روضات العدالة تسابق الألم وصولاً إلى خط الأمل
بقلم : د. نضير الخزرجي *
عندما تستحكم حلقة الحياة على المرء وتعصره وترميه في جبة النصب تظل عينه مشرئبة إلى روزنة أمل يمستطر عبر كوّتها الضيقة شعاعات نور يتلمس بها محيطه، ويعيش على خيوط النور الضعيفة راجيا أن تفتح الحياة حلقتها، ومن عاش لحظات الأمل يصل مبتغاه وإن ضاقت نافذة النور، ومن مات فيه الأمل عجز عن مبتغاة وإن كانت الشمس في رابعة النهار، فالأمل مطية الحياة من ركبها نال مراده ومن تخلف عنها عجز عن تلمس مواضع قدميه، ومما يُنسب للفقيه محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ قوله:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ولولا الأمل لما علا بنيان، ولا اخضرَّ الجنان، ولا تسامت الأغصان، ولا تمايلت الأفنان، ولا زُوّجت النسوان، ولا اشتقات أنثى الى الرضعان، ولا تاق إنس إلى الرضوان ولا جان، وصار كل ما رأته العين وتراه في خبر كان، لا من نجم ولا شجر يسجدان، ولا من بشر وحشر يعبدان، وكما قال الشاعر أبو اسماعيل الحسين بن علي الطغرائي المتوفى سنة 514هـ في لاميته العجمية:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولما كانت الحياة ميزانها العمل، فالأمل بلا عمل كجسد بلا روح، وعمل بلا أمل كآلة خرساء، ومن تلاحمهما يتولد النور، ولولا أمل توماس أديسون (1847- 1931م) المشفوع بالعمل والتجارب المضنية لما اقترن اسمه باختراع المصباح الضوئي، وكل مفردة في حياة الإنسان هي سيف ذو حدين كالزمن إن لم تقطعه قطعك، والأمل الأجوف هي بطالة مقنَّعة وإن أشغله بالعمل، والأمل المفعم بالحياة يحيل البطالة إلى حركة وإن عزّ العمل وندر، لأن الأمل المثبت هو بحد ذاته سعي وحركة غير ظاهرة، والأمل السلبي هو موت سريري وإن كان صاحبه كثير الحركة، فالأمل الأول منتج والثاني محبط، والبركة في الحركة الهادفة.
وحيثما عاشت الأمة ضنك الحياة وتسلط شخص أو زمرة على رقابها يظل سحاب الخير يظلل رأسها والعين ناظرة إلى يوم الخلاص وإلى المخلص، وكما الأمل ورجاؤه غريزة فالنجاة من العذابات غريزة تسعى الأمَّة أفرادا ومجموعات إلى تحقيقها ما أمكنها ذلك ولو بذهاب الأنفس ما ارتفع في سمائها طائر الأمل وحلّق.
وحيث تحيط بنا موجات القهر والظلم وتيارات الفقر والنقص في الأموال والثمرات فالأمل قائم في قارب يأخذنا الى ساحل الامان، وضمير الجمع المتكلم هو ضمير كل إنسان من مؤمن وغير مؤمن سيان، كل يبحث عن الأمل والمنقذ والمخلص حتى تسود العدالة، فالمسلمون أملهم في المهدي المنتظر، والمسيحيون في عيسى المخلص، واليهود ينتظرون المخلص، وكل أمة شابحة أنظارها إلى المخلص، في عالم صارت الغلبة للقوي، والقول بالشرق الفقير والغرب الغني إنما هي كذبة يروج لها أصحاب الأموال والسلاح الذين يستعبدون الشرق بالحروب وسرقة ثرواته ويستعبدون الغرب وأهله بالضرائب المتصاعدة وارتفاع الأسعار، وما من أسرة إلا وأرسفوا أيديها بقيود الديون وزخرف القروض.
الأمل الموعود والعدالة المنشودة، يترجمها المحقق والأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي شعرا في ديوانه الجديد “رَجَز العدالة” الصادر في بيروت حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في 139 صفحة من القطع الوزيري وقدّم له وعلّق عليه الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شّبين.
رَجَزُ الأمل
لعل مبلغ أمل الإنسان والإنسانية أن يعم العدل الأرض، فبه تستقيم الأمور وتأخذ الحياة مجراها ويأمن كل صاحب نفس وروح، وحيث يمد الظلم بساطه ويُحارب الإنسان في لقمة عيشه وفي معتقداته، تتعالى الأعناق بحثا عن الرمز المخلص الذي يجلب لها العدل، كظمآن يبحث عن صبابة ماء، وما أروع قول الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام المتوفى سنة 183هـ: (إن العدل أحلى من العسل)، وهذا العسل لا شك سيكون في متناول كل إنسان في حكومة العدل التي يتطلع إليها في عهد المهدي المنتظر عليه السلام.
الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي في ديوانه الجديد “رَجز العدالة” يستظهر لنا من بين نوافذ أبيات رجزه ما تقر به العيون مع الظهور الميمون، وقبل أن يدخلنا والقارئ الى روضة العدالة ورجزها يمهد بمقدمة عن حيثيات غياب المنتظر الموعود ومقدمات الظهور وما بعد الظهور، يسجلها في 28 نقطة رئيسية أهمها:
* لا خلاف بين المسلمين بجميع مذاهبهم ومشاربهم أن المهدي بهذا الإسم أو الصفة سيأتي في آخر الزمان لينقذ الأمة ويبسط العدل والقسط بعدما مُلئت الأرض ظُلماً وجَوراً، وهو من آل الرسول(ص)، قالت بعض المذاهب أنه سيولد ويظهر وقالت الإمامية أنه ولد وغاب وسيظهر.
* ذهب معظم المتدينين بالأديان المعروفة والمعتقدين بالعقائد السائدة بوجود مُخلِّص في آخر الزمان.
* إن المهدي الموعود لدى الإمامية هو الإمام الثاني عشر المولود سنة 255هـ صاحب المؤهلات لإنقاذ الأمة من براثن الظلم، والروايات صريحة في ذلك.
* إن مسألة الظهور فيها علامات، ولكن الأجلى الذي لا يمكن إنكاره هو شيوع الفساد بحيث يصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
* إنَّ حكومة الإمام المهدي(ع) تطول لأن القُصر في هذا الجانب ينافي الحكمة الإلهية من إقامتها.
* إنَّ العهد الذي يعيشه الإمام (ع) هو عهد الحضارة الكبرى والعظمى وما فوقه حضارة.
* إنَّ انتظار الفَرج أمرٌ عباديٌّ لأنه يريح النفس ولا يقضي على الآمال.
* لا يجوز التقاعس لتطبيق الإسلام، ولا يمكن الاعتذار بأن الحكم الإلهي لا يمكن تطبيقه بشكل كامل وصحيح إلا في عهد الإمام المهدي المنتظر(ع)، ومن هنا لابد من تولّي زمام الأمور من منظور الولاية العامة لتُمهّد بذلك للولاية المطلقة للمعصوم.
إن التعلق بالأمل الموعود هو الذي يجعل النفس وثابة وحية مع كثرة الإحباطات، والفقيه الكرباسي يعلن عبر “رجز العدالة” تعلقه بهذا الأمل ويرجو أن يكون جزءًا من قافلته، ولهذا يؤكد في ختام التمهيد: (إنَّ هذا المُسَمَّطَ الذي طرحته هنا هو عبارة عن نفثات قلبِ محبّ الى حبيبه الغالي، الذي يأمل رؤيته ليُكحِّلَ بالنظر اليه عينيه الثَّمِلَتَيْنِ مِن شدّة الحُزنِ على أُمَّة أرادها الله أن تكون خير أُمَّة أُخرجت للناس، وأن تكون شاهدة على الأمم وحجّة عليها من خلال كونها الوسطى).
روضات الولاء
يمثل الرَّجَز أحد بحور الشعر العربي وتفعيلته: (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) والقصيدة منها أرجوزة، ولطالما استقل العلماء سفينته والأبحار في محيط علم من العلوم، فتكونت إلى جانب الشروحات النثرية لمادة علمية منظومات وأرجوزات مختلفة، فهناك أرجوزة في الفقه وأخرى في المنطق وثالثة في قواعد التلاوة ورابعة في قواعد اللغة مثل الفية إبن مالك، وأمثال ذلك، وفي العادة تكون أبيات الأرجوزة من شطرين متحدتين في التقفية، مثل مطلع كل قصيدة، وتختلف القافية في الأرجوزة الواحدة بين بيت وآخر.
وفي ديوان “رجز العدالة” اختلف الوضع فأراجيز الديوان التي توزعت على إثنتي عشرة روضة شعرية اتحدت كلها في قافية الراء، وقد جاءت الأشطر وعددها 438 شطرا بمثابة ملحمة شعرية توثق لحركة المخلِّص الموعود من البداية حتى النهاية.
وتصدَّرت العناوين التالية أبواب الروضات: “إشاعة الظلم والفساد”، “حال المؤمنين والأمة”، “انتظار المستضعفين”، “علامات الظهور”، “الإعلان بالظهور”، “زحف الجماهير”، “الإنطلاق”، “الانتشار”، “إحقاق الحق”، “حرب وانتصار”، “الحُكم”، و”العدالة على أرض الواقع”.
ويلاحظ من عناوين الروضات الشعرية أن كل واحدة منها تتناول مرحلة زمنية وحدثا معينا، من إنتشار الظلم وتفشي الجريمة إلى سيادة العدل بعد الظهور المبارك ونشر القسط والعدل والأخذ على يد الظالم بقوة القانون والإنتصار للمظلوم.
وقد مهّد الأديب الكرباسي لكل روضة بصورة معبرة خطها قلم رصاص الفنانة التشكيلية اللبنانية زينب عيّاش تعكس مراد الروضة وفحواها، وأتبعها بمقدمة نثرية تتقصى الفترة الزمنية ومجرياتها.
في الروضة الأولى يرفع الأديب الكرباسي يديه شاكيا ما شاع من ظلم وفساد مرتجزا:
يا سيدي شكوتي في الأثَرْ
فينا فساد علا واستتَرْ
ليل طويل كثير البؤَرْ
وفي الروضة الثانية يرثي حال المؤمنين والأمة وعموم البشرية حيث تموج الأرض بالفتن والمحن، فيخبرنا:
أروي لكم طبقَ عدلٍ حَبَرْ
أخبار قومٍ غدَوا كالخَبَرْ
في ظلّ حكمٍ غدا كالسُّقَرْ
وفي الروضة الثالثة يوصف لنا الوضعية التي يكون عليها المستضعفون في الأرض وانتظارهم حيث يكون القابض على دينه كالقابض على جمرة، فيخبرنا:
نارُ البلايا بنا قد دَغَرْ
إصبرْ وصابرْ ليومٍ أغَرْ
لولا الحِجى حُلمنا لانشحرْ
ويحدثنا في الروضة الرابعة عن علامات ظهور المخلص الموعود، مرتجزا:
تي نسوةٌ في رداءِ الذَّكَرْ
ماء السما عن بلا مُنحَسَرْ
أو في سيولِ البَلا قد حَدَرْ
وحيث يقف المخلص في مكة المكرمة معلنا عن بدء حركته الربانية يدعونا الناظم في الروضة الخامسة الى القيام، مرتجزا:
هذا هو المنقذُ المُنْحَصَرْ
يا قوم قوموا إلى المؤتمَرْ
مهديُّنا قد أتى وابتَدَرْ
ويعلن الناظم في الروضة السادسة عن زحف الجماهير للإلتحاق بالمهدي الموعود، مرتجزًا:
سِرْ للأماني بوجهٍ بَشِرْ
حتى ترى قائدًا قد طَمَرْ
ترجو إمامَ التقى مُزدَهَرْ
وعندما تجتمع الجماهير من أطراف الأرض للإلتحاق بالمخلص كما في الروضة السابعة من حركة الظهور، يرتجز الناظم:
سيروا معي نحوَ عَيْنِ الخَطَرْ
هيا ازحفوا يا جيوشَ الغُرَرْ
صوبَ العِدا والقِموهُمْ حَجَرْ
ويعلن الناظم في الروضة الثامنة عن انتشار القوات المسلحة في الأصقاع والأمصار بعد تنظيم الهيئة القيادية، مرتجزًا:
هذا سبيلي فلا يُنْحَسَرْ
من طنجةٍ، خُذْ تخومَ المَجَرْ
لا بربرٌ يُنتَسى لا صَخَرْ
ومن أهداف الإنتشار المنظم هو أحقاق الحق كما يخبرنا الناظم في الروضة التاسعة، مرتجزًا:
يومٌ بدا باسمًا في السَّحَرْ
ها قَدْ أتى صبحُنا وانْفَجَرْ
بالياس قد طاب ثمَّ ازدَهَرْ
وحيث كتب الله على نفسه نصر المستضعفين، فإن الروضة العاشرة يخبرنا فيها الناظم عن الحرب والإنتصار، مرتجزًا:
حسبي إلهي الذي قد نَصَرْ
كُن واثقًا سيِّدي لا نُغَرْ
نحنُ أمامَ النفيرِ الأمَرْ
وحينما يلج المستضعفون خيمة الحق تعلو ساريتها راية الأمل الموعود، فإن الناظم يخبرنا في الروضة الحادية عشرة عن الوضع العام في حكم الدولة المهدوية، مرتجزًا:
أرضُ العُلا ربْعها قد غَضَرْ
قد أكثروا في البنا والجَسَرْ
الحقُّ فاخترهُ لا يُنْدَثَرْ
وفي نهاية الأمر وفي الروضة الثانية عشرة يبشرنا الناظم بسيادة العدل كحقيقة مسلمة تنتظرها البشرية، فيرتجز:
العدلُ آتٍ لمن قَدْ صَبَرْ
في دولة الحقِّ نُحيي السِّيَرْ
الضَّعْفُ ولّى وزالَ الخَدَرْ
وحيث أشغل الناظم ساعات حياته في التحقيق والتأليف، فإنه استغل فترة الذهاب والإياب بين الدار ومحل العمل راجلاً كل يوم في نظم الشعر، فكان هذا الديوان هو الآخر ثمرة من ثمار أدب الطريق المثمر، وحسبي قول الدكتور عبد العزيز شبين في مقدمته: (الشعرُ عند الكرباسي رِسالةٌ تذودُ شامخةً عن المبدأ والفكر والعقيدةِ، فالحياةُ وفق منظوره العقلانيِّ والفقهيِّ هي اعتقادٌ وجهادٌ، وفي سبيل هذا التصوّر للوجود كان الشعرُ عنوان جُهْدِهِ في مسعاه إلى تحقيق الحريَّة للإنسان، والبحث عمَّا كان يحلمُ به من الإنعتاق، ومن أشرفِ الأبواب للولوج إلى عالَمِ الكلمة الرساليّة الشعرُ، وما أشْرَفَه لساناً ينطقُ عن الحق في مواطنِ الحقِّ، ويبلِّغُ فصْلَ الخطاب بالصِّدقِ، لا يشوبُه في أدائه الفتُور، ولا يعجزُه عن إيفاءِ القسطاس اللغوبُ، وهمَمُه في كلِّ ذلك إرضاءُ الضمير، وإخمادُ لهيبِ الغضبِ من باطنِ الشعور).
وعين الفهم الوارف فيما أثبته الشاعر الجزائري من زلال الكلم الآنف.
*الرأي الآخر للدراسات- لندن.