في «ماركسية» اليسار العربي

بقلم : د. عبدالاله بلقزيز

إذا كانت التجارب السياسيّة لقوى اليسار الاشتراكيّ العربيّ (الشيوعيّة والماركسيّة – اللينينيّة) قد انتهت إلى فشل مدوّ لأسباب سياسيّة، من جنس الانغلاق السياسيّ والأخطاء القاتلة في مواقفها من أمّهات المسائل الوطنيّة والقوميّة والديمقراطيّة؛ ولأسباب اجتماعيّة من نوع تكوينه الطبقيّ (البرجوازيّ الصغير) وانغلاق بيئته وانفصالها، أو غربتها، عن البيئات الاجتماعيّة التي انتدب نفسَه لخدمة مصالحها (العمّال، الفلاحون، المهمّشون)، فقد أسَّس للفشل ذاك، وساعد عليه، عامل ثقافي – فكري قلّما انتُبِهَ إلى تأثيراته السلبيّة من طرف معظم من درسوا تجارب اليسار العربيّ، ووقفوا على أزماتها العميقة. ولسنا نبغي القول، من وراء التشديد على هذا العامل، إنّ إخفاق اليسار إنما لا يُفسَّر إلاّ بالعوامل التي هي عنده، دائماً، ثانويّة (العوامل الثقافيّة والإيديولوجيّة) أو تأتي في درجة ثانية بعد عوامل التحديد التحتيّة، ولكنّا نروم القول إنّ تحليل ذلك الإخفاق لن يكتمل وتتبدّى أسبابُه الشاملة إلاّ متى أخذنا في الحسبان أنّ نوع الثقافة – والمعرفة – التي يحملها أيُّ مشروع سياسيّ يقرِّر مصير ذلك المشروع بالنظر إلى أنّ الأخير ليس، في التحليل الأخير، غير تلك الترجمة السياسيّة الماديّة لمنظومة الأفكار التي يحملها، أو قُلْ، للدقة، لتمثّلاته-وتأويلاته – الأفكارَ تلك وتنزيلها إلى واقعٍ ماديّ، فتأتي ترجمتُها السياسيّة، تبعاً لذلك، محكومةً بالتمثلات والتأويلات.

ينبغي ألا ينصرف الاعتقاد، هنا، إلى أنّ أزمة اليسار منبعُها أزمة في النظريّة التي يستند إليها (الماركسيّة)، أو أنّ هذه قادتْه إلى تلك، إذ ما من سبيل إلى محاكمة فكرة بسلوك من يتبنّاها، وإنما مقصدُنا -في هذا – إلى القول إنّ فشل اليسار يعبّر عن قصور نوع فهمه لمرجعه النظريّ ونوع تأويله أو تمثُّله له، بل نحن لا نتزيّد حين نعزوه إلى فقر معارفه بذلك المرجع الذي تَوَسَّله، وسطحيّة صلته به.

ثقافة اليسار العربيّ السياسيّة ثقافة ضحلة، ورصيدُها من المعرفة الماركسيّة شحيح إلى الحدّ الذي ابتَذَلت فيه المعرفةَ تلك، وقدّمت عنها أفْسدَ صورةٍ يمكنها أن تقدّمها؛ وما ذلك إلاّ لأنّ يسارَ البلاد العربيّة ومثقفيه وألسنته اختزلوا الماركسيّة إلى مجرّد أيديولوجيا سياسيّة مطوّحين بكلّ تراثها المعرفيّ، بموضوعاتها النظريّة ومفاهيمها وما في مُكْنها أن تقدِّمه من أدوات معرفيّة لتحليل الاجتماع السياسيّ والبنى الاقتصاديّة والثقافيّة. ولم يكن صدفة أنّ الماركسيّة عَنَتِ المعنى نفسَه عند اليساريّين العرب كافة، فعُرِّفت – تعريفاً لينينيّاً مبتذَلاً – بأنّها «مُرشِد عمل»؛ وصفةٌ قابلةٌ للتطبيق؛ نظريّة للممارسة يُفَصَّل على مقاسها ثوبُ تلك الممارسة. أمّا حينما نتأمّل في «مرشد العمل» هذا فلا نعثر فيه سوى على جاهزٍ مستنسَخ، مأخوذ عن تجارب سياسيّة أخرى قامت في مجتمعات تختلف، بنى وتطوُّراً وعلاقات، عن المجتمعات العربيّة كأنما الأمر يتعلّق بوصفة جاهزة صالحة لكلّ زمان ومكان.

إنّ ماركسيّة اليسار العربيّ هي الاسم الحركيّ لِلِينينيّّّتِهِ. كان لينينيّاً ولم يكن ماركسيّاً، مع فارقٍ أنّ اللينينيّة، في حقيقة أمرها، تأويل روسيّ للماركسيّة أمّا ليلينيّة اليسار العربيّ فاستنساخ للينين لم يكلّف نفسَه (أي الاستنساخ) حتى مواءَمَة المستنسَخ مع ظروف مجتمعه وحاجاته.

ولا يختلف في هذا اليسارُ التقليديّ الشيوعيّ المُسَفْيَت عن اليسار الجديد؛ يكفي أن حركات الأخير سمَّت نفسها حركات ماركسيّةً – لينينيّة، فأدركتِ اللينينيّةَ بما هي تحقيقٌ سياسيّ للماركسيّة ،وبالتالي أقامت على نفسها الحُجَّة بأنها لا تعرف من الماركسيّة سوى وجهها الأيديولوجيّ السياسيّ أو، قُل، لا تعرف منها سوى تأويلها اللينينيّ، لا عجب، إذاً، أن تكون نصوص لينين مقروءة، في أوساط اليساريّين (ونصوص ماوتسي تونج عند بعضهم)، أكثر من نصوص ماركس التي لا يكاد يُعْرَف منها سوى كتيّبُه المشترك – مع إنجلز – البيان الشيوعيّ؛ الذي هو نفسُه نصٌّ أيديولوجيّ بامتياز، كُتِبَ في مراحل الشباب وسرعان ما تجاوَزَهُ ماركس نفسه، حين بدأ يبحث علميًّا – بحسب قراءةٍ ألتوسيريّةٍ شهيرة لفكر ماركس – في موضوعات وضعانيّة مثل نظام الإنتاج الرأسماليّ.

جَنَح اليسار العربيّ، إذاً، لتسييسٍ مُغَالٍ للماركسيّة فأضوَى المعرفيَّ منها في السياسيّ ليخسر كليهما معاً. والحقّ أنّ الظاهرةَ هذه ترُدُّ إلى واقعةٍ تكوينيّة كان لها الأثر والمفعول الكبيران في إحداث الاضطراب في صلة الوعي العربيّ بالماركسيّة في المئة عام من علاقته بها. والواقعة التي نعني، هي أنّ دخول الماركسيّة إلى رحاب الوعي العربيّ، بُعَيْد الحرب العالميّة الأولى، لم يكن يشبه دخول غيرِها من تيارات الفكر الغربيّ كالوضعانيّة، والوجوديّة، وفلسفة الأنوار، وغيرها ممّا دَخَل من قناة الفكر، وإنما هو جرى من قناة السياسة والمؤسّسة الحزبيّة (الأحزاب الشيوعيّة العربيّة أساساً) عقوداً طويلة قبل أن تتدفّق مياهُها عبر أقنيةٍ أخرى (الجامعات، الدوريّات والكتب…). لذلك ظلَّتِ الماركسيّةُ تعني الشيوعيّةَ السياسيّة ونظريّة الثورة العمّالية، ولم تُدْرَك، كمعرفةٍ ومنهجٍ، خارج هذا الإطار. هذا، أيضاً، ما يفسّر لماذا خرجت هذه النظريّة من الوعي العربيّ، في العام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفييتيّ، مثلما دخلت إليه؛ فلقد أتت في ركاب نجاح المشروع البلشفيّ اللينينيّ في روسيا، وخرجت في امتداد إخفاقه وانهيار نظامه السوفييتيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى