الليبرالية العربية .. جدلية الدين والحداثة

القاهرة- كتب سمير محمد شحاتة

 

الليبرالية هى أحد أبرز منتجات الفكر الديمقراطى الغربى للدولة الحديثة القائمة على المواطنة، وسيادة القانون، والتعددية السياسية، واحترام حقوق الإنسان، وحقه فى الاختلاف مع الآخر. وقد تطور الفكر السياسى فى الحضارة الإسلامية مع الأحداث السياسية التى أنتجت واقعاً جديداً اجتهد الصحابة العلماء فى التعاطى معه من أجل التنظير للسلطة السياسية وعلاقتها بالمجتمع، ويمثل نموذج دولة المدينة التى أسسها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ودستورها المتمثل فى (الصحيفة) ، والتى حددت فئات الدولة من مسلمين، ويهود، ومشركين، ونص عليهم قبيلة قبيلة، يكونون جميعهما أمة من دون الناس. ونصت الصحيفة على حقوقهم وواجباتهم باعتبارهم مواطنين، وبينت حدود إقليم الدولة (يثرب). وتُعد هذه الصحيفة فى نظر فقهاء القانون الدستورى سبقاً دستورياً تعرضت لأهم قضايا الدولة كالمواطنة وشروطها. ومقاربة مفهوم الليبرالية بالفكر الإسلامى يحتاج إلى قراءة لتطور المفهوم فى الفكر الغربى منذ بداية (العقد الاجتماعى) عند توماس هوبز، والتمييز بين الليبرالية، كفلسفة قائمة بالأساس على مقولتى الحرية والفردية،  ونماذج وآليات عمل الليبرالية المتنوعة، التى تحمل تحيزات اجتماعية وتاريخية، وهو ما جعلها أكثر من نموذج فى الفكر الغربى ذاته.

المدخل الفلسفى لمفهوم الليبرالية:

تبدو الليبرالية تحديداً من أكثر المفاهيم إثارة للإشكاليات والجدليات الفكرية. فهى من الناحية التاريخية يصعب الوقوف على نقطة انبثاق معينة زمانياً ومكانياً. ومن ناحية أخرى، يمكن وصف الليبرالية بأنها مصطلح يقبل وليس ثابتا لتلوين فى سياقات حضارية وفكرية مختلفة من حيث المنطلق الفكرى. فمفهوم الليبرالية قد يختلف من مجتمع لآخر. فالليبرالى فى أمريكا قد يبدو محافظاً فى بريطانيا أو السويد مثلاً، والمحافظ فى أمريكا قد يظهر كليبرالى فى مصر، ذلك يجعل من الليبرالية مفهوماً نسبياً، إن الليبرالية مصطلح مرن مطاط يُفهم حسب سياقه الظرفى سياسياً، واجتماعياً، لكنهم واقتصادياً. كما أنها فكرة متفاوتة اجتماعياً عنها سياسياً واقتصادياً. فالاشتراكيون قد يُظهرون ليبرالية، اجتماعية، لكنهم مع الاقتصاد الموجه أو العام، وضد الليبرالية الاقتصادية الرأسمالية، والمحافظ الرأسمالى لديه اقتناعات  ليبرالية اقتصادياً، لكنه محافظ سياسياً. والإسلاميون قد يبدون ليبراليين فى المجال السياسى، لكنهم محافظون فى المجال الاجتماعى الثقافى، وضد الليبرالية الاجتماعية التى تدعو إلى التحرر من المنظومة الأخلاقية للدين.

الليبرالية فى الفكر الإسلامى:

على الرغم من وجود ظاهرة الجماعات السياسية فى المجتمعات الإسلامية، والتى تمثلت فى الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية، والتى كان لها فى الغالب رؤى وبرامج سياسية مختلفة عن بعضها، وعما قائم من نظام سياسى، فإن فكرة الأحزاب السياسية فى صورتها القائمة تعد أحد منتجات الفكر الغربى الحديث، وتطور النظم السياسية. بالتالى، فإن ظاهرة الأحزاب السياسية فى صورتها الحديثة قد انتقلت إلى المنطقة العربية من المجتمعات الغربية.

كما أن ظاهرة الأحزاب السياسية لم تكن محل اهتمام العلماء القدامى، فى حين اهتم بها العلماء والمفكرون الحداثيون والمعاصرون كظاهرة طُرحت فى السياق السياسى تحتاج إلى الاجتهاد، والتنظير الفكرى، وهو ما جعل ظاهرة الأحزاب السياسية محل اختلاف بين العلماء والتى أنتجت ثلاثة اتجاهات رئيسية من منطلقات شرعية حاول كل فريق تبرير موقفه منها بالأدلة الشرعية والعقلية:

 1– الاتجاه الرافض لوجود الأحزاب السياسية داخل المجتمع.

 2– الاتجاه المؤيد لوجود الأحزاب السياسية، ولكن فى إطار مرجعية الشريعة الإسلامية.

3 – الاتجاه المؤيد لوجود الأحزاب السياسية حتى لو كان لها مرجعيات علمانية.

الوعى الثقافى لليبرالية العربية:

يمثل الوعى الثقافى لليبرالية فى عالمنا العربى إحدى أبرز هذه الإعاقات من الناحية الإبستمولوجية، على اعتبار أن الليبرالية هى بالأساس مشروع ثقافى قبل أن تكون نظاماً سياسياً واقتصادياً، وإذا لم تحقق قيم الليبرالية فى الوعى أولاً لن تحقق فى الواقع، وسيظل الحديث عن الليبرالية حبيس النقاش الجدلى النظرى. فالديمقراطية ليست حكم الشعب للشعب أو النظام السياسى القائم فحسب، بل التكيف الأخلاقى للناس وطريقة تفكيرهم وما يقيمونه من فلسفة لها. فالنظام الديمقراطى كما يرى مالك بن نبى مشروع تربوى للشعب كافة على الصعيد النفسى، والأخلاقى، والاجتماعى، والسياسى، فليست الديمقراطية مجرد عملية نقل السلطة إلى الجماهير، والإعلان أن الشعب هو صاحب السيادة بموجب الدستور. ففى انجلترا ليس هناك نص دستورى يضمن حريات الشعب البريطانى، وإنما الضامن الوحيد هو العقلية البريطانية الواعية بحقوقها.

وتتجلى أهمية الوعى الثقافى فى مقاربة الليبرالية داخل الخطاب الإسلامى، وتتزايد أهميته على أساس أن الإسلام منظومة حضارية لها خصوصية ثقافية ومنظور فى التعاطى مع الآخر فى جميع مجالات الحياة، والذى ظل يقدم الحلول لكل الإشكاليات التى واجهتها الأمة على مدار تاريخها. إلا أن الإشكالية لم تكن فى الانفتاح على النموذج الغربى الحداثى، بل فى كيفية التعاطى معه، وطبيعة النظرة للموروث الثقافى. وقد وقعت قيم الحداثة الغربية بشكل عام، والليبرالية بشكل خاص تحت أسر قراءتين انعكسا بالسلب عليها مما أعاق ترسيخها فى الوعى العربى هما: القراءة العلمانية الأصولية للظاهرة الإسلامية، والقراءة اليوتوبية للظاهرة الإسلامية.

ويعد الوعى الثقافى هو أساس التجربة الغربية الليبرالية فى عصر الأنوار، والذى بدأ بالاعتراف بالفرد كياناً مستقلاً عن الدولة والمؤسسة الدينية، وتعود إرهاصاته إلى عصر الإصلاح الدينى على يد مارتن لوثر، وجون كالفن بتبديد أشكال الاستبداد الثقافى (الأكليروس الدينى). ثم جاءت إسهامات فلاسفة التنوير، أمثال توماس هوبز، وروسو فى ترسيخ العقد الاجتماعى بإسقاط إدعاءات السلطة والملوك والأباطرة باستئثارهم (بالحكم الإلهى المقدس)، ورد السلطة السياسية إلى العلاقة التعاقدية بين الشعب والسلطة السياسية، وسحب ممتلكات المؤسسة الدينية لمصلحة المجتمع المدنى. وهكذا تكونت الليبرالية الغربية فى الوعى الغربى بفضل المناخ الثقافى للإصلاح الدينى، وفلسفة التنوير فى أوروبا.

الخصوصية الثقافية لليبرالية العربية

يرتبط مستقبل الليبرالية العربية فى العالم العربى بمدى الوعى بالخصوصية الحضارية والثقافية للحضارة الإسلامية، إلى جانب القراءة العميقة لليبرالية الغربية من أجل بناء رؤية ليبرالية ثقافية. والخصوصية الثقافية لا تعنى الانغلاق والتحيز غير الواعى، بل انفتاح وحوار يراعى مكونات الثقافة العربية والإسلامية الرئيسية. لأن الثقافة ليست تراكماً معرفياً بين دفات الكتب، تنقل من مكان إلى مكان، وإنما هى محيط من الأفكار والقيم والعادات يغذى جنبات الحضارة ويعطى لها سمتها الخاص، وهى مجموع ثمرات الفكر فى ميادين الفن، والفلسفة، والعلم، والقانون. وهى منطلقات دينية وفكرية، وأمزجة نفسية، وبيئة اجتماعية، ونظرة للكون وما ورائه، والحياة وما بها من متغيرات، والإنسان وما به من تناقضات. هذه الإشكالية الثقافية تعرض لها الدكتور زكى نجيب محمود فى كتابه (تجديد الفكر العربى) الذى اطلع على التراث فى أواخر عمره العلمى، حيث رأى أن مشكلة المشكلات فى حياتنا ليست هى، كم أخذنا من ثقافات الغرب. فتحديث المجتمعات لا يمكن اختزاله بالاكتفاء بنقل الأفكار الجاهزة عن الغير، بل إنها عملية حراك ثقافى واجتماعى بين الوافد الجديد، والموروث، وصياغة رؤية جديدة تعبر عن انتماء حضارى يراعى مستجدات الواقع.

الليبرالية لدى الحركات الإسلامية:

يرى العديد من المفكرين على أن الحياة العقلية للشرقيين بصفة عامة، والمصريين بصفة خاصة أوثق اتصالا بحياتهم الدينية منها بالتفكير الفلسفى الخالص. وقد أثبتت الدراسات السلوكية أن أساليب التنشئة الدينية فى الأسرة مبكراً تؤثر فى نظرة الشخص السياسية. فالدين ركن جوهرى فى الثقافة السياسية للإنسان بوجه عام، ويمثل نموذجاً أخلاقياً يمد الإنسان بقيم وآداب معينة. هذه القيم ليست قيماً حسبية الوجدان والشعور، بل لها دلالاتها الاجتماعية. فالدين يلعب دور الضابط للسلوكيات الاجتماعية، كما تلعب المؤسسة الدينية كقناة للحراك الاجتماعى.

وفى واقعنا المعاصر تعددت التكوينات الإسلامية بين الجماعات والأحزاب والهيئات، وطرق تبنى المرجعية الإسلامية. إلا أنه يمكن اختزالها جميعاً فى ثلاثة تيارات رئيسية تندرج تحت كل تيار مجموعة من الاتجاهات تتفق فيما بينها على منطلقات عامة، وتختلف فى آليات وأولويات العمل والاستراتيجية فى تغيير الواقع، وهو ما ينعكس على مدى قبول النماذج المعرفية لهذه التيارات لقيم الليبرالية والديمقراطية وهى: التيار الصوفى، ونظيره السلفى، و الحركى.

الوعى الطبقى لليبرالية العربية

تعانى التجربة الليبرالية العربية من تآكل الطبقة الوسطى أقرب الطبقات لقيم الليبرالية، والتنوير، والحرية، والحوار، نتيجة تكوينها الثقافى، وتنشئتها الاجتماعية، بسبب الوقوع تحت وطأة تجاوزات، منها: عدم الاستقرار النسبى على السلم الاجتماعى، واتساع دائرة التهميش والفقر، وظهور طبقات طفيلية جديدة أعلى السلم الاجتماعى، وهو ما يعرض أفرادها من الشريحة السفلى إلى السقوط إلى الطبقة الدنيا، إذا حدث تغيير فى بعض قوانين الرعاية الاجتماعية من قبل الدولة، فى حين تبدو الشريحة العليا لهذه الطبقة أسيرة تطلعها إلى الطبقة العليا تلتمس الفرصة للقفز إلى أعلى.

فنسيج الطبقة الوسطى القديمة من أصحاب الملكيات والأعمال التجارية المتوسطة الحجم والصغيرة، وأصحاب الصناعات والمهن الحرة التقليدية والمهارات البسيطة، وأصحاب الدكاكين، والوكلاء بين الإقطاعيين والفلاحين، أو بين الرأسماليين والعمال، كذلك تشمل بعض الموظفين المدنيين فى الدولة والجيش، والمؤسسات التربوية والدينية، إلى جانب التقليديين من علماء وقضاة.

أما الطبقة الوسطى الجديدة، فهى تتألف من خريجى الجامعات والمهنيين، ومن إداريين ومحامين ومهندسين، وأطباء، وضباط الجيش، وموظفى القطاعات الخاصة والعامة ممن يُعرفون فى السوسيولوجيا الغربية بذوى الياقات البيض لتمييزهم عن ذوى الياقات الزرق من عمال الدكاكين الذين يقومون بأعمال يدوية.

فى التجربة المصرية كان هناك بداية لنشأة مشروع ليبرالى اقتصادى للطبقة الوسطى، والذى قاده طلعت حرب، لكن الاحتكارات الاقتصادية أجهضته، وهى ذات الاحتكارات التى قاومت الحقوق الليبرالية للعامل والمواطن من حيث حقه فى تأمينات اجتماعية، وفى إجازات مدفوعة الأجر، وفى تحديد لعدد ساعات العمل، وفى تكوين نقابات.

  الدين والمجتمع المدنى العلمانى:

على الرغم من أن المجتمع المدنى فى الغرب هو إحدى ثمار العلمانية، فإن الدين يلعب دوراً مهماً فى تنشيط المجتمع المدنى الغربى. ففى الولايات المتحدة الأمريكية، تشير الدراسات إلى أن الذين يذهبون إلى الكنيسة على الأقل مرة فى الشهر يتبرعون بجزء من دخلهم أعلى ثلاث مرات ممن هم أقل من حيث الارتباط الدينى. وعلى الأرجح، فإن المستوى العالى للعمل الأهلى التطوعى، ويصل إلى 50 % من الأمريكيين الذين يتطوعون بشكل منتظم يسمح بإرجاعه بطريقة مقارنة إلى درجة عالية من الارتباط الكنسى والتدين. وهذا التأثير الكبير للممارسة الدينية النشطة فى العمل الأهلى بالنسبة لدولة معلمنة، مثل ألمانيا، موجوداً، حيث إن الاستعداد للتبرع يختلف بين غرب ألمانيا وشرقها، والذى يمكن إرجاعه إلى تأثير الدخل والتأثير المذهبى. ففى غرب ألمانيا يتبرع الأشخاص بنسبة أكثر، وذلك لأن الدخل أعلى والارتباط الكنسى أقوى من شرقها، والأشخاص ذوو الانتماء المذهبى يشاركون فى التبرعات بنسبة 69 %، فإذا كان ارتباطهم الكنسى أقوى تزيد النسبة إلى 84 %، بينما تبقى نسبة غير المرتبطين مذهبيا عند 55 %.

 لذلك، يمكن القول إن وجود مجتمع مدنى قوى لدى الدول العربية هو أحد أهم التحديات للتحول الليبرالية فى شكلها الاجتماعى العام، والتى ينعكس بالطبع على الحياة السياسية والثقافية للمجتمع. ويتجاوز اختزالها فى الحيز السياسى، لكى تضحى ثقافة مجتمع مدنى متحضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى