اصدار جديد.. تجليات السياسة في شعر نزار قباني

عن الهيئة العامة السورية للكتاب في وزارة الثقافة، صدر كتاب مهم للباحث إياد مرشد بعنوان (تجليات السياسة في شعر نزار قباني)، ليشكل دراسة مهمة في مجمل نتاج الشاعر نزار قباني السياسي، ليسد بشكل جاد ثغرة مهمة في الدراسات النقدية التي تناولت تجربة القباني والتي ركزت في معظمها على شعره المكتوب للمرأة والحب، حيث تعرض الشاعر لظلم كبير من خلال الادعاء بأنه كرس شعره للمرأة والغزل والجنس، وفي ذلك تجن كبير على شخصية الشاعر من جانبها الوطني والقومي، حيث كان دائم الاهتمام بقضايا أمته، وعبر عن ذلك بإصداره دواوين ومجموعات شعرية كانت مكرسة للقضايا القومية والسياسية.

ومعروف أن الشاعر العربي الكبير الراحل ابن دمشق نزار قباني ولد في العام 1923، وتوفي في العام 1998، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة دمشق 1945 وأصدر ديوانه الأول (قالت لي السمراء) في العام 1944، وعمل بعد تخرجه في السلك الديبلوماسي في الخارجية السورية ممثلاً لسورية في العديد من العواصم العربية والأجنبية.. وشهد خلال حياته الكثير الكثير من الأحداث التي عصفت بالساحة العربية بدءاً من نكبة فلسطين، مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر، ومرحلة الوحدة بين سورية ومصر وما تلاها من حروب وأحداث مهمة ليس آخرها حرب تشرين والاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وانتصارات المقاومة، حيث كتب شاعرنا قصائد مهمة كانت وستبقى ساكنة في الذاكرة.

جاء كتاب الباحث إياد مرشد في بابين رئيسين، كان أولهما بعنوان – المفاهيم الأساسية وتطور العلاقة بين الشاعر وقضايا عصره – وضم الباب الأول ستة فصول، تناول الفصل الأول منها تحديد مفهوم الشعر السياسي، على حين تناول الفصل الثاني تأثير القضايا السياسية في تطور الشاعر الشخصي، حيث استعرض الباحث السيرة الذاتية وبعض المواقف اللافتة له في حياته المبكرة وشبابه، وصولاً إلى مرحلة النضج والإبداع في تجربته، وتناول الباحث في الفصل الثالث ماهية الشعر السياسي لنزار قباني، مشيراً إلى العديد من الآراء التي أوردها النقاد حول ذلك الشعر، وأما الفصل الرابع فقد كرسه الباحث للخوض في الدوافع والأسباب التي كانت وراء اهتمام الشاعر بالقضايا السياسية، وأفرد الباحث الفصل الخامس للحديث عن القضايا الأساسية التي كانت محور اهتمام الشاعر نزار قباني قبل وقوع نكسة حزيران 1967، وتحدث في الفصل السادس عن القضايا السياسية التي كانت ضمن هواجس الشاعر بعد نكسة حزيران، على حين كرس الباحث إياد مرشد الباب الأول بفصوله الستة للإحاطة بالتجربة السياسية في شعر نزار قباني، فقد كان موفقاً في تخصيص الباب الثاني الذي جاء بعنوان – القضايا السياسية في شعره -، للحديث عن تلك القضايا التي شغلت الشاعر عبر أربعة فصول رئيسة مهمة كان أولها بعنوان – القضية الفلسطينية – وهي التي عاش الشاعر نزار قباني ظروفها منذ بداية المؤامرة الصهيونية للاستيلاء على فلسطين وتشريد شعبها، وما رافق تلك المرحلة من إحباطات كبيرة عاشها كل عربي عاصر تلك المرحلة المؤلمة من تاريخنا العربي الحديث، وكان الفصل الثاني حول – قضية الحرية – والذي عرض فيه الباحث رفض الشاعر للاستبداد السياسي والفكر السائد، ورفض الميراث العتيق والعادات والتقاليد البالية، ورفض ذهنية الخضوع والسلوك الاجتماعي الانهزامي، ورفضه للتعصب العشائري والطائفي وواقع التجزئة، وأما في الفصل الثالث فتحدث الباحث إياد مرشد عن كتابات الشاعر حول المرأة/ القضية نصف المجتمع، وأنه لابد للمرأة من المشاركة في الحراك الاجتماعي المتعلق بالوطن والإنسان.

وفي الفصل الرابع من الباب الثاني، نلاحظ توقف الباحث عند محطات شعرية مهمة للشاعر نزار قباني إزاء أحداث جسام كانت مثار اهتمام الشاعر والدافع لكتابة الكثير من قصائده، ومنها على سبيل المثال: وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، وحرب الخليج الثانية، وقضية الحرب والسلام.

وفي خاتمة الكتاب يقول الباحث إياد مرشد حول دراسته لحياة وتجربة وإبداع الشاعر الكبير نزار قباني: لقد أحاطت موضوعات شعره بقضايا الأمة وهذا ما لا يستطيع أحد نكرانه، وما أوردناه في هذا البحث يقطع الشك باليقين، أما ما جاء على لسان البعض بأنه أغفل بعض القضايا في أزمنة مختلفة من عمره، فلا يمثل شيئاً مهماً، أمام ما جاء على ذكره في قصائده، لأنه ليس مطلوباً من الشاعر أن يكون معلقاً سياسياً أو صدىً لكل واقعة سياسية، ورغم اختلاف تقييم النقاد لتجربته في معالجة قضايا الوطن والمرأة، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أنه مثل في كل ما تناوله من قضايا في شعره صوتاً متفرداً، وأسلوباً جديداً في التعاطي مع الشأن العام، صوتاً خارجاً عن الطاعة لذوي الأمر والنهي، وناقداً حاداً لمظاهر التخلف والضعف، وتصوير حالات القصور والوهن.

وساهمت الأقدار على الصعيد الشخصي للشاعر، وفي مراحل مختلفة من حياته في تأجيج مشاعره وزيادة التحامه مع القضايا التي كان يطرحها، فجاء انتحار أخته، ومقتل زوجته في حادث مأساوي في بيروت، ثم اضطراره لمغادرة بيروت بعد اشتعال أتون الحرب الأهلية فيها، وذهابه إلى المنفى الاختياري ليعمق تجربته، وليزيد من جرعة التحدي والرفض للواقع الاجتماعي والسياسي.

إذاً عانق نزار هموم وطنه رغم أنه لم يعش الهم وضنك الحياة، مجّد المقاومة وشعراءها رغم أنه لم يكن مقاوماً في حياته الشخصية، فلم يحمل سلاحاً، ولم ينظّر سياسياً لهذا الكفاح، لكنه اتخذ من الرفض منطلقاً واتخذ من كسر التابوهات مبدأ.. ما جعله شاعراً متمرداً في العشق والسياسة، طرح في موضوعاته إشكاليات كبرى، وعانق هموم المرأة وواقعها مرات ومرات وعالجها بسطحية في مطارح كثيرة، كما عاش قضايا وطنه بخجلٍ في بداياته، وبعد حزيران 1967 انغمس فيها حتى صارت ديدنه، هو شاعر تنبع اهتماماته أولاً وأخيراً من وقائع يعيشها وطنه سواء على الصعيد الاجتماعي (المرأة والتخلف والجهل… إلخ) أم على الصعيد السياسي (قضايا الحرية وفلسطين وسواها…).

قرأ المجتمع العربي بعين الناقد.. فرأى معاناة المرأة.. فتمرد على المجتمع بعاداته وتقاليده الذي جعله التخلف يأسر الأنثى فيه، شغلته أشياء المرأة الصغيرة في بداية تجربته، وتعمق في قضاياها في نضجه، ورأى الجهل ونماذجه المختلفة فهجاها من دون مواربة… وعندما تفتحت عيناه على مأساة الوطن لم يقفل الباب على نفسه، بل انفتح على قضايا وطنه.. فتجربته الشعرية في القضايا الوطنية تطورت مع تطوره الشخصي، ومع المتغيرات في الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه وطنه.

ويخلص الباحث إياد مرشد في خاتمة كتابه إلى القول: (إذا كان معيار الشعر الأول هو الجمهور واهتمام المتلقين بالمادة الإبداعية، فنزار شاعر جماهيري بامتياز حيث شغلت قصائده العامة قبل الخاصة، وتتبع الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج قصائده وصوته الناقد بعد كل حدث سياسي، حيث كان سمته الأول والأخير هو الجمهور.. غاية الشعر ومنتهاه).

وكم من قصائد عظيمة في الشعر السياسي ماتت على أوراقها ولم تسمعها آذان الناس، على حين قصائد نزار نشرت مراتٍ ومرات، وتم تناقلها مكتوبة ومصورة ومسموعة، هو شاعر يتبع حدسه، يقول كلمته بلا خوفٍ أو وجل، كان مشاكساً في مواقفه، صارماً في معاركه الأدبية، واثقاً من حججه، لم يساوم أبداً في القضايا المصيرية للأمة كالسلام مع الكيان الصهيوني ورفضه للتطبيع.

شاعر الجسد أم شاعر الأحاسيس، شاعر الحب أم شاعر الحواس، شاعر الوطن أم الراقص على جراحه، هو نزار شاعرٌ واحد وعشرات الألقاب، مات الجسد فيه ولم تزل كلماته حية تنبض، نشتاق إليها بكل ما فيها من رقة وقسوة، بكل ما فيها من طراوة وتوتر، تتناقلها القلوب الخفاقة بالحب والألسن الباحثة عن كلمة حلوة تكون همزة الوصل بين العاشقين، أحبه البعض أم لم يحبه، لكن الكل تناقل أشعاره، أنزل الكلمة من برجها العاجي، وأبعدها عن حذلقات الفلسفة والغموض، وجعل الشعر رغيفاً من الخبز الساخن نشتهيه كل صباح، خرج على تابوهات زمنه، ورسم لنفسه صورة الشاعر المتمرد.

وتبقى الإشارة المهمة إلى إغناء الباحث إياد مرشد لأبواب وفصول الكتاب بشواهد لافتة من قصائد الشاعر الكبير الراحل نزار قباني تؤيد الباحث فيما ذهب إليه حول تجليات السياسة في تجربة الشاعر نزار قباني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى