فلسفة رايش.. كيف ومتى تخدم الوطنية المفرطة حكام الاستبداد؟

بقلم: رباب كمال/ مصر

تبنّت بعض الجماعات الدينية، على مدار التاريخ، خطاباً تكفيرياً ضدّ من لا ينصاع لتأويلاتها الدينية، وعلى ذات الوتيرة؛ لجأت بعض جماعات دعم الوطنية (من منظور سلطوي) إلى تبنّي خطاب تخويني ضدّ كلّ معارض لا ينصاع لرؤيتها عن مفهوم ومصالح الوطن.

أما البلاد التي تواجه خلطاً بين مفهوم وسلطة الدين والوطن، قد يجد المُختلف فيها نفسه شارداً عن الجموع بتهمة التخوين والتكفير معاً، مما يؤدي به إلى عزلة نفسية وذهنية، رغم أنّ جسده غير منفصل عن المجتمع وهمومه.

لطالما كان فكر الغلو مرتبطاً بالتطرف الديني، لكن هل يمكن أن تصل مشاعر الوطنية ببعض الناس إلى درجة تطرف مماثلة؟

الشوفينية

الأمر ليس بجديد، ولعل مصطلح (الشوفينية) يتردد كثيراً على مسامعنا، ويراه البعض إيجابياً؛ لأنّ المغالاة في حبّ الأوطان انتماء رشيد، أما البعض الآخر يراه سلبياً؛ لأنّ الغلو في حبّ الأوطان قد يخلق جموداً في الفكر، ويصنع دوغما وطنية لا تقل عن الدوغما الدينية.

الدوغما الوطنية قد يتم تطويعها من قِبل السلطة، وهنا أصبحت ترجمة كلمة الشوفينية مختلَفاً عليها ما بين المغالاة الإيجابية والغلو السلبي، بحسب رؤية البشر لعلاقتهم بالوطن، وقد يرى البعض أنّ الدين هو الوطن؛ لهذا نشأت فلسفة دينية مناهضة لفكرة الوطن في مطلع القرن العشرين في البلاد ذات الأغلبية الإسلامية، وأسس لها مؤسس مجلة “المنار” الإسلامية، رشيد رضا (1865-1935)، من خلال مصطلح الجنسية العصبية، أو النزعة الوطنية، كما ورد في كتابه “الخلافة”؛ حيث رأى أنّ الوطنية، بشكل عام، مناهضة لوطن أسماه دار الإسلام.

هنا أصبح التعصب الديني، أو التعصب الوطني، بمثابة المطرقة والسندان في ميزان الحقوق الفردية؛ ففي كلتا الحالتين تعدّ الجماعة هي الوصية على الفرد، تارة باسم الدين، وتارة باسم الوطن.

مصطلح الشوفينية (Chauvinism) ذاته منسوب لجندي فرنسي، كان يعدّ بطلاً في حياته، إنما أضحى مادة ساخرة بعد مماته، ألا وهو: نيكولا شوفان؛ الذي حارب في جيش نابليون، وتعدّ القصص حوله أسطورية إلى حدّ ما، قيل من خلالها إنّه خاض عدة معارك متفانياً، لدرجة تعرض وجهه للتشوهات، ولا سبيل للتحقق من هذه المرويات بشكل قاطع في زمن لم تكن التقنيات الإعلامية الحديثة قادرة على دحض أيّة ادعاءات، كما هو الحال الآن.

يعتقد البعض أنّ نيكولا شوفان كان وسيلة دعائية لجيش الإمبراطورية الفرنسية، للتعبير عن أمجادها من خلال جنود متفانين لها، ومن خلال الربط بين الولاء للوطن والولاء للإمبراطور وجيشه، ومَن لا يكون كذلك يعدّ خائناً وعميلاً أو “طابوراً خامساً”، كما شاع المصطلح، ليس فقط في الغرب، وإنما في البلاد العربية.

أما نيكولا شوفان؛ فقد كان يُقاتل ويدافع عن فرنسيته وجيش الإمبراطور، في تعصّب أعمى، دون أن يضع في اعتباره نتيجة هذا التعصب السياسي العسكري، ثم ارتبط المصطلح، في القرن العشرين، بالنازية والفاشية والتحزب وتخوين المعارضة، حتى إن كانت معارضة تحمل الأقلام لا السلاح.

الكاتب الأمريكي مارك توين (1835-1910) تعامل مع الشوفينية أو الوطنية في حالتها المفرطة، من خلال تعريفه للوطنية بأنّها تأييد الوطن على طول الخط، وتأييد السلطة حين تستحق ذلك.

بين استبداد السلطة واستبداد المجتمع

ربما أراد مارك توين أن يدّعي أنّ بعض الأوطان لا تستحق السلطة الحاكمة لها، وهذا يأخذنا إلى فلسفة فيلهلم رايش (1897 – 1957)، عالم النفس النمساوي الذي ناقش القضية من منظور آخر؛ ألا وهو ربما أنّ الأوطان لا تستحق سلطتها، لكن ربما أنّ السلطة المستبدة  تعبّر عن الجماهيرية  المستبدة التي أوصلتها للحكم، فليس بالضرورة أن يكون المعارض مدافعاً عن الحريات، فربما يمارس استبداده المجتمعي على الآخرين؛ فالديكتاتور لا يفرض نفسه على الناس، وإنما يمثل المنظومة القيمية التي جاءت به إلى الحكم، وقد سرد فيليهام رايش النظرية من خلال كتابه (Die Massenpsychologie des Faschismus) سيكولوجية الفاشية لدى الجماهير، الصادر العام 1933، والذي تنبأ من خلاله بهيمنة  النازية على مقدرات الشعب الألماني وسعيها للسيطرة على أوروبا والعالم.

هكذا؛ فإنّ خلاصة هذه النظرية، التي يتمحور كتابه حولها؛ هي أنّ الشعوب التي تعارض أنظمتها ليست بالضرورة مدافعة عن الحريات؛ بل قد تؤيد ذات الأنظمة المستبدة في قهرها للحريات الفردية للآخرين تحت مبررات دينية أو وطنية، وتقوم السلطة بتوظيف وتأجيح المشاعر الدينية والوطنية لسحق مبادرات إنسانية تتبنى الحريات الفردية، ويتم تخويف الشعوب من تلك المبادرات تحت شعار “هدم الاستقرار المجتمعي”، وهكذا تتم شيطنة الخطاب الحقوقي.

تُذكرنا فلسفة رايش كذلك بما كتبه أستاذ علم النفس المصري د. قدري حفني (1938- 2018)، في كتابه “العنف بين سلطة الدولة والمجتمع”، رغم اختلاف أسلوب السرد والمنهج العلمي لكليهما، إلا أنّهما اتفقا في جزئية تحليل العلاقة بين الجماهير المستبدة والسلطة الشمولية التي تأتي بها تلك الجماهير إلى الحكم، لكن دون أن ينكرا حق تلك الشعوب في الحد الأدنى من الإنسانية، ودون أن يرفعا شعار الشعوب تستحق حكامها.

خطاب إلى الرجل الصغير

لكن فلسفة رايش تطورت كثيراً في أعوامه الأخيرة، أو بالأحرى تطور خطابه وأسلوبه ليبتعد عن النظرية العلمية البحتة، وينتقل إلى الكتابة الإنسانية السلسة، وهو ما فعله من خلال كتابه “خطاب إلى الرجل الصغير”، الذي  كتب بلغة الرسالة الموجهة إلى الجماهير التي يريد رايش أن تستفيق لحالها ولا تخدعها كلمات الوطنية المعسولة، فاختار أسلوب المخاطبة الفردية، وكأنّه يخاطب كل فرد من الجماهير على حدة، ربما رغبة منه بأن يشعر القارئ بأنّ هذا الكتاب شخصي للغاية،  وليس مكتوباً من على منصة عالية لمجرد أن  مؤلفه عالم نفسي مشهور.

كتاب “خطاب إلى الرجل الصغير” كان يعج برسومات توضيحية لأفكار رايش، قام برسمها وليام ستيج، العام 1948، لعلّ أكثرها لفتاً للانتباه رسمة “المواطن في فوهة المدفع”، وفيها يظهر جنود من علية القوم يقفون إلى جانب مدفع على وشك إطلاق ذخائره، لكن إن أمعنّا النظر سنجد رأس إنسان يطل من فوهة المدفع، ورؤية فيليهام رايش واضحة هنا، فالسلطة الشمولية، من وجهة نظره، قد تستخدم المواطن وقوداً، لحروب بقائها لا بقاء الأوطان.

لكن من هو الرجل الصغير بحسب رايش؟ الرجل الصغير هو المواطن المغلوب على أمره الذي يواجه عمليات التوجيه الأعمى من قبل الآلة الإعلامية السلطوية، وفي هذا الصدد؛ يشير رايش في كتابه إلى أنّ السلطة الشمولية تعد مواطنيها بالحرية القومية لا بالحرية الفردية، وتعدهم بتحقيق العظمة الوطنية لا الرخاء الفردي؛ فالحكم الاستبدادي ينكر حقوق الفرد لصالح المجتمع، هنا يقول المؤلف:

“أيها الرجل الصغير، إنهم يقولون لك بصراحة أنك وحياتك وأطفالك عائلتك لا قيمة لكم، ولأنّك تجهل الحرية الشخصية في الوقت الذي يسيل لعابك على كلمات مثل الحرية القومية ومصالح الدولة فتهلل خلفهم، إنهم يعرفون نقاط ضعفك، وأنت تحملهم نحو السلطة على ظهرك، أنت وحدك ترفع أسيادك رغم أنهم أسقطوا كلّ الأقنعة، قالوا ذلك بوضوح لك: أنت إنسان من الدرجة الثانية بلا مسؤولية، ورغم ذلك تسميهم المخلصين الجدد وتهلل خلفهم”.

يتراءى لمؤلف الكتاب؛ أنّ الرجل الصغير يعمل ضدّ مصلحته الشخصية حين يهلل للرجال الكبار، اعتقاداً منه أنّ خدمة الوطن تتم من خلال تأييد رجال السلطة تأييداً بلا جدال وكالبنيان المرصوص، ويقول رايش إنّ هؤلاء الرجال الكبار استطاعوا أن يخطفوا عقل المواطن بفعل الخوف أو التخويف بالأحرى، ويؤكد رايش في مقدمة كتابه؛ أنّ الهدف من تأليفه الكتاب حثّ المواطن البسيط على المعرفة التي تقيه التحول إلى خادم للسلطة تحت شعارات الوطنية الوهمية.

كما أطلق رايش على رجال السلطة المستبدة لقب الرجال الكبار الصغار؛ فمهما علت وكبرت مناصبهم يظلون صغاراً في تصرفاتهم، أما الرجال الكبار الحقيقيون، من وجهة نظره، هم من يطالبون بالحرية والمعرفة والحقوق، ويقفون للسلطة الشمولية بالمرصاد، حين يستثمر رجالها الخوف والجهل في المجتمعات.

كما ربط رايش بين الرخاء الاقتصادي والحرية، قائلاً: إنّ الاقتصاد لن يتطور أبداً طالما أنّ الرجل الصغير (أي المواطن) غير قادر على مواجهة الطغيان، وقد لا يواجه الرجل الصغير الطغيان لأنّ رجال السلطة الشمولية أقنعوه بأنّ الرخاء الاقتصادي يتحقق بالديكتاتورية والسجن للمعارضين.

كتب رايش خطاباً إلى الرجل الصغير في أربعينيات القرن الماضي، متأثراً بما واجهه العالم من أنظمة شمولية قادت بلادها للحروب، وملأت عقول شبابها بالتضحية لمجد الأمة، بينما كان الشباب والفتيات يضحون بدمائهم، وباستقرارهم، وبحقوقهم الشخصية، وحق الحياة الكريمة، ويتخلون عن أحلامهم في الاستقرار المالي، من أجل بقاء السلطة، لا من أجل تقدم الوطن بالضرورة، كما قيل لهم.

قد تجد هذه السلطة الشمولية ضالتها المنشودة في بعض المثقفين المؤيدين لها؛ الذين يسعون لإضفاء العقلانية والفكر على القرارات السياسية، وفي بعض الأحيان قد تصل بهم الأمور إلى الدفاع عن رجال السلطة، رغم قصور أدائهم الذي قد يودي بحياة الأبرياء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى