هل يمتلك الحراك الجزائري مشروعاً وطنياً لبناء الجمهورية الثانية؟

لا أحد من الباحثين الغربيين والعرب، توقع حدوث المسيرات المليونية التي تنطلق في شوارع وساحات العاصمة، وكبرى المدن الجزائرية منذ أكثر من شهرين، التي تطالب الجيش بسرعة حسم الموقف السياسي، واستكمال عملية التطهير السياسي لرموز نظام بوتفليقة، وكذلك عمليات ملاحقة الفاسدين، التي تقوم بها العدالة ضد رموز الفساد وعلى رأسهم السعيد شقيق بوتفليقة.

وفي الوقت الذي يصر فيه الحراك الشعبي الجزائري على التغيير الشامل وذهاب كل من كان متورطا مع النظام السابق، وتحقيق التحول الديمقراطي عبر تسليم  أمور المرحلة الانتقالية إلى هيئة تشرف على الانتخابات، نجد بالمقابل أن الرجل القوي الذي يقود الجيش الجزائري الجنرال القايد صالح، وأصبح الرقم واحد في صناعة القرار السياسي وتصويب البوصلة في الاتجاه الذي يراه سليماً، لا يتناغم مع طموحات الحراك، ويُصِرُّ على الحَلِّ الدستوري المتمثل في إشراف الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح بالتحضير لانتخابات رئاسية في 4 تموز/يوليو 2019، متناسياً أنه لا يستطيع حل الأزمة بأسباب وجودها أو برجالات صالت وجالت في الساحة السياسية الجزائرية لأكثر من عقدين من الزمن وأوصلت الجزائر إلى ما هي عليه اليوم. علماً أنّ الرئيس المؤقت الحالي السيد عبد القادر بن صالح كان قبل شهرين ضمن التحالف الرئاسي يعمل على فرض الرئيس المتنحي بوتفليقة لولاية خامسة.

ويُصِرُّ الحراك الشعبي على تحقيق التحول الديمقراطي الراديكالي في الجزائر، لأن المنطق يقول إن هناك أكثر من 20 مليون جزائري يتظاهرون كل يوم جمعة ضد بن صالح وبدوي وإدارتهما وتسييرهما للمرحلة الانتقالية ما يعني إنَّ 20 مليوناً يقاطعون الانتخابات يوم 4 تموز/يوليو، هذا إلى جانب 88 بلدية أعلنت عن عدم تنظيمها وإشرافها على الانتخابات الرئاسية القادمة.

مقارنة مع أمريكا اللاتينية يمكننا القول إنّ ما حدث في الجزائر، كان التطور الطبيعي لما بعد ثورة التحرر الوطني (1954-1962)، والديكتاتورية، هو ما عرفته بلدان أمريكا اللاتينية في “المراحل الانتقالية من الحكم الدكتاتوري” إلى مرحلة التحول نحو الديمقراطية. فالمراحل التي مرت بها الأنظمة في أمريكا اللاتينية، في تحولها إلى الديمقراطية، على شكل “احتلال، ثورة وتحرر، أنظمة دكتاتورية عادت للخضوع للهيمنة الاستعمارية الجديدة “الأمريكية”، مرحلة انتقالية للتحول للديمقراطية، أنظمة ديمقراطية”. كما تبدو هذه المراحل متطابقة تماما مع مراحل النظام الجزائري الذي عرف التحرر والاستقلال ليعود للخضوع للدكتاتورية الوطنية الخاضعة بدورها للقوى الاستعمارية المهيمنة الجديدة “الأمريكية والفرنسية”، إلا أن ما لم تكن تفهمه الديكتاتورية الجزائرية، أنه لم يكن يمكنها الاستمرار إلى الأبد، ولذلك لم تستجب لقوى الحراك الشعبي لصياغة مرحلة انتقالية للديمقراطية، كضرورة تاريخية كان يجب أن تحدث.

المتابعون للشأن الجزائري يرون إنّ الفشل في تحقيق الانتقال السلس للسلطة في الجزائر سيجلب الخراب لهذا البلد العربي الكبير. والجيش مطالب لتجنب الانهيار في الجزائر أن يكون عنصراً هاماً لتطهير النظام السابق من رموز الفساد، بتشجيع أنماط سياسية جديدة لتطوير النظام السياسي، ما يمكن في النهاية من الانتقال الديمقراطي للسلطة. ولم يفهم الجيش الجزائري تلك الحقيقة، أنّ تغيير نظام بوتفليقة والتحول إلى نظام جديد لا يتحققان برموز النظام القديم، بل عبر كسر حالة الجمود والإحباط السياسي، وتشجيع وتبني أنماط سياسية جديدة تقود في النهاية للانتقال الديمقراطي، بوصفها حاجة للشعب الجزائري لتجنب الخراب أيضاً.

غير أن هذه المرحلة من “التحول الديمقراطي” حساسة جدّاً، وأي ما سيتم فيها هو ما سيحدد ملامح المرحلة القادمة، وعما إذا كان التحول الديمقراطي ممكناً بدون الدخول في “الفوضى” أو قابليته للاستمرار بدون أن ينتكس.

هل هناك استراتيجية للخروج من الانسداد؟

هناك الكثير من علماء السياسية الخبراء يعتقدون بأن طريقة الانتقال الديمقراطي تلعب دوراً هاماً في تحديد مصير توطيد الديمقراطية في الجزائر، لا سيما إن طريقة الانتقال الديمقراطي تحدد السياق الذي تحدث فيه التفاعلات الاستراتيجية، والذي بدوره يحدد ما إذا كان سوف تظهر الديمقراطية السياسية، والبقاء على قيد الحياة.  فإسقاط النظام الجزائري ليس بصعوبة هذه المرحلة الانتقالية التي تمثل تحدّياً كبيراً للنخبتين السياسيتين الحاكمة والمعارضة في الجزائر.

ويشير المحللون للشأن الجزائري إلى تحديات إضافية تسببه الصراعات السياسية وطبيعة المؤسسة العسكرية أمام النخبة الحاكمة والمعارضة لصياغة مرحلة “التحول الديمقراطي”، حيث يجدون أنّ هناك ارتباطًا بين نماذج تفكك النظام، والأنماط المختلفة من التحول المرتبطة، بالصراعات القائمة، وواقع المعارضة وبرامجها من جهة، وطبيعة المؤسسة العسكرية، والأجنحة التواقة للإصلاح من جهة أخرى في النظام ذاته.

فما يخيف الحراك الشعبي الجزائري اليوم هو تنامي وتصاعد الدور السياسي للمؤسسة العسكرية واختفاء دور الطبقة السياسية أو النخبة السياسية من المشهد السياسي، والسبب في ذلك أنّ المعارضة الجزائرية لا تمتلك مشروعاً وطنياً حقيقياً لتحقيق التحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة الوطنية. وهذا ما يجعل العديد من الخبراء السياسيين في عملية الانتقال الديمقراطي يعتقدون إن الحراك الجزائري في حقيقة الأمر لم يحقق الكثير، ولم يفكك النظام إلى حدِّ الساعة، حيث إنّ أركان هذا الأخير ما زالت قائمة وموجودة وما زالت تسير البلاد وتستعد لإدارة وتنظيم الانتخابات الرئاسية القادمة. فعملية التحول من نظام ديكتاتوري إلى نظام سياسي جديد لا يتوقف على الحراك الشعبي فحسب، ولا على المعارضة السياسية العاجزة عن تقديم البديل الوطني الديمقراطي، بل من خلال الجلوس حول طاولة الحوار الوطني مع الجناح الإصلاحي داخل النظام الجزائري للبحث عن الحلول والسبل التي تخرج الجزائر إلى بر الأمان بعيداً عن المصالح الضيقة، وتمجيداً للمصلحة الوطنية الجزائرية.

إنّ كافة عمليات “الانتقال الديمقراطي” تصبح ممكنة بسبب الانقسام بين المتشددين والإصلاحيين في نظام الحكم الجزائري، فقد يكون المتشددون انتهازيين يعارضون اعتماد الديمقراطية في البلاد لمجرد كونهم يريدون التمسك بالسلطة والصلاحيات والامتيازات، أو أنهم يعارضون اعتمادها على أسس مبدئية، أما الإصلاحيون فيعتقدون بوجه عام أنّ نظام الحكم يحتاج إلى درجة معينة أو شكل معين من الشرعية الانتخابية في المستقبل، ولذلك فإنّهم يناصرون الشروع في الإصلاحات السياسية في الوقت الذي يكون فيه نظام الحكم لا يزال قادراً قبل أن ينهار بسبب جموده. ومن المهم للمعارضة الجزائرية أن لا تنسى أنّ الإصلاحيين ليسوا بالضرورة ليبراليين أو ديمقراطيين، بدلاً من ذلك فإنّهم أفراد يفهمون أنّ البلاد لا تستطيع أن تبقى جامدة، وأنّ التكيف من خلال الإصلاحات السياسية العميقة أصبح ضرورياً.

تؤكد ديناميكية السيرورة الديمقراطية على أهمية كفاءة النخب السياسية الجزائرية في إيصال هذا “التحول الديمقراطي” إلى هدفه، بدلا من الدخول في “الفوضى” أو استبدال النظام السلطوي بنظام سلطوي آخر. فهل يمثل الحراك الشعبي موجة جديدة في عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي في الجزائر؟ هل أتى دور الجزائر لتستنشق حصّتها من الديمقراطية في نظرة حتمية إلى التطورات التاريخية العالمية؟ أي أن ما من هروب من شكل من أشكال “نهاية التاريخ” كما عرضه الكاتب الأمريكي – الياباني فرنسيس فوكوياما من خلال عدم الإفلات من روحية الأنظمة السياسية، كما وضعها الفكر السياسي الغربي في التاريخ المعاصر؟.

هذا، وكان الأكاديميون قد بحثوا إشكالية النظم العربية من ناحية “حالة الاستثناء” التي كانت منغمسة فيها لعقود وعقود، حتى إن بعض المفكرين بدأوا يتساءلون ما إذا كان الوطن العربي قد شهد “نهاية اللحظة الديمقراطية” في ظل مقاومة الدول العربية ضد عملية التحرر السياسي واحترام حقوق الإنسان، فنتذكر سؤال الباحث اللبناني غسان سلامة قبل نحو 20 عاماً” أين هم الديمقراطيون العرب”. وهنا فتح الحراك الجزائري آفاقاً جديدة من حيث إمكانية الجزائر الخروج من مستنقع الاستبداد والدخول في عصر الديمقراطية.

الانتقال من الاستبداد إلى بناء دولة الحق والقانون

لما كان المجتمع الجزائري وحدة الاختلاف والتعارض، يتألف من قوى اجتماعية مختلفة المصالح اختلافاً يتدرج من التنافس إلى الصراع، فإنّ كل فئة اجتماعية تملك واقعياً من الحق بقدر ما تملك من القوة. القوة المستمدة من الكثرة العددية أولاً، ومن مزايا التنظيم ثانياً، ومن ملكية الموارد المالية ثالثاً، ومن الهيمنة الأيديولوجية أخيراً.  ومن هنا يكون القانون النافذ والمعمول به غالباً هو اللاقانون بالمعنى العام المجرد للقانون، فكل فئة اجتماعية لا تتحدّد بالكل الاجتماعي، وتنفك مصالحها جزئياً أو كلياً عن مصلحة المجتمع العام، مصلحة الأمة، تتحول إلى فئة لا قانونية. واللا قانونية لا تستطيع أن تضع القوانين إلا لمصلحتها الخاصة الحصرية النافية لمصالح الآخرين.

إن إشكالية الديمقراطية في المجتمع الجزائري تنطلق من هذه الواقعة.  إذ تسيطر على الحكم فئات اجتماعية انفصلت مصالحها عن مصلحة مجموع الشعب، وعن المصلحة الوطنية وباتت تعبيراً صارخاً عن اللاقانونية واللاشرعية.. ولذلك نراها تسرع في تطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري، التي لا تستجيب للطموحات الحالية للحراك الشعبي الجزائري بل تكرس نظام بوتفليقة، لا سيما أنّ ذهاب رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز فتح المجال لأحد أعضاء المجلس ليخلفه مما يعني أن الأمور بقيت على حالها. وتعويض بوتفليقة بـ بن صالح لم يرق لطموحات ومطالب الحراك حيث إنّ الأمور لم تتغير قيد أنملة خاصة وأن حكومة بدوي جاءت بأسماء وشخصيات النظام القديم والبعض منها لا يتوافر على الكفاءة اللازمة ليكون وزيراً.

هذه الواقعة المنافية للسيادة الشعبية بوصفها المبدأ الأول للحق في المجتمعات الحديثة، والتي تنشأ منها جميع الحقوق الأخرى، وتستمد منها الدولة تسميتها الديمقراطية، تطرح على الفكر السياسي الجزائري ضرورة ربط المسألة الديمقراطية بدولة الحق والقانون، انطلاقاً من أن كل نظام على الإطلاق إنما يقوم على قوة تأسيسية هي على الأصل والأساس ديمقراطية. لأن النظام، أي نظام هو قوة المجموع، قوة المجتمع، والشعب. وبهذا تبدو الدولة الحصرية منافية للقانون ومتعارضة مع الحق، والطابع العام المساواتي للقانون، إنما ينبع من تلك القوة التأسيسية للدولة، أي قوة المجتمع، التي هي نتاج البعد الاجتماعي للفرد، إذ لا تتحقق حرية الفرد ولا تصان حقوقه إلا في نطاق المجتمع، وإلا كنا في الانتكاس إلى الحالة الغريزية الحيوانية.

إنّ قوة المجتمع مفهومة على هذا النحو، أي على أنها نتاج البعد الاجتماعي – الإنساني للفرد، أو للشخصية بالتعبير الهيغلي التي هي مناط الحق وموضوع الحرّية، إنّ قوة المجتمع هذه لا تنفي بأي حال من الأحول حرية الفرد وحقوقه. فالمجتمع هو الصيغة الثورية التي تحول الحق الطبيعي للفرد إلى حق سياسي تضمنه الدولة، والدولة من هذه الزاوية هي مملكة الحقوق وتجسيد الحرية.

إن العلاقة بين الحق والقوة في المجتمع هي العلاقة بين الشيء الموضوعي (القوة)، والنزوع الذاتي نحو الأفضل والأحسن (الحق). فالحق هو الصورة الذاتية للقوة، والقوة هي التحقيق الموضوعي للحق، والقانون هو وحدتهما الديالكتيكية. ولذلك كان كل مجتمع على الإطلاق يحمل إمكانات التحول إلى مجتمع ديمقراطي، ويملك القوة التي تساعده على إنتاج حياته السياسية، ودولته المتسقة مع مفهومه للحق، والحرية، أي دولة القانون.

وتتأسس رؤيتنا للدولة الوطنية في نطاق المشروع الوطني الديمقراطي الجزائري على مفهوم دولة الحق هذه. والدولة الديمقراطية التي يطنب الجزائريون في وصفها، ليست سوى الصيغة المتكاملة لدولة الحق والقانون، ذلك لأنّها تتأسس على مفهوم المجتمع المدني في صيغته العامة التي تموضعت تاريخياً في أشكال مختلفة من الاجتماع البشري، كان المجتمع البرجوازي في أوروبا الغربية صيغتها الأكثر تقدماً، ولكنها (أي صيغة المجتمع البرجوازي) لا تستنفذ المفهوم، ولا تصلح أن تكون نموذجاً يحتذى به.

وتعارض رؤيتنا الوطنية الديمقراطية على طول الخط، رؤيتين شائعتين في الفكر السياسي (العالمي والعربي) إحداهما تنسب نفسها إلى الماركسية والقومية، وترى في دولة الحق والقانون معطى برجوازياً رأسمالياً مرفوضة، لأنها لا ترى في الدولة إلا جانباً من جوانبها، ووظيفة واحدة من وظائفها، لا ترى فيها سوى أداة قهر طبقية، في حين أن هذه الصفة، وهذه الوظيفة الواقعية لا تستنفذ مفهوم الدولة، لاسيما الدولة الديمقراطية. هذه الرؤية الماركسية والقومية برفضها دولة الحق والقانون، إنما ترفض بوجه خاص مبدأ الدولة بوجه عام، ومبدأ الدولة الديمقراطية بوجه خاص.

والثانية الرؤية الليبرالية الجديدة الأمريكية التي تصدر إلينا اليوم تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الانسان، والتي اختزلت الليبرالية العظيمة إلى حرّية المشروع الاقتصادي، وحرية قوانين السوق العمياء، وترى في النموذج الأمريكي غاية التطور ونهاية التاريخ. هذه الرؤية الليبرالية الجديدة تنفي واقعياً مفهوم دولة الحق والقانون، وتستبدل بها صيغة أوليغارشية للحكم انتهجها التطور الرأسمالي الإمبريالي، وتركز القوة والثروة في أيدي فئة قليلة في المراكز الرأسمالية المتقدمة، مكنتها الثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة، وعملية العولمة الرأسمالية الجديدة التي تتعمق باضطراد، بسط سيطرتها على العالم.

إنّ حق الأقلية الأوليغارشية هذه، هو نفي حق المجتمع المدني في بلدانها، وحق الأمم والشعوب في البلدان التابعة والمتأخرة، وحرّيتها غير المحدودة المسلحة بأحدث ما انتجته الثورة العلمية من أسلحة الدمار الشامل، ووسائل صناعة الرأي العام، هي نفي الحرّية على الصعيد العالمي.  ويمكن القول دون الخوف من المبالغة أو الغلو أن هذه الدولة أصبحت نقيضة مبدأها ذاته، أي أنها لم تعد مؤسسة قائمة على قوة الكل الاجتماعي، بل على قوة الطبقة الميهمنة، ولم تعد مؤسسة قائمة على مبدأ الانسان والفرد الاجتماعي، بل على مبدأ الفرد المنفلت من كل عقال.

إن المجتمع الأمريكي (مجتمع الفرص الفردية) والدولة الأمريكية خير نموذج عن هذه الصيغة وهي وإن كانت بلد الحرّيات السياسية، إلا أن هذه الحرّيات لا يجوز لنا أن تخفي عنا الطبيعة العنصرية والرأسمالية والإمبريالية السائدة في المجتمع الأمريكي، مثلما لا يجوز لنا أن تخفي عنا أيضاً بأن الرأسمالية ليست فقط منافسة حرّة، وحافزاً اقتصادياً، ولكنها أيضاً استغلال طبقي في الداخل ومنع تجذر الحركات الطبقية والعرقية، وإمبريالية في الخارج تسيطر على بلدان العالم الثالث، وتدعم الديكتاتورية التابعة في كل من أمريكا اللاتينية، وآسيا، وإفريقيا، والوطن العربي.

الليبرالية الجديدة التي تصدر إلينا في صيغة الاقتصاد الكمبرادوري في صيغته العالمثالثية، والاقتصاد المافياوي في كل بلد على حده، وفي صيغة تحرير التجارة والمبادلات وفق رؤية البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وهما مؤسستان أمريكيتان عملياً، وفي صيغة أنظمة الحكم العسكرية والتسلطية العربية، هذه الليبرالية الجديدة مناوئة على طول الخط لدولة الحق والقانون والديمقراطية سواء بسواء، بدلالة تحالف الولايات المتحدة الأمريكية مع حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي، مع تفجر ما يسمى” الربيع العربي”.

وحَرِّيٌ بالرؤية الوطنية الديمقراطية الجزائرية أن تتأسس على نقد هاتين الرؤيتين الاستبداديتين الستالينية والليبرالية الجديدة الأمريكية، إضافة إلى الرؤية الاستبدادية للإسلام السياسي الوافد الجديد إلى السلطة في بلدان “الربيع العربي “. وفي ضوء ذلك تصبح مسألة إعادة الاعتبار لبناء دولة الحق والقانون من منظور جديد ضرورة ملحة.

في الوضع الجزائري الراهن لا يعاني الحراك الشعبي والمعارضة السياسية من شطط دولة الحق والقانون كما في المجتمعات الغربية الحديثة، بل يعانيان من افتقاد الجزائريين للمشروع التنويري أولاً، ومن غياب دولة الحق والقانون، أو لنقل من غياب الدولة ثانياً.  ذلك لأن الدولة، أية دولة يطبق فيها الدستور، تكف عن كونها دولة، وتتحول إلى مجرد سلطة غاشمة.  ولذلك على الحراك الشعبي والنخب السياسية في الجزائر أن يختارا أولاً بين الدولة واللادولة، لكي يكونا لهما حق الاختيار، بين هذا النمط أو ذاك من أنماط الدولة.

العقلانية أساس إعادة بناء الدولة الوطنية الجزائرية

الدولة الوطنية الديمقراطية هي بوجه عام دولة الحرّية، وهي بوجه خاص الضامن لحرّية الفكر، وعلى الحراك الشعبي والمعارضة السياسية في الجزائر أن يُؤكدا على حرّية الفكر لأنّه يشكل المدخل الحقيقي إلى إعادة إنتاج السياسة في المجتمع الجزائري، وهو مدخل معرفي فكري من أجل بلورة مشروع وطني تنويري جزائري يجسد القطيعة مع ماقبلية التاريخ، هذه الحقبة اللازمانية التي جعلت التنوير الجزائري إما ينساح للانكفاء على الموروث الماضوي (الإسلامي الأصولي) تحت تأثير صدمة المواجهة مع العملقة الغربية، وإما يتماهى مع شخصية الغرب من موقع عقدة الشعور بالنقص.

وهذا الانكفاء وهذا التماهي بالغرب بعدّه “أنموذجاً يحتذى به”، يمنعان عملياً بلورة مشروع وطني جزائري قادر على أن يحقق نهضة تحديثية عبر المواجهة التاريخية مع الذات (أي ثورة الذات الجزائرية على ذاتها) وعلى الآخر (أي الغرب) في آن معاً. لذلك نرى أن حرّية الفكر لا تدخل في نطاق سلطة الدولة المجسدة لما هو عام ومشترك بين الأفراد، وليس لما هو خاص ويختلف من فرد إلى آخر.  فمع أن الأطر الاجتماعية تحدد المعرفة والفكر لكن أفراد المجتمع يفكر كل منهم بحرّية تامة، وهم في ذلك مختلفون أشد الاختلاف.

إنّ عقلانية الدولة في هذه الزاوية، هي تلك العقلانية الحقيقية التي تجسد العقل المفتوح الذي يعترف بأن هناك وقائع تكون في الوقت عينه عقلانية وغير عقلانية، والذي يعد التحاور مع الوقائع ضرورة مطلقة، باعتباره حاجة ماسة لمحاربة أعدائه الداخليين: المنظومات المتماسكة من الأفكار أو النظريات التي تنزع إلى التصلب في مذاهب منغلقة، وتصبح منذ ذلك الحين معقلة.

الديمقراطية بوصفها حقيقة نظام الحكم تقوم على مبدأ النظام العام، قبل أي شيء آخر، النظام في معارضة العشوائية والفوضى (اي النظام في معارضة حرية الأفراد واختلافهم وتعارض مصالحهم). وإنه لمن المتعذر إيجاد تفسير مقنع لتنظيم المجتمع غير تنظيم العمل والإنتاج الاجتماعي. فالنظام العام المعبر عنه واقعياً بالقانون هو مبدأ وحدة المجتمع وانتقاله من نظام الامتيازات والواجبات إلى نظام الحقوق، من نظام الجماعات المغلقة والمتحدات الاجتماعية التي تعزل الفرد عن الكل الاجتماعي إلى المجتمع المتحرر من سلاسل الأعراف والتقاليد وأطر الفئات المغلقة..  هذا التحرر الذي على الرغم من طابع الفوضى والعشوائية الناجمين عن تحرر الأفراد هو عملية الاندماج في الكل الاجتماعي وفي النظام العام.

وعلى الرغم من أساسها الواقعي المستند إلى تساوي العمل البشري المعبر عنه بقانون القيمة، فقد كان أول تحقيق فعلي للمساواة هو المساواة أمام القانون في دولة الحق والقانون، والمساواة أمام القانون لا تستطيع أن تكون إلا ذات طابع سياسي لأنها لا تعني المساواة في توزيع الثروة، ولا في الموقع الاجتماعي، من حيث النفوذ والجاه، لكنها مع ذلك الشرط الضروري للانتقال إلى المساواة الاجتماعية والاقتصادية، لأن النضال في سبيل ذلك مشروط بالحرية السياسية التي توفرها دولة الحق والقانون.

وليس خافياً أن ثمة تعارضاً بين سيادة القانون وسيادة الحاكم.  فدولة الحق والقانون ليست الفردوس الذي يرنو إليه البشر، إذ إن هذا التعارض هو تعبير واقعي مباشر عن التعارض بين حقيقة الدولة المادية الموضوعية وشكلها السياسي.  ولو كانت الدولة الديمقراطية ممكنة منطقياً وتاريخياً من دون المرور بدولة الحق والقانون لكانت مطلباً مباشراً للجميع.

إن ما يتطلع إليه الشعب الجزائري في محاولة إعادة بناء دولة الحق والقانون في الجزائر، يقتضي الإمساك بالحلقات الأساسية في هذا المشروع الوطني الديمقراطي.

أولاً: في الجزائر التي تعاني نقصاً في الاندماج الوطني، وغياباً للمؤسساتية السياسية الفاعلة، وانعداماً للمشاركة السياسية من جانب الشعب، ووصول السلطة السياسية فيها إلى درجة عالية من الاستبداد المحدث، يجب إعادة الاعتبار لبناء دولة الحق والقانون، والتأكيد عليها في مواجهة سلطة “العصابة”، وهذا يتطلب من قوى الحراك الشعبي أن تمتلك مشروعاً على درجة عالية من الراديكالية من أجل إقامة الدولة الوطنية الحديثة الملتزمة بحكم القانون، حيث يعمل الحكام فيها لأجل المصلحة العامة، ولمصلحة النظام العام.  وتكون هذه الدولة متمايزة عن الدولة التسلطية الجزائرية السائدة، بمستوى عال من المشاركة السياسية، وتماسك المؤسسات السياسية الجديدة في المجتمع القادر على التكيف مع متطلبات السياسة العصرية التي تقتضي وجود أحزاب سياسية حديثة تقوم بعملية تسييس الشعب، وترسي بنياناً ديمقراطياً للممارسة السياسية، وتحقق التواصل الديمقراطي الحقيقي بين المجتمع والدولة، وهذا التواصل يجد تجسيداً له في مؤسسات ديمقراطية فاعلة تضمن استمرار هذا التواصل عبر ضمان المشاركة السياسية وتحقيق الاستقرار السياسي، وتمنع تحول النظام السياسي إلى مجرد غطاء شكلي يقنع الاستبداد و الفساد.

ثانياً: مقاومة جميع أشكال الامتيازات التي نجمت عن نظام الحكم التسلطي، وقسمت المجتمع إلى مجتمع السلطة صاحب الامتيازات المتباينة، ومجتمع الناس المهمشين المحرومين.  وهذا يعني العمل على تحرير الفرد من هيمنة السلطة الشمولية، وأدوات هذا التحرير هي أدوات معرفية – فكرية، أولاً، وسياسية ثانياً، بالتلازم.

ثالثاً: تحرير الأفراد من أطر المتحدات الاجتماعية التقليدية، وإطلاقها في الفضاء الاجتماعي العام كخطوة أولية لدمجهم في الفضاء السياسي العام للمجتمع، وهذا المسعى مرتبط أوثق الارتباط بعملية الاندماج الوطني التي هي عملية مزدوجة تعني تهديم الأطر الاجتماعية ما قبل الوطنية وإعادة بنائها على أسس مواطنية حديثة علمانية وديمقراطية.

رابعاً: استقلالية الفكر والثقافة عن السياسة بالمعنى الضيق للكلمة على الرغم من وحدتهما الجدلية، ذلك لأن عملية تحديث المجتمع تبدأ بتحديث الفكر والسياسة، وعقلنتهما، وديمقراطيتهما.  وعبء هذه العملية يقع بصورة أساسية على كاهل المثقفين وكتلة الانتلجنسيا، التي تتولى صياغة إيديولوجيا تنسجم في آن معاً مع بناء دولة الحق والقانون والمجتمع المدني بالتلازم، ومع سيرورة تقدم المجتمع الجزائري نحو التحديث الشامل والتحرر من إرث المجتمع التقليدي.

خامساً: استقلالية مؤسسة المجتمع المدني ولاسيما النقابات والجمعيات، والاتحادات المهنية والوظيفية، والأحزاب السياسية، والصحافة، ولجان حقوق الإنسان، وأجهزة الإعلام، ودور العبادة، عن هيمنة السلطة.

سادساً: فصل السلطات، ومركزية السلطة التشريعية، ورقابتها على السلطتين التنفيذية والقضائية. السلطة التشريعية التي تسن القوانين وتعد لها وتطورها، هي التعبير المباشر عن الكلية الاجتماعية، وهي من هذه الزاوية الدولة السياسية ومرجعية السلطتين التنفيذية والقضائية، والمشاركة فيها هي مشاركة في الدولة، وبها يحقق الفرد وجوده السياسي بصفته عضواً في الدولة.

سابعاً: تحرير المرأة ومساواتها بالرجل.

ثامناً: توفير الشروط الموضوعية اللازمة لإعادة بناء الاقتصاد الجزائري على أسس وطنية توفر له فرص الفكاك من هيمنة المراكز الرأسمالية الاحتكارية عليه، وربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية والبشرية والنهضة الفكرية والعلمية، في إطار تحقيق الشراكة الإقليمية المغاربية، بدلاً من الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.  وهذا يؤدي موضوعياً إلى نشوء سوق مغاربية قادرة على إقامة علاقات ندية أو متوازنة مع التكتلات الاقتصادية الإقليمية ومع السوق العالمية بوجه عام. إذاً فعملية الوحدة المغاربية، مدخلها الواقعي هو تحويل الدولة القطرية ديمقراطياً وقومياً.

تاسعاً: التأكيد على عروبة الجزائر بوصفها الخيار الأيديولوجي والمشروع الثقافي للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي.  كما أن الاستثمار في العروبة مقترن بالتزام الدولة الوطنية الجزائرية بلعب دور إقليمي فاعل، والاندماج في المشروع القومي الديمقراطي المتصادم مع المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، من أجل تحرير فلسطين، وكل الأراضي العربية المحتلة.

ومن دون هذه الشروط مجتمعة، وقبل توافرها ربما لا يكون الوقت قد حان لإطلاق سيرورة إعادة بناء الجمهورية الثانية الجزائرية، وتوحيد المغرب العربي ضمن سياق الثورة القومية الديمقراطية. هذه الثورة كاحتمال تاريخي قائم، لا تزال بكل منطوياتها الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية على جدول أعمال الأمة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى