لبنات الكرباسي تقفز على حاجز الخليل وتوقيفاته

بقلم : د. نضير الخزرجي

من روعة الحروف الأبجدية لكل لغة أنها مصنع ومنبع لا ينضب من الكلمات المختلفة المعاني والمقاصد، وليس هناك من مرادفات بخاصة في اللغة العربية كما يرى عدد من الضالعين والمختصين، وإنما وضعت كل مفردة لمعنى واحد ومصداق واحد وإن بدت المعاني متقاربة مع اختلاف حروف المفردة وتشكيلها، فالإنصراف غير العودة والرجوع غير الإياب، وعند الوقوف على التفاصيل تختلف المعاني بقدر تبعا للمحيط والأمارة، مع الإتفاق في المؤدى العام.
ومن بلاغة الأبجدية العربية أن قلة من البشر استطاع أن يمسك بزمام الكلمة ليحركها على سلم موزون نتج منها الشعر بتفعيلاته المختلفة، وكل مجموعة تفعيلات انتظمت في سلك واحد ذات إيقاع سوي في صعوده ونزوله أسموه “البحر”.
وحيث كان الشعراء في العهد الجاهلي وبداية العهد الإسلامي ينظمون الشعر على السليقة ويحركون التفعيلة على ايقاع محسوس يدركه الشاعر نفسه ويستذوقه المتلقي، فإن القرن الثاني الهجري قيض الله لدرر التفعيلات من يوزنها في ثمان تفعيلات هي (فعولن، فاعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتُنْ، مفعولات)، ومن هذه التفعيلات الثمان أوقفنا عيلم البصرة على خمسة عشر بحرًا من بحور الشعر العربي الموزونة، وهي: الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث، الطويل، المديد، البسيط، والمتقارب.
وبعد سنوات من رحيل مكتشف الأوزان والبحور وواضع علم العَروض الأديب والفقيه واللغوي العُماني المولد البصري النشأة والرحيل أحمد بن خليل الفراهيدي الأزدي المتوفى سنة 170هـ، جاء إبن الكوفة المولود في عين التمر من نواحي كربلاء أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العيني المتوفى سنة 211هـ ليكتشف بحر المدق، وفي الوقت نفسه اكتشف ابن البصرة الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة البلخي المتوفى سنة 215هـ بحري المتدارك والخبب، وظل الشعراء يعرفون هذه الأوزان الثمانية عشر ويعزفون عليها ألحان الخلود، وإن خرج البيت عن الإيقاع أسموه “الزحاف”، اعتبره البعض ثلمة في نظم الشاعر ومال آخر الى التساهل لإمكان أن يقع الزحاف عند الفطاحل من الشعراء.
وحيث عُدَّت الأوزان الخليلية وما أتى به أبو العتاهية والأخفش الأوسط أوزانا وبحورًا شعرية توقيفية، انبرى في القرن الخامس عشر الهجري ابن كربلاء الفقيه الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي المولود سنة 1947م إلى تجزئة التفعيلات وتركيبها من جديد بشكل هندسي رائع ليخرج في نهاية المطاف بأبحر جديدة انتهت عنده إلى 210 أبحر أطلق على كل واحدة منها أسمًا جديدًا، وبذلك تجاوز معضلة الزحاف ولم يعد في الشعر زحاف، فما كان يعد في الأمس زحافا دخل اليوم في خانة بحر جديد، وهي أوزان شعرية أودعها الكرباسي في سلسلة مؤلفات في العروض هي: “هندسة العروض من جديد”، “بحور العروض”، “الأوزان الشعرية: العروض والقافية”، “ظلال العروض”، وأخيرا وليس آخرًا كتاب “لبنات الهندسة” الصادر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 336 صفحة من القطع الوزيري قدّم له وعلّق عليه الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شبِّين، والكتاب في واقعه ديوان شعر ضم 671 نموذجا من مولدات البحور التي استحدثها الأديب الكرباسي، وأكثرها من بيت واحد والقليل منها في بيتين.
لزوميات الكرباسي
اللزوميات في الشعر أو لزوم ما لا يلزم هو أن يلتزم الشاعر الإتيان بالغريب او ما ليس معتادًا في النظم كأن يلتزم الإتيان بحرف بعينه قبل القافية في القصيدة كلها، أو الإبتداء بحرف والإنتهاء به في كل مصرع، أو استخدام حرف بعينه في كل مفردات البيت بصدره وعجزه، أو الإمتناع عن استخدام حرف أو مجموعة حروف في البيت الواحد أو المقطوعة، وهكذا.
وتعتبر اللزوميات الشعرية من فنون الشعر الذي قلما يجيدها الشعراء وهي تتطلب من الشاعر الإحاطة باللغة العربية ومفرداتها، وديوان “لبنات الهندسة” وإن جاءت أبياتها بيانا لمستحدثات البحور ومولداتها ونماذج بارزة لهان لكنها لا تخلو من اللزوميات وهي كثيرة.
ومن لزوميات الكرباسي قوله تحت عنوان: “جفاء الحَكَم”، من بحر “الكمول المثمن” المستحدث:
حَكَمٌ جَفا بحقوقكم فاهمًا خائبا *** أوَ ما كفى بعفيفكُم عاكفًا غائبا
فالبيت اجتمعت فيه الحروف القمرية الأربعة عشر: (أ، ب، ج، ح، خ، ع، غ، ف، ق، ك، م، هـ، و، ي) وخلا من الحروف الشمسية الأربعة عشر: (ت، ث، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ل، ن).
ومن لزومايته قوله تحت عنوان: “الأسد والضبا”، من بحر “الضريب المثمن” المستحدث:
قاصدٌ نحوَ عرينِ أُسْدٍ غَزتْ في خَطَلِ الظِّبا *** مُذ شَهِدْتُ الثكلى ضُحًى جلجلَ الثأرُ مُجرِّبا
فالبيت إجتمعت فيه الحروف الهجائية الثمانية والعشرين كلها.
ومن لزومياته، قوله تحت عنوان: “الكذب والمستذلب”، من بحر “الصافي المسدّس” المستحدث:
بذورُ الذَّنبِ الذي يُسْتَذْرَبُ *** فذاكَ الكِذْبُ الذي يُسْتَذلَبُ
فالبيت اجتمعت في مفرداته حرف الذال، وذرب: فسد، وذلب: أقام واستحكم.
أو قوله تحت عنوان: “البلاء بالتباهي”، من بحر “الشبيه المثمّن” المستحدث:
بدتْ بَلْوايَ بعدَ التَّباهي بِوادينا *** فنابَ القلبُ صوبَ البَراري ببارينا
وفي مفردات البيت اجتمع حرف الباء.
ومن لزومياته، قوله تحت عنوان: “لو ترك القطا”، من بحر “المتوافر المثمن” المستحدث:
باهراتٌ وَمضاتُكُم رُسِمَتْ لنا في كتابِ *** بالمعالي سنَسودُ لو تُرك القَطا في رئابِ
فالبيت اجتمعت في بداية كل مصرع ونهايته حرف الباء.
أو قوله تحت عنوان: “التائه في العشق”، من بحر “الصديح المثمّن” المستحدث:
تائهٌ في غِمارِ وِدادها زَمَنًا ما سَئِمْتُ *** تاركًا مُهْجَتي شُعلًا تلي كَبدي مُذْ عَشِقْتُ
وقد اجتمعت في بداية كل مصرع ونهايته حرف التاء.
وتعتبر اللزوميات وهي كثيرة في هذا الديوان وغيره إلى جانب الفتح العروضي في استحداث البحور ترجمة واقعية لثلاثي (المعرفة والإدراك والذوق) كما يقول الدكتور عبد العزيز شّبين في تقديمه على الديوان والتي ينبغي توفرها لمن يروم الوصول الى مقامات الشعر، وهذه الثلاثية: (فلا غرو أن تتوفر في صاحب كتابنا العلامة الكرباسي الذي امتلك مفاتيح البحث، فأجاد في فتح مغاليق أبوابه، وكشف طلاسم إبهامه، حيث نظَّر لموسيقى الشعر، ودرس ميزانه بطريقة بسَّط فيها مركَّبه، ورفع اللبس عن كثير من مسائله، كعلاقة النَّبْرِ والمقطعين اللغوي والصوتي، وواقع الأسباب والأوتاد، ومفهوم القافية ونحوها).
عشقيات وعرفانيات
في حين يحرص الشاعر على نظم القصيدة بما يبهر السامع والمتلقي، ويكون له بين زمرة الشعراء مكانة رفيعة دونها مكانة الفارس المغوار في ساحات الوغى، فإن الفقهاء والعلماء الذين يخوضون بين الفينة والأخرى في ميدان النظم يحرصون على نظم ما ينفع السامع في حياته، وربما استعملوا أدوات ومفردات شاعر الحب والهوى ولكنهم عنوا ويعنون محبوبا تسامى عن الحسيّات وترفَّع عن الإنِّية الشخصانية والزمكانية.
ومن نظم الهوى، قول الفقيه الكرباسي الشاعر تحت عنوان: “هفا القلب”، من بحر “المزاد المسدّس” المستحدث:
هفا قلبي إلى دار فيها هندُ *** وقد جارى فؤادي قلبا لن يغدو
أو قوله تحت عنوان: “أخذت فؤادي”، من بحر “المتركب المثمن” المستحدث:
كمْ ذكرتْ لكم سُليمى في الخَلوات من ودادي *** قد أخذتْ إليكم منّي بعنادها فؤادي
أو قوله تحت عنوان “معشوق ليلى”، من بحر “المشذب المثمّن” المستحدث:
مُسترخيةٌ بجواري ليلى شغفًا بجمالي *** مَن في فلكي يتعالى شوْقًا لهُ بِنَوالي
أو قوله تحت عنوان “تحية لليلى”، من بحر “المستكمل المثمّن” المستحدث:
كفى منك تحيَّةٌ لِلَيْلى بوصالها *** فلولا بَسماتها ذَوى زَهْرُ دلالِها
أو قوله تحت عنوان: “مرهمُ الوصال”، من بحر “الخصيب المسدّس” المستحدث:
قسمًا بحُبِّنا إنّي لَمُتَيَّمُ *** فَلَرُبَّما وِصالي وحدَه مرهَمُ
او قوله تحت عنوان: “قولها بلسم”، من بحر “المطرد المثمَن” المستحدث:
نُطقها بَلسَمٌ ألغت جميع الأسقامِ عنِّي *** عبَّرت في رخيم الصوتِ عن نفحِ الطيبِ مِنِّي
وهكذا يستمر الأديب الكرباسي يتنقل بين بيت وآخر يطرق باب الهوى هنا وباب الجوى هناك ليخبرنا عما يدور من مناجات ومناغات في الفضاءات الروحانية والعرفانية بين العاشق الولهان ومحبوبه العالي الشان.
حكميات وتجارب
ومن شيم شعراء الإلتزام والرسالة أنهم إذا حلقوا مع قوافيهم في سماء النظم تمايلوا عن الماديات ومالوا إلى العرفانيات والحكميات كل الميل بما يحقق نقل الإنسان من محيط الذات والأنا والتسامي عما يحط من ذاته وكرامته.
وفي لبنات الهندسة، وإن كان الناظم قصد إبراز المستحدثات والمولدات من البحور، لكنه في الوقت نفسه غرس قوافيه في تربة الحكمة البالغة النابعة في مجملها من تجربة شخصية يحاول الناظم تقديمها بحسّه الرسالي والتوعوي عبر أبيات من الشعر.
ومن ذلك قوله تحت عنوان: “خمس حصيلة العمر”، من بحر “البسيط المسدّس” القديم:
العمرُ ستونَ قالت ثلَّةٌ *** فالثلثُ طيشٌ وأخرى عِلَّةٌ
فالحشو فيها قسيم النوم والــ *** ـباقي شُغيلٌ وخمسٌ غلّةٌ
فالناظم يدعو الإنسان إلى الإستفادة من أيام عمره المنصرم بين النوم واللهو واللعب.
ومن الحكميات قوله تحت عنوان: “الظلم والقضاء”، من بحر “المجاز المسدّس” المستحدث:
إن تكن على ظُلمِ قادرا *** فاعلمن قضا ربّي دائرا
فهو يحذر من الظلم والتمادي فيه، لأن الإنسان مهما بلغ من القوة والمنعة فإن قدرة الله أكبر، ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.
ومن الحكميات قوله تحت عنوان: “ليالي الأنس”، من بحر “المصداح المسدّس” المستحدث:
في ليلِ الأنسِ لا نذكُرُ الوَجعا *** إنما الإنسان إذ ما كَبا رجعا
دعوة صادقة إلى عدم نسيان الواقع والإنغماس باللهو، حيث يعود المرء إلى رشده إذا ما أصابه الوجع.
ومن الحكميات قوله تحت عنوان: “كما تعيب تُعاب” من بحر “الجديد المثمَّن” المستحدث:
كما تعيبُ بنا هُزءًا كذا تُعابُ بذا يوما *** فما تدومُ بدنيانا مضيقةٌ وغنًى دَوما
والبيت في الواقع هو مصداق للمأثور “كما تُدين تُدان”.
وهكذا يستمر الأديب الكرباسي في استعراض نماذج من البحور المستحدثة يقدمها لقارئه بقالب العشقيات والعرفانيات والحكميات، لأنه لا يرى في نفسه شاعرًا أو ناظما، إنما هو أب روحي يتمنى الخير لكل ذي روح، داعيا الإنسان إلى التوازن في علاقاته الست: مع نفسه ونظيره ومجتمعه وبيئته وسلطته وخالقه، وهي علاقات حضارية أودعها في البيتين تحت عنوان: “العلاقات الست” من بحر “المقبول المثمّن” المستحدث:
ستٌّ علاقاتُ الخلائقُ في الحياة كما بدا *** بالنفس والرحمان والبشر الذين لهم غدا
فردٌ وجمعٌ ثم يعقبهُ النظام لدولةٍ *** والبيئة الكبرى لها أثرٌ على نمط الأدا
والجديد في البحور التي أتى بها الأديب الكرباسي ترجمها في بيت من الشعر تحت عنوان: “التجديد في التفعيلات” من بحر “الزلوق المسدّس”، المستحدث مخاطبا المكتشف الأول الفراهيدي:
قد جدَّدتُ تفعيلاتِكَ يا عَلَمُ *** كانت بُغيتي أنْ تُتَّقَدَ الهِمَمُ
لا يخفى أن لبنات الهندسة هو مرآة للبحور المستحدثة والمولَّدة تعكس مصداق كل بحر، وبتعبير المعلِّق الدكتور شبِّين: (استطاع الكرباسي العروضي الشاعر أن ينقل القارئ من واقع النظرية البحت إلى عالم الخيال الشعري الخصب، لنعيش معه الصور باختلاف الألوان والأشكال، وفيوضات المعاني بتعدد الإيحاء والإشارات، وكان الرابط الوحيد بين هذه العناصر الفنيَّة كلِّها هو الإيقاع، والشدو الجميل الذي استخلصه الشاعر من حسِّه الإبداعي، وتجربته الذاتية عبر سنين خلت في كتابة الشعر).
وهذا الديوان في واقعة روضة من رياض أدب الطريق اليومي صباحًا ومساءً بين محل السكنى ومقر العمل، يشغله المحقق الكرباسي بتلمس سلم القوافي ومراقيها.
الرأي الآخر للدراسات- لندن

د. نضير الخزرجي
من روعة الحروف الأبجدية لكل لغة أنها مصنع ومنبع لا ينضب من الكلمات المختلفة المعاني والمقاصد، وليس هناك من مرادفات بخاصة في اللغة العربية كما يرى عدد من الضالعين والمختصين، وإنما وضعت كل مفردة لمعنى واحد ومصداق واحد وإن بدت المعاني متقاربة مع اختلاف حروف المفردة وتشكيلها، فالإنصراف غير العودة والرجوع غير الإياب، وعند الوقوف على التفاصيل تختلف المعاني بقدر تبعا للمحيط والأمارة، مع الإتفاق في المؤدى العام.
ومن بلاغة الأبجدية العربية أن قلة من البشر استطاع أن يمسك بزمام الكلمة ليحركها على سلم موزون نتج منها الشعر بتفعيلاته المختلفة، وكل مجموعة تفعيلات انتظمت في سلك واحد ذات إيقاع سوي في صعوده ونزوله أسموه “البحر”.
وحيث كان الشعراء في العهد الجاهلي وبداية العهد الإسلامي ينظمون الشعر على السليقة ويحركون التفعيلة على ايقاع محسوس يدركه الشاعر نفسه ويستذوقه المتلقي، فإن القرن الثاني الهجري قيض الله لدرر التفعيلات من يوزنها في ثمان تفعيلات هي (فعولن، فاعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتُنْ، مفعولات)، ومن هذه التفعيلات الثمان أوقفنا عيلم البصرة على خمسة عشر بحرًا من بحور الشعر العربي الموزونة، وهي: الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث، الطويل، المديد، البسيط، والمتقارب.
وبعد سنوات من رحيل مكتشف الأوزان والبحور وواضع علم العَروض الأديب والفقيه واللغوي العُماني المولد البصري النشأة والرحيل أحمد بن خليل الفراهيدي الأزدي المتوفى سنة 170هـ، جاء إبن الكوفة المولود في عين التمر من نواحي كربلاء أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العيني المتوفى سنة 211هـ ليكتشف بحر المدق، وفي الوقت نفسه اكتشف ابن البصرة الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة البلخي المتوفى سنة 215هـ بحري المتدارك والخبب، وظل الشعراء يعرفون هذه الأوزان الثمانية عشر ويعزفون عليها ألحان الخلود، وإن خرج البيت عن الإيقاع أسموه “الزحاف”، اعتبره البعض ثلمة في نظم الشاعر ومال آخر الى التساهل لإمكان أن يقع الزحاف عند الفطاحل من الشعراء.
وحيث عُدَّت الأوزان الخليلية وما أتى به أبو العتاهية والأخفش الأوسط أوزانا وبحورًا شعرية توقيفية، انبرى في القرن الخامس عشر الهجري ابن كربلاء الفقيه الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي المولود سنة 1947م إلى تجزئة التفعيلات وتركيبها من جديد بشكل هندسي رائع ليخرج في نهاية المطاف بأبحر جديدة انتهت عنده إلى 210 أبحر أطلق على كل واحدة منها أسمًا جديدًا، وبذلك تجاوز معضلة الزحاف ولم يعد في الشعر زحاف، فما كان يعد في الأمس زحافا دخل اليوم في خانة بحر جديد، وهي أوزان شعرية أودعها الكرباسي في سلسلة مؤلفات في العروض هي: “هندسة العروض من جديد”، “بحور العروض”، “الأوزان الشعرية: العروض والقافية”، “ظلال العروض”، وأخيرا وليس آخرًا كتاب “لبنات الهندسة” الصادر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 336 صفحة من القطع الوزيري قدّم له وعلّق عليه الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شبِّين، والكتاب في واقعه ديوان شعر ضم 671 نموذجا من مولدات البحور التي استحدثها الأديب الكرباسي، وأكثرها من بيت واحد والقليل منها في بيتين.
لزوميات الكرباسي
اللزوميات في الشعر أو لزوم ما لا يلزم هو أن يلتزم الشاعر الإتيان بالغريب او ما ليس معتادًا في النظم كأن يلتزم الإتيان بحرف بعينه قبل القافية في القصيدة كلها، أو الإبتداء بحرف والإنتهاء به في كل مصرع، أو استخدام حرف بعينه في كل مفردات البيت بصدره وعجزه، أو الإمتناع عن استخدام حرف أو مجموعة حروف في البيت الواحد أو المقطوعة، وهكذا.
وتعتبر اللزوميات الشعرية من فنون الشعر الذي قلما يجيدها الشعراء وهي تتطلب من الشاعر الإحاطة باللغة العربية ومفرداتها، وديوان “لبنات الهندسة” وإن جاءت أبياتها بيانا لمستحدثات البحور ومولداتها ونماذج بارزة لهان لكنها لا تخلو من اللزوميات وهي كثيرة.
ومن لزوميات الكرباسي قوله تحت عنوان: “جفاء الحَكَم”، من بحر “الكمول المثمن” المستحدث:
حَكَمٌ جَفا بحقوقكم فاهمًا خائبا *** أوَ ما كفى بعفيفكُم عاكفًا غائبا
فالبيت اجتمعت فيه الحروف القمرية الأربعة عشر: (أ، ب، ج، ح، خ، ع، غ، ف، ق، ك، م، هـ، و، ي) وخلا من الحروف الشمسية الأربعة عشر: (ت، ث، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ل، ن).
ومن لزومايته قوله تحت عنوان: “الأسد والضبا”، من بحر “الضريب المثمن” المستحدث:
قاصدٌ نحوَ عرينِ أُسْدٍ غَزتْ في خَطَلِ الظِّبا *** مُذ شَهِدْتُ الثكلى ضُحًى جلجلَ الثأرُ مُجرِّبا
فالبيت إجتمعت فيه الحروف الهجائية الثمانية والعشرين كلها.
ومن لزومياته، قوله تحت عنوان: “الكذب والمستذلب”، من بحر “الصافي المسدّس” المستحدث:
بذورُ الذَّنبِ الذي يُسْتَذْرَبُ *** فذاكَ الكِذْبُ الذي يُسْتَذلَبُ
فالبيت اجتمعت في مفرداته حرف الذال، وذرب: فسد، وذلب: أقام واستحكم.
أو قوله تحت عنوان: “البلاء بالتباهي”، من بحر “الشبيه المثمّن” المستحدث:
بدتْ بَلْوايَ بعدَ التَّباهي بِوادينا *** فنابَ القلبُ صوبَ البَراري ببارينا
وفي مفردات البيت اجتمع حرف الباء.
ومن لزومياته، قوله تحت عنوان: “لو ترك القطا”، من بحر “المتوافر المثمن” المستحدث:
باهراتٌ وَمضاتُكُم رُسِمَتْ لنا في كتابِ *** بالمعالي سنَسودُ لو تُرك القَطا في رئابِ
فالبيت اجتمعت في بداية كل مصرع ونهايته حرف الباء.
أو قوله تحت عنوان: “التائه في العشق”، من بحر “الصديح المثمّن” المستحدث:
تائهٌ في غِمارِ وِدادها زَمَنًا ما سَئِمْتُ *** تاركًا مُهْجَتي شُعلًا تلي كَبدي مُذْ عَشِقْتُ
وقد اجتمعت في بداية كل مصرع ونهايته حرف التاء.
وتعتبر اللزوميات وهي كثيرة في هذا الديوان وغيره إلى جانب الفتح العروضي في استحداث البحور ترجمة واقعية لثلاثي (المعرفة والإدراك والذوق) كما يقول الدكتور عبد العزيز شّبين في تقديمه على الديوان والتي ينبغي توفرها لمن يروم الوصول الى مقامات الشعر، وهذه الثلاثية: (فلا غرو أن تتوفر في صاحب كتابنا العلامة الكرباسي الذي امتلك مفاتيح البحث، فأجاد في فتح مغاليق أبوابه، وكشف طلاسم إبهامه، حيث نظَّر لموسيقى الشعر، ودرس ميزانه بطريقة بسَّط فيها مركَّبه، ورفع اللبس عن كثير من مسائله، كعلاقة النَّبْرِ والمقطعين اللغوي والصوتي، وواقع الأسباب والأوتاد، ومفهوم القافية ونحوها).
عشقيات وعرفانيات
في حين يحرص الشاعر على نظم القصيدة بما يبهر السامع والمتلقي، ويكون له بين زمرة الشعراء مكانة رفيعة دونها مكانة الفارس المغوار في ساحات الوغى، فإن الفقهاء والعلماء الذين يخوضون بين الفينة والأخرى في ميدان النظم يحرصون على نظم ما ينفع السامع في حياته، وربما استعملوا أدوات ومفردات شاعر الحب والهوى ولكنهم عنوا ويعنون محبوبا تسامى عن الحسيّات وترفَّع عن الإنِّية الشخصانية والزمكانية.
ومن نظم الهوى، قول الفقيه الكرباسي الشاعر تحت عنوان: “هفا القلب”، من بحر “المزاد المسدّس” المستحدث:
هفا قلبي إلى دار فيها هندُ *** وقد جارى فؤادي قلبا لن يغدو
أو قوله تحت عنوان: “أخذت فؤادي”، من بحر “المتركب المثمن” المستحدث:
كمْ ذكرتْ لكم سُليمى في الخَلوات من ودادي *** قد أخذتْ إليكم منّي بعنادها فؤادي
أو قوله تحت عنوان “معشوق ليلى”، من بحر “المشذب المثمّن” المستحدث:
مُسترخيةٌ بجواري ليلى شغفًا بجمالي *** مَن في فلكي يتعالى شوْقًا لهُ بِنَوالي
أو قوله تحت عنوان “تحية لليلى”، من بحر “المستكمل المثمّن” المستحدث:
كفى منك تحيَّةٌ لِلَيْلى بوصالها *** فلولا بَسماتها ذَوى زَهْرُ دلالِها
أو قوله تحت عنوان: “مرهمُ الوصال”، من بحر “الخصيب المسدّس” المستحدث:
قسمًا بحُبِّنا إنّي لَمُتَيَّمُ *** فَلَرُبَّما وِصالي وحدَه مرهَمُ
او قوله تحت عنوان: “قولها بلسم”، من بحر “المطرد المثمَن” المستحدث:
نُطقها بَلسَمٌ ألغت جميع الأسقامِ عنِّي *** عبَّرت في رخيم الصوتِ عن نفحِ الطيبِ مِنِّي
وهكذا يستمر الأديب الكرباسي يتنقل بين بيت وآخر يطرق باب الهوى هنا وباب الجوى هناك ليخبرنا عما يدور من مناجات ومناغات في الفضاءات الروحانية والعرفانية بين العاشق الولهان ومحبوبه العالي الشان.
حكميات وتجارب
ومن شيم شعراء الإلتزام والرسالة أنهم إذا حلقوا مع قوافيهم في سماء النظم تمايلوا عن الماديات ومالوا إلى العرفانيات والحكميات كل الميل بما يحقق نقل الإنسان من محيط الذات والأنا والتسامي عما يحط من ذاته وكرامته.
وفي لبنات الهندسة، وإن كان الناظم قصد إبراز المستحدثات والمولدات من البحور، لكنه في الوقت نفسه غرس قوافيه في تربة الحكمة البالغة النابعة في مجملها من تجربة شخصية يحاول الناظم تقديمها بحسّه الرسالي والتوعوي عبر أبيات من الشعر.
ومن ذلك قوله تحت عنوان: “خمس حصيلة العمر”، من بحر “البسيط المسدّس” القديم:
العمرُ ستونَ قالت ثلَّةٌ *** فالثلثُ طيشٌ وأخرى عِلَّةٌ
فالحشو فيها قسيم النوم والــ *** ـباقي شُغيلٌ وخمسٌ غلّةٌ
فالناظم يدعو الإنسان إلى الإستفادة من أيام عمره المنصرم بين النوم واللهو واللعب.
ومن الحكميات قوله تحت عنوان: “الظلم والقضاء”، من بحر “المجاز المسدّس” المستحدث:
إن تكن على ظُلمِ قادرا *** فاعلمن قضا ربّي دائرا
فهو يحذر من الظلم والتمادي فيه، لأن الإنسان مهما بلغ من القوة والمنعة فإن قدرة الله أكبر، ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.
ومن الحكميات قوله تحت عنوان: “ليالي الأنس”، من بحر “المصداح المسدّس” المستحدث:
في ليلِ الأنسِ لا نذكُرُ الوَجعا *** إنما الإنسان إذ ما كَبا رجعا
دعوة صادقة إلى عدم نسيان الواقع والإنغماس باللهو، حيث يعود المرء إلى رشده إذا ما أصابه الوجع.
ومن الحكميات قوله تحت عنوان: “كما تعيب تُعاب” من بحر “الجديد المثمَّن” المستحدث:
كما تعيبُ بنا هُزءًا كذا تُعابُ بذا يوما *** فما تدومُ بدنيانا مضيقةٌ وغنًى دَوما
والبيت في الواقع هو مصداق للمأثور “كما تُدين تُدان”.
وهكذا يستمر الأديب الكرباسي في استعراض نماذج من البحور المستحدثة يقدمها لقارئه بقالب العشقيات والعرفانيات والحكميات، لأنه لا يرى في نفسه شاعرًا أو ناظما، إنما هو أب روحي يتمنى الخير لكل ذي روح، داعيا الإنسان إلى التوازن في علاقاته الست: مع نفسه ونظيره ومجتمعه وبيئته وسلطته وخالقه، وهي علاقات حضارية أودعها في البيتين تحت عنوان: “العلاقات الست” من بحر “المقبول المثمّن” المستحدث:
ستٌّ علاقاتُ الخلائقُ في الحياة كما بدا *** بالنفس والرحمان والبشر الذين لهم غدا
فردٌ وجمعٌ ثم يعقبهُ النظام لدولةٍ *** والبيئة الكبرى لها أثرٌ على نمط الأدا
والجديد في البحور التي أتى بها الأديب الكرباسي ترجمها في بيت من الشعر تحت عنوان: “التجديد في التفعيلات” من بحر “الزلوق المسدّس”، المستحدث مخاطبا المكتشف الأول الفراهيدي:
قد جدَّدتُ تفعيلاتِكَ يا عَلَمُ *** كانت بُغيتي أنْ تُتَّقَدَ الهِمَمُ
لا يخفى أن لبنات الهندسة هو مرآة للبحور المستحدثة والمولَّدة تعكس مصداق كل بحر، وبتعبير المعلِّق الدكتور شبِّين: (استطاع الكرباسي العروضي الشاعر أن ينقل القارئ من واقع النظرية البحت إلى عالم الخيال الشعري الخصب، لنعيش معه الصور باختلاف الألوان والأشكال، وفيوضات المعاني بتعدد الإيحاء والإشارات، وكان الرابط الوحيد بين هذه العناصر الفنيَّة كلِّها هو الإيقاع، والشدو الجميل الذي استخلصه الشاعر من حسِّه الإبداعي، وتجربته الذاتية عبر سنين خلت في كتابة الشعر).
وهذا الديوان في واقعة روضة من رياض أدب الطريق اليومي صباحًا ومساءً بين محل السكنى ومقر العمل، يشغله المحقق الكرباسي بتلمس سلم القوافي ومراقيها.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى