أزمة الديمقراطيات الغربية بعد تراجع احزاب اليسار وتصعد جماعات اليمين

تتعدد المظاهر التي تشير إلى أن الديمقراطيات الغربية تشهد أزمة حقيقية تهدد استقرار نظمها السياسية. تمثلت أهم مظاهر هذه الأزمة في تصاعد شعبية التيارات اليمينية الشعبوية في العديد من الدول الديمقراطية في السنوات الأخيرة، وانقلاب هذه التيارات على العديد من ثوابت منظومة الديمقراطية الليبرالية كما عرفها الغرب. ومن الملفت أن النخب السياسية في الدول الغربية، وكذلك دارسو العلوم السياسة يقفون عاجزين أمام فهم هذه الأزمة، وذلك ربما لأنهم كانوا يؤمنون لفترة طويلة بأن الديمقراطية الليبرالية كما نشأت في الدول الغربية تمثل “نهاية التاريخ” أو النموذج الذي تتطلع له جميع دول العالم كما أدعى عالم السياسة الأمريكي “فرانسيس فوكوياما” بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

هذه الدراسة تسعى لرصد أهم مظاهر أزمة النظم الديمقراطية في الغرب، وطرح رؤية جزئية حول بعض الأسباب السياسية والمؤسسية لهذه الأزمة، وأخيرا استعراض بعض المقاربات النظرية التي يتم استخدامها لفهم مجريات الوضع الراهن في البلدان ذات النظم الديمقراطية الراسخة.

أولاً: مظاهر أزمة الديمقراطيات الغربية

تتعدد مظاهر أزمة الديمقراطيات الغربية، وتتمثل بالأساس في تصاعد المعارضة الشعبية للمنظومة الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة في الدول الغربية، وتصاعد الأصوات الرافضة للعولمة ومشاريع التجارة الحرة ومشاريع الاندماج الاقتصادي، والمطالبة بسياسات اقتصادية حمائية والانسحاب من اتفاقيات التجارة الحرة ومن مشروعات الاندماج الاقتصادي مثل الاتحاد الأوروبي واتفاقية نافتا، بالإضافة إلى تصاعد التيارات الرافضة لتزايد وجود الأقليات العرقية والدينية في المجتمعات الغربية ولسياسات التمييز الإيجابي الداعمة لهذه الأقليات، فضلا عن المطالب المتزايدة بفرض سياسات تحد من الهجرة ومن سياسات التمييز الإيجابي واستبعاد المهاجرين الجدد من شبكات الحماية الاجتماعية.

كذلك شهدت العديد من الديمقراطيات الغربية في السنوات الأخيرة ظاهرة تراجع شعبية الأحزاب التقليدية على يمين الوسط ويسار الوسط والتي هيمنت على الساحة السياسية في الدول الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع تراجع نسب المشاركة السياسية في الانتخابات في تلك الديمقراطيات، وكذلك نسب الانتماء للأحزاب السياسية، وانخفاض نسب الثقة في النخب السياسية بشكل ملحوظ، وهو ما تزامن مع تزايد الاحتجاجات والحركات غير الرسمية مثل حركة “السترات الصفر” في فرنسا وتراجع دور النقابات ومنظمات المجتمع المدني التقليدية.

وأخيرا، تمثلت أهم وأخطر مظاهر أزمة النظم الديمقراطية الغربية في السنوات الأخيرة في تصاعد شعبية الأحزاب الراديكالية على أقصى اليسار واليمين في تلك الديمقراطيات على حساب الأحزاب السياسية التقليدية، خاصة نجاح عدد من التيارات الشعبوية اليمينية في الوصول إلى السلطة في عدد من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل والمجر وبولندا والنمسا وتصاعد حصتها من الأصوات الانتخابية في دول مثل السويد وألمانيا وهولندا، ونجاحها في دفع بريطانيا للتصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما أدى إلى تصاعد المخاوف من إمكانية تراجع الديمقراطية الليبرالية في عقر دارها في الدول الغربية وانتشار نظم ديمقراطية ذات طابع شعبوي غير ليبرالي illiberal democracy.

ثانيا: الأسباب السياسية والمؤسسية للأزمة

تعود أزمة النظم الديمقراطية الليبرالية في الدول الغربية إلى العديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكننا سنركز هنا على أحد جوانب هذه الأزمة وهو البعد المؤسسي والسياسي، خاصة ظاهرة  تغول البعد الليبرالي بشقيه الاقتصادي والسياسي على البعد الديمقراطي (حكم الأغلبية والسيادة الشعبية). ويرى العديد من المراقبين في هذا الإطار أن العديد من الديمقراطيات الليبرالية في العالم الغربي قد تحولت إلى نظم ليبرالية شبه ديمقراطية أو إلى نظم أوليجاركية؛ حيث تمتقويض الإرادة الشعبية إلى حد بعيد بينما يتم صنع واتخاذ القرارات المصيرية في الغرف المغلقة ومن خلال مؤسسات غير منتخبة مثل جماعات المصالح والبنوك المركزية والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد، وهو ما تجسده تجربة حزب “سيريزا” في اليونان الذي وصل إلى السلطة بناء على برنامج رافض لسياسات التقشف التي فرضتها الترويكا الأوروبية على اليونان، وانتهى به الأمر إلى قبول هذه السياسات رغم الرفض الشعبي الواسع لها.

ويعود تراجع الشق الديمقراطي وتغول الشق الليبرالي إلى عدد من العوامل السياسية والمؤسسية، نشير فيما يلي إلى أهمها:

1- هيمنة نخبة ضيقة من الأحزاب السياسية على يمين ويسار الوسط على العملية السياسية في الديمقراطيات الغربية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اتسمت هذه المرحلة بتناوب السلطة بين عدد محدود من الأحزاب التي تبنت توجهات اقتصادية متقاربة إلى حد بعيد، واقتصرت الخلافات بينها على قضايا ذات طابع اجتماعي وحقوقي. كذلك اتسمت هذه النخبة بتكوين اجتماعي متجانس إلى حد بعيد، فهي حتى وقت قريب كانت تتكون بالأساس من الرجال من خريجي جامعات القمة والذين ينحدرون من طبقات اجتماعية متوسطة وعليا. وفي السنوات الأخيرة، ورغم تزايد نسب النساء والأقليات في أوساط النخب السياسية، إلا أن الطابع النخبوي من الناحية التعليمية والاقتصادية ظل مهيمنا، الأمر الذي حال دون حدوث تغيرات جذرية في توجهات النخب الحاكمة رغم تزايد تنوعها الداخلي.

2- تبنت معظم الديمقراطيات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أسلوب حكم تفاوضي وتوافقي، حيث يتم حسم معظم القرارات الخلافية من خلال المفاوضات والمساومات بين النخب السياسية. ورغم تعزيز هذه الآلية للوسطية وللسلم المجتمعي في مرحلة ما بعد الحربين إلا أنها أدت على المدى الطويل إلى انتقال عملية صنع القرار إلى الغرف المغلقة وخارج الهيئات المنتخبة، والى إحساس متزايد لدى المواطنين أن الإرادة الشعبية أصبحت غير ذات أهمية لدى صناع القرار.

3- تصاعد دور التكنوقراط والمؤسسات غير المنتخبة وجماعات المصالح على المستوى المحلي، وخاصة دور القضاء والبنوك المركزية والهيئات المتخصصة في حسم العديد من القضايا الخلافية والمحورية ما أدى إلى نزع العديد من القضايا من المجال الديمقراطي إلى المجال القانوني أو التكنوقراطي.

4- تصاعد دور المنظمات غير المنتخبة على المستوى الإقليمي والدولي مثل الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة الدولية والاتفاقيات الاقتصادية النقدية والمالية واتفاقيات التجارة الحرة المختلفة، والتي يقوم بإدارتها خبراء غير منتخبين وغير مسائلين من قبل الناخبين الذين يتأثرون بقرارات هذه المنظمات ما أدى إلى نزع الكثير من القرارات الاقتصادية من المجال الوطني ومن الهيئات المنتخبة إلى المجال الإقليمي أو الدولي.

5- تصاعد دور جماعات المصالح في عملية صنع القرار من خلال تزايد دور المال السياسي في حسم السباقات الانتخابية في العديد من النظم الديمقراطية ما جعل المرشحين في العديد من الدول الديمقراطية أكثر حرصا على إرضاء جماعات المصالح التي تمولهم أكثر من حرصهم على إرضاء الناخبين. وتتجلى هذه الظاهرة بشكل واضح في النظام السياسي الأمريكي، حيث يلعب المال السياسي وجماعات المصالح دورا كبيرا في تحديد السياسات التي يتبناها المرشحون. وتعد مسألة القوانين المنظمة لحمل السلاح أبرز مثال على هذه الظاهرة، فقد أدت هيمنة “الجمعية الوطنية للبنادق” على الحزب الجمهوري إلى معارضة الحزب أية محاولة جادة لتنظيم عملية حمل السلاح في الولايات المتحدة رغم وجود طلب شعبي متزايد على ذلك.

6- تزايد الفجوة بين مواقف النخب الحاكمة والمواطنين حول قضايا المهاجرين والأقليات، حيث أدى التوسع السريع وغير المسبوق في عدد المهاجرين إلى الدول الغربية من دول الشرق والجنوب إلى اختلال التوازن السكاني والثقافي في هذه الدول، وإلى شعور قطاع عريض من الأغلبية المسيحية البيضاء بالتهديد وعدم الأمان. وفي أوروبا يلوم هؤلاء النخب الحاكمة التي انجرفت نحو التوسع السريع وغير المحسوب في عضوية الاتحاد الأوروبي ما أدى إلى نزوح عدد كبير من المهاجرين من دول شرق وجنوب أوروبا إلى دول غرب أوروبا، بالإضافة إلى السياسة المنفتحة نسبيًا التي تبنتها بعض دول الاتحاد الأوروبي تجاه قضايا الهجرة واللجوء في السنوات الأخيرة والتي رفضتها العديد من الدول الأخرى في الاتحاد مثل المجر وبولندا. وقد أدت قرارات مثل تلك التي اتخذتها أنجيلا مركل بالسماح لحوالي مليون لاجئ سوري بالإقامة في ألمانيا إلى توسع حالة السخط الشعبي تجاه النخب الحاكمة والتي اتخذت قرارات مصيرية تمس مستقبل التركيبة السكانية والثقافية دون الرجوع إلى شعوبها.

7- تحول دور أحزاب اليسار في الدول الغربية من الاهتمام بقضايا الطبقات العاملة والدنيا إلى الاهتمام بقضايا تهم الطبقات الوسطى بعد أن أعاد اليسار تحليل طبيعة الصراع في المجتمعات ما بعد الصناعية على أنه صراع بين ذوي الياقات البيضاء والطبقات الرأسمالية ما أدى إلى خروج الطبقات العاملة من المعادلة السياسية، بعد أن اتجهت أحزاب اليسار إلى تمثيل الطبقات الوسطى الجديدة والقضايا ذات الطابع النوعي والحقوقي التي تشغل هذه الطبقة.

8- هيمنة القضايا النوعية والحقوقية على الأجندة السياسية مثل حقوق المرأة والأقليات والبيئة والحقوق الجنسية، على حساب القضايا ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والتي أصبحت تُحسم بشكل متزايد من قبل جماعات المصالح والخبراء أو التكنوقراط المحليين والدوليين.

9- تراجع التوازن بين الحريات الفردية من ناحية والإرادة الشعبية من ناحية أخرى؛ حيث أصبح هناك انطباع أن منظومة الحريات الفردية (حرية المرأة والأقليات والحريات الجنسية) أصبحت لها الأولوية في النظم الديمقراطية على حساب الإرادة الشعبية وعلى حساب قضايا العدالة الاجتماعية والحريات الجماعية. وقد تجلت هذه الإشكالية في القضايا الخاصة بالمهاجرين واللاجئين في ألمانيا، وفي القضايا الخاصة بحقوق المثليين في الولايات المتحدة، حيث أصبح القضاء هو الحكم في العديد من المجتمعات الديمقراطية في قضايا مجتمعية خلافية مثل زواج المثليين.

وترتيبًا على ما سبق، تزايد الشعور بأن دور المواطن في تراجع مستمر وأنه تم إقصاء فئات كاملة من الحسابات السياسية. وقد نجحت أحزاب وقوى خارج المنظومة التقليدية على أقصى اليمين واليسار في البناء على هذه المظالم وتشكيل كتلة واسعة تضم عناصر من الرأسمالية المحلية والطبقة الوسطى المحافظة والطبقات العاملة والدنيا لمعارضة لسياسات النخب الليبرالية اليسارية واليمينية، وذلك من خلال تبنيها لبرنامج سياسي رافض للنخب القديمة ولهيمنة الخبراء وللمنظمات العابرة للحدود ولصعود الأقليات وللأسواق والحدود المفتوحة. 

 ومع أهمية كل ذلك، الا ان هناك بعدا غائبا في هذه الأدبيات، يتمثل في الحاجة إلى فهم تزايد التناقض الداخلي على المستويين النظري والتطبيقي في بنية الديمقراطيات الغربية بين الليبرالية الاقتصادية والسياسية من ناحية، والديمقراطية أو الإرادة الشعبية من ناحية أخرى. هذا التناقض الداخلي، وعدم التوازن المتزايد بين جانبي المعادلة أسهم في تفاقم الأزمة الراهنة في الدول الغربية.

كما توجد حاجة إلى مراجعة النظريات التي سادت مؤخرًا والتي أدت إلى تناول المجتمعات الغربية من منظور ما بعد المجتمع الصناعي والتركيز على الطبقة الوسطى والقضايا الحقوقية والنوعية، والحاجة إلى استعادة المنظور الطبقي أو الماركسي في فهم ديناميات المجتمعات الغربية. ويمكن الادعاء أن التحليلات النيو ماركسية حول المجتمعات ما بعد الصناعية أسهمت في ترسيخ الأوضاع الراهنة وذلك من خلال إقصاء الطبقات العاملة والدنيا على المستويين النظري والتطبيقي ما أسهم في تراجع اليسار وتصاعد اليمين في أوساط الطبقات العاملة في معظم الدول الغربية في الفترة الراهنة.

ومن الملفت أن الأدبيات الاقتصادية الراهنة أكثر تطورًا في ملاحقة الأحداث وفي فهم بعض أبعاد الأزمة التي تواجه النظم الغربية والتي يأتي من أهمها كتابات “توماس بكيتي” عن تزايد نسب عدم المساواة في العالم، وكتابات “جوزيف ستيجلتز” عن الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية.

إجمالاً لما سبق، أصبح من الضروري تسليط الضوء على التداعيات السلبية التي نتجت عن تغليب الليبرالية السياسية والاقتصادية على الإرادة الشعبية، إلى جانب الاهتمام بكيفية تصحيح هذه التشوهات من أجل تدعيم البنية الديمقراطية في الدول الغربية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى