ” عبد الناصر كيف حكم مصر؟”، فيقول شرف أن عبد الناصر طلب منه أن يوصل لعبد الوهاب رغبة عبد الناصر في لقاء قمتي الفن في مصر والعالم العربي في عمل مشترك، ويتابع ” .. وجاء عيد العلم 1964 حيث كان قد تقرر تكريم الأستاذ محمد عبد الوهاب وسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وعندما تقدم عبد الوهاب للمنصة قال له الرئيس: امتى حانسمع لحن لك تغنيه السيدة أم كلثوم؟ فقال له عبد الوهاب: حاضر يا سيادة الرئيس.
ووجه عبد الناصر نفس السؤال لسيدة الغناء العربي، فقالت: يا ريس أنا مستعدة وجاهزة أغني أي لحن لمحمد.
وكانت ” انت عمري” ” (ص 305)
ومن خلال تلك الشهادات نتعرف الى جانب من شخصية الزعيم الخالد عبد الناصر، في احترامه لفناني مصر وخاصة الكبار وتعامله الإنساني معهم، وهناك شهادات عديدة أخرى، في أنه لا يستخدم سلطاته معهم، بل جاء تعامله إنسانيا ومن منطلق الاحترام والتقدير، ونختم هذه الحلقة بما قاله عبد الناصر عن الفنانين الكبيرين كما نقلها سامي شرف ” ومن أقوال عبد الناصر التي لا أنساها: لقد استطاع فن محمد عبد الوهاب وفن أم كلثوم أن يجمع العرب من المحيط إلى الخليج” (ص 306)
في الحلقة القادمة سأتوقف عند الخلاف بين الصديقين عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي.