من أدب الطريق: تربيع الأمثال في مئة مثال
بقلم : د. نضير الخزرجي *
كلٌّ منا يدفعه الحنين والإشتياق إلى إعادة قراءة كتاب أو قصة سبق أن قرأها في صباه أو شبابه، وكل منا يشتاق الى مشاهدة فيلم أو تمثيلية أو مسرحية علقت في ذهنه حينما كان في مقتبل عمره، وهو شعور حي ينبض في كوامن كل إنسان، لأن الحنين هي شعلة كامنة تخبو بفعل حادثات الزمن ولكنها لا تنطفئ، ولهذا تجد البعض يتوق الى أفلام الأبيض والأسود مع أن الشريط الملون فيه من الألوان الزاهية ما تثير البصر وتوغر في الأثر، والبعض يرجع إلى الكتب القديمة يزيل ما ران على ذاكرته من غبار النسيان.
وحتى يومنا هذا فإن مسرحية (الخيط والعصفور) العراقية من بطولة الفقيد خليل الرفاعي (1927- 2006م) بدور “عصفور” والفقيدة أمل طه (1956- 2016م) بدور “جرادة” تبعث على الإنشراح كلما تم عرضها وبالنسبة لي كأني أراها للتو مع أن فرقة مسرح بغداد قدّمتها لأول مرة على مسرح المنصور ببغداد سنة 1983م من إخراج الفنان مقداد مسلم، ومن جماليتها قيام حبكتها على الأمثال، فالنص الدرامي الذي جمع بين العبرة والفكاهة ضم كمًّا غزيرا من الأمثال الشعبية، استطاع أن يجذب المشاهد ويفرض عليه التفاعل معه، وأن يجعله جزءًا من العرض وأجزاء المسرحية، بحيث يرى المشاهد نفسه داخل كل شخصية ترجمت الأمثال الشعبية إلى أرجل تتحرك على خشبة المسرح.
فبعد نحو أربعة عقود لازالت المسرحية تحتفظ برونقها رغم أن كبار الممثلين رحلوا عن هذه الدنيا، ولازال الفقيد أبو فارس يمتع المشاهد بتعابير وجه ونبرات صوته ولازالت الفقيدة جرادة تطلب المزيد من جيب زوجها لتلبية رغباتها بغض النظر عن مصدر رزقه، أمن حلال أتى أم من ركوب موجة الشعوذة والدجل الرائجة اليوم في العراق وبخاصة مع فقدان القانون لركيزته بعد التحول القيصري الذي حصل في 9 نيسان 2003م، فالمسرحية بقيت هي هي جاذبة للمشاهد، لأن الأمثال لا تموت، بل وضعت أصلا لتوثيق حدث ما لكي يبقى حيا تتداوله الأجيال، وتظل المصاديق تتكرر في كل زمان ومكان.
وقد ساقني الى تذكر مسرحية (الخيط والعصفور) وما اكتنفته من أمثال ذات معانٍ حيوية، هو كتاب “تربيع الأمثال في مئة مثال” للأديب المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 296 صفحة من القطع الوزيري، ضمّ كما هو الواضح من عنوانه (100) مثال من صنف النظم والشعر قديمه وحديثه، قام الأديب الكرباسي بتربيع البيت الشاهد، فجاء الكتاب تحفة أدبية جمعت بين الشعر والنثر، إلى جانب ما قدمه وعلق عليه الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شبين، فضلا عن مقدمة الناشر.
مثل وتربيع
ينطوي المثل على مفهوم (ما قلّ ودل) في عدد كلماته ومنتهى مؤداه، فهو جملة من عبارة نثرية أو صدر بيت أو عجزه من قصيدة، أو شطر من آية قرآنية، او عبارة مرسلة لذاتها طافت في الآفاق مثلا، فهي نتاج واقعة أو حدث أو سلوك، قيل في مصداق خارجي، شخصا أو حيوانا أو جمادا أو حادثة، لم يتوقف عند المصداق زمانا ومكانا، وإنما تعداه إلى غيره أجيالًا وآجالا، وإن ضرب في شخص أو حالة لا يُراد منه العين وإنما الحيثية والمؤدى وما يتركان من أثر يلملم به القائل أو السامع أطراف الحديث في كلمات قصار، والمثل في واقعه أبلغ قصة قصيرة محبوكة الجوانب تتوفر فيها كل مفردات القصة والرواية، يتلقاها السامع حقيقة مسلمة، وقد جرى المثل الشائع: “الأمثال تُضرب ولا تقاس”، وأرى أن هذا المثل بحد ذاته هو فلذكة أدبية للتخلص من تبعات مثل يُراد منه تقديم درس أدبي وأخلاقي عندما يُضرب في وجه شخص أو مجموعة، ولا سيما في المثل الحَكَمي والتربوي.
وتسالم الناس، عالمهم ومتعلمهم، أن في الأمثال حكمة وعبرة وموعظة، وما قيلت أو ضُربت إلا لصالح عام أو خاص، وفي الحالتين فهي مدعاة للتأسي في جانبها المثبت والإجتناب في جانبها السلبي، والقرآن الكريم حافل بالحكم والأمثال، ويدعو الناس إلى الإمتثال، من ذلك قوله تعالى: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ]سورة الحشر: 21[، أو قوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) ]سورة الرعد: 17[.
اما التربيع فهو خاص بالنظم، حيث يقوم الشاعر بتربيع صدر بيت أو عجزه إلى أربعة أشطر متحدة القافية والروي، فينتج من التربيع بيتان، وإذا ربّع صدر البيت وعجزه، نتج عنهما أربعة أبيات، الأول والثاني في قافية والثالث والرابع في قافية مختلفة فيما إذا اختلفت نهاية الصدر مع نهاية العجز، وإذا اتحدتا كما في مطلع القصيدة ومصرعها فإن التربيع يكون متحد القافية والروي في الأبيات الأربعة.
وديوان الكرباسي الجديد (تربيع الأمثال في مئة مثال) اعتمد فيه تربيع البيت الذي فيه النص مضرب الامثال، فهو لم يكتف بتربيع الشاهد الذي قد يكون في الصدر أو في العجز وإنما كامل البيت، وقد اختار مائة مثال قديمها وحديثها وأودعها في مقطوعة مزدوجة البيتين للصدر والعجز.
ولأن الأديب الكرباسي ديدنه التجديد في كل حقل يدوس عليه بقلمه، فقد اعتمد في هذا الديوان الذي جمع بين النثر والنظم، أمورًا عدة:
أولا: ذكر كامل البيت وعدم الإقتصار على الشاهد وإرجاعه إلى قائله وبيان غرض النظم وسبب المناسبة والشاهد أو المصداق والمآل.
ثانيا: تربيع البيت بكامله، في أربعة أبيات متناصفة القوافي تشاكلا مع الصدر والعجز.
ثالثا: الإستشهاد بآية من القرآن الكريم تنطبق على الشاهد المثال أو تقترب منه قليلا أو كثيرا وبالمؤدى نفسه.
رابعا: الإستشهاد بحديث شريف للنبي الأكرم محمد بن عبد الله (ص) وأهل بيته الكرام يتماثل مع المثال الشاهد أو يقترب منه قليلأ أو كثيرا وبالمؤدى نفسه.
خامسا: الإستشهاد بمثل نثري يكون متطابقا مع المثل النظمي حذو النعل بالنعل أو قريبا منه.
سادسا: إستحداث صاحب التربيع لنصوص نثرية قليلة الكلمات غنية الدلالات، حاكية عن المثل، وهي بذاتها مضرب للأمثال.
ومن البيت المثل قول أبي ذؤيب خويلد بن خالد المضري المتوفى نحو سنة 27هـ من بحر الكامل:
وإذا المنية أنشبت اظفارَها * * ألفيتَ كل تَميمة لا تنفعُ
فالبيت صار مثلا لوقوع الحدث رغم الإحتياطات، وبتعبير الأديب الكرباسي: (يُضرب به المثل فيما عصي من الأمور مما لا ينفع معه العلاج)، فهو حتمي كحتمية الموت، وقد ربّعه على النحو التالي:
وإذا المنيةُ أنشبتَ أظفارها ** لمسَ الفتى خطرًا تشظّى نارَها
فقَدَتْ بذلك من الحَيا أنوارَها ** حجَبَت على أُفقِ المُنى أقمارَها
* * * *
ألفيتَ كُلّ تميمة لا تنفعُ ** مهما تَكُن ستُساقُ فيما يُزمَعُ
لا شيً ينجَعُ حينها أو يُدفعُ ** لا يُرتجى عملٌ ولا مَن يشفَعُ
فيلاحظ في التربيعين أن البيتين الأوّلَيْن جاءت القافية في أشطرها متشاكلة مع نهاية صدر البيت الشاهد، فيما تشاكل تربيع العجز مع قافيته، وقد يتحقق التربيع في صدر البيت فقط إذا كان هو الشاهد دون العجز أو العجز دون الصدر، لكن صاحب التربيع هنا اتخذ منهج تربيع البيت بكامله في ثمانية أشطر متحدة القافية لكل أربعة أشطر.
وقدّم على التربيع شرحا للمثل وما أحاط به حين صدوره وغرضه وحيثياته.
وأردف التربيع بشاهد من القرآن الكريم كخطوة ثالثة، وفي المثل الشاهد، قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) ]سورة النساء: 78[.
وأردف الشاهد القرآني في خطوته الرابعة برواية معتبرة، وفي المثل الشاهد قول الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (ص): “لا يُغني حذرٌ مِن قدَر”.
وأردف الرواية في خطوة خامسة بحكمة، وفي المثل الشاهد قول الحكيم: “إذا وقع القدر عميَ البصر”.
وكخطوة سادسة وأخيرة أردف الحكمة بحكمة ثانية ابتدعها الناظم من واقع الحياة والتجربة، وفي المثل الشاهد قوله: (بالدواء يرتفع الداء، والرّدى لا يُعالج بالدواء).
فن المربعات
ولا يخفى أن تربيع صدر بيت أو عجزه أو كامل البيت، كما في المثال الشاهد الذي سقناه حيث توحدت قوافي الصدر والعجز، هو نمط واحد من فن المربعات، وبالطبع توحيد قوافي الأشطر الأربع لا يقتصر على تربيع شاعر لشطر أو بيت لشاعر آخر أو من نظمه، فقد ينظم الشاعر لنفسه مقطوعة رباعية الأشطر متحدة القافية أو قصيدة كاملة على النحو نفسه، وكلها تدخل في فن التربيع المنحدر من الأصل (فن المربعات)، ومن ذلك قوله الأديب الكرباسي من الرمل:
خُذ من الأموات دَرْسا ** لا ترى في الصَّبْر بأسا
وطِّن الأنفاسَ حَبْسا ** واشرَبِ الممرورَ كأسا
ومن تخريجات فن المربعات هو “المُرَبّع”، وفيه لا يلتزم الشاعر بتوحيد قافية التربيع مع قافية الشطر الشاهد، لكنه يلتزم بتوحيد الأشطر الثلاث، ومن ذلك تربيع الأديب الكرباسي للمثل المعروف (يكاد المريبُ يقول خذوني) فربّعه من المتقارب:
وقد يُزدَرى رجُل بكلامِ ** سيهوى إلى درَكٍ وحُطامِ
ويجري كما حجلٌ بهُيامِ ** يَكادُ المُريبُ يقولُ خذوني
ومن تخريجات فن المربعات هو “المُستربع”، وهو الإلتزام بتوحيد قافية الشطر الرابع في مقطوعة واحدة دون الإلتزام بتوحيد قافية الاشطر الثلاثة، وإذا تحقق فن المستربع في قصيدة كاملة، فتتوحد قافية الشطر الرابع من كل تربيعة وتكون هي الرابط لكامل أبيات وتربيعات القصيدة الواحدة، ومن ذلك قول الأديب الكرباسي من مجزوء المُشبَّه:
غريب في دياري مَن يميلُ ** إلى نهجٍ غريبٍ لا يليقُ
فيرجو من غريبٍ ما يُريدُ ** غريبُ عن غريبٍ يا غريبُ
* * * *
دليلي للتُّقى نورٌ وميضُ ** وقلبي بالجَوى جمرٌ وهيجُ
فلا أدري على أيٍّ أسيرُ ** أسيرٌ للهوى هذا معيبُ
ويستمر الشاعر في قصيدته المستربعة، حيث يلاحظ توحّد القافية في (غريبُ) و(معيبُ) وعدم توحد القوافي في الأشطر الثلاثة لكل مستربع.
ومن تخريج فن المربعات هو “المربوع”، وفيه يلتزم الناظم في المقطوعة المربّعة بقافية الشطر الأول والثاني والرابع دون الثالث وذلك بإنزال البيت الأول منزلة المطلع فيكون مُصرَّعا، وأما الشطر الرابع باعتباره القافية المُلزم بتوحيدها مع الأول، وهذا ما يُسمى بالدوبيت عند معظم شعراء الفرس وجل شعراء العرب، ومن ذلك قول الشاعر البحريني إبراهيم بن عبد الحسين العريض (1326- 1422هـ)، مترجما شعر الخيام عمر بن إبراهيم النيسابوري (431- 515هـ):
لقد صاحَ بي هاتفٌ في السباتْ ** أفيقوا لرشفِ الطِّلا يا غُفاةْ!
فما حقَّق الحلمَ مثلُ الحُبابِ *** ولا جدَّدَ العمرَ غيرُ السُّقاةْ
وللمربوع أن يتحقق في قصيدة كاملة على المنوال نفسه.
ومن تخريجات فن المربعات هو “الرباعي” وهو خامس التربيعات وآخرها، في أربع أبيات، أولها وأشهرها متحدة القافية، من ذلك قول المقدّم والمعلّق:
علّمي الشعرَ كيف يكتبُ شِعْرا ** واقرئيه البيانَ بحرًا فبحرا
أسمِعيه معنى الشهادة لحنا ** وأريه سفحَ المدامعِ جمرا
مُذ طواك الثرى رأيتُ الثُّريّا ** منكِ يَبنينَ للبلابلِ قَصْرا
كيفَ أفحمتِ غابةَ الليل بالنّو ** رِ وعانقتِ دَوْحَةَ اللهِ فجرا
وكما لفن المربعات خمس تخريجات وفنون فرعية كذلك للرباعي خمس تخريجات وفنون أودعها المؤلف في الكتاب مع الشواهد، وقد اعتمد المؤلف في هذا المصنف “فن التربيع”.
أمثال وأخواتها
وقد يفهم من عنوان الكتاب (تربيع الأمثال في مئة مثال)، أن القارئ سيخرج من قراءته للكتاب بمائة بيت مثال وتربيعاتها فقط، ولكن بلحاظ الخطوات الست التي اتبعها الناظم، فإن الحصيلة في واقعها هي شروح لمائة مثال وشاعر، ومائة شاهد قرآني، ومائة شاهد روائي، ومائة حكمة نثرية ومثال من سنخ بيت المثال الشاهد، ومائة حكمة وعبرة ومثال من وحي الناظم.
ومن ما جادت به سليقة العلامة الكرباسي من حكم: “المعرفة ضالّة الناهل واليقين محجة العاقل”، “كنِّ ولا تصرّح وانصح ولا تجرّح”، “التمنّي مطيّة المتقاعس والمثابرة وسيلة المتنافس”، “الجبان سريع الخضوع والشجاع لا يعرف الخنوع”، “قدّم المجرّب على حكمة المدرّب”، “أنظر إلى النهاية ولا تحكم على البداية”، “من اعتمد على الخبير لا يخيب ومن التمس السَّفيه لا يُصيب”، “لو صفت النفوس لما قُطفت الرؤوس”، “راحة المرء في الإستقرار وشوق التاجر في الإستثمار”، “لا تطلب من اللئيم ولا تبخل على الكريم”، “لا عيش من دون الناس كما لا حياة بلا أنفاس”، “المكر في الحرب فضيلة وفي السلم رذيلة”، “ذلَّ مَن تقاعس وعزَ مَن تنافس”، “مَن آلفَ وُلِف ومَن فرّقَ تُلِف”، “الحذاقة نعمة والحماقة نقمة”.
وحيث ابتدأ الكتاب بتقديم الشاعر الجزائري عبد العزيز مختار شَبين، الذي وجد في تربيع الامثال للكرباسي: (فسحة أخرى من ذوق اللغة، وطموح الكلمة إلى الخيال، وسياحة للعقل عبر مدارج الجمال)، اختتم بكلمة الأديب العراقي الأستاذ حسين البزاز أثنى فيها على المؤلِّف والمؤلَّف، لكن الفقيه والمحقق الكرباسي بتواضعه المعرفي في خاتمة الكتاب يفيدنا بقوله: (أود الإشارة إلى أني لم أحترف نظم الشعر ولست من أهله بل أجد نفسي متطفلا على أهله)، فوقته أفرغه للتأليف والتحقيق وقضاء حاجات الناس والسائلين، وطريق الذهاب والعودة بين المنزل والمكتب راجلا تسلح فيه بوريقات وقلم يفرغ على سطحها مشاعره وأحاسيه في قوالب شعريه هي ثمرة أدب الطريق، ومنه تكدست لدى الناظم عشرات الآلاف من الأبيات، ومازال الطريق سالكا ما صعد لدى الكرباسي نفس ونزل.
*الرأي الآخر للدراسات- لندن