اين موقع العرب في خضم الموجة الرابعة للرأسمالية ؟؟

بقلم : حسن العاصي/ الدانمرك

شهد القرن العشرون تغيرات عميقة على مستويات الفلسفة والنقد النظري، تبدلت خلاله المفاهيم النظرية، التيارات الفلسفية، المدارس النقدية بصورة لافتة، وانعكس ذلك على الفكر بشكل عام.. فهل نحن مقبلون على مرحلة ما بعديات، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الماركسية، ما بعد الحداثة، ما بعد العولمة، ما بعد الاستعمار؟ هي مجرد مصطلحات أم هي توصيف لمرحلة من عصر سريع التحول ولا يستقر على حال؟ أم أنها مؤشر على فترة انسداد ونكوص فكري؟

مازال النقاش متواصلاً في أوساط المفكرين والمثقفين وراسمي السياسات الاستراتيجية في العالم منذ أكثر من ربع قرن، حول نظرية المفكرين الأمريكيين “فرانسيس فوكويوما” عن النظام العالمي الجديد، ونظرية “صامويل هنتنغتون” عن صراع الحضارات.

والآن بتنا نسمع من بعض المفكرين عصر “ما بعديات” للدلالة على مرحلة ما بعد العولمة التي ارتبطت بكل ما هو أمريكي النمط والثقافة والمفهوم والصناعة. السؤال الكبير هنا هل تمكنت العولمة فعلياً من حذف الهويات القومية، وأسست عالماً إنسانياً خالياً من الحدود؟ أم أن العالم يتهيأ لمرحلة ما بعد العولمة، ذلك أن مشروع الأسواق المفتوحة والاقتصاد الموحد ينهار، ربما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤشر على ذلك، وربما يتبعها آخرون لاحقاً.

يبدو أن حتى أمريكا نفسها خلال ولاية “ترامب” تحاول الفكاك من العولمة التي كانت لفترة قصيرة مضت رائدة لها. وإلا كيف نفسر سعي الإدارة الأمريكية الحالية التحرر من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والتخلص من التزاماتها تجاه المجتمع الدولي، والانغلاق على نفسها والانكفاء نحو شعار “أمريكا أولاً” الذي كان شعار حملة ترامب الانتخابية. يترافق الطلاق الأمريكي مع القارة الأوروبية الفضاء الأقرب للولايات المتحدة جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، مع تصاعد الميول القومية والأفكار اليمينية حد الشوفينية والعنصرية في أوروبا، وتصاعد التمييز العنصري والكراهية ضد المهاجرين والأجانب الذي يعكس وجودهم في جانب منه وجهاً من وجوه العولمة.

في القرن العشرين

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن العشرين اختفت مفاهيم وقيم ونظم، وحلّت مكانها أخرى جديدة، فغاب عن المشهد مصطلحات مثل الصراع الأيديولوجي، النظام الاشتراكي والشيوعية، الحرب الباردة. وظهرت أفكار جديدة وتعابير وكلمات جديدة، مثل العولمة والحداثة، واعتبر بعض المفكرون الغربيون أن الاشتراكية قد تمت هزيمتها للأبد، وأن الرأسمالية قد انتصرت، وبهذا فإن التاريخ أوشك على نهايته كما قال المفكر الأمريكي المحافظ من أصل ياباني “فرانسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ” الذي ألفه عام 1992 بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، رغم أنه تراجع لاحقاً عن كثير من الأفكار التي وردت في كتابه، إلا أنه يمكن اعتباره نموذجاً للمقاربة، يعبر عن العديد من المفكرين الغربيين الذين روجوا لأفكار ما بعد الحرب الباردة. عالم القطب الأوحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية القوة الاقتصادية والعسكرية والتقنية الأضخم.

دخل العالم مرحلة جديدة بعد الثورة المعلوماتية والتطور الهائل في وسائل الاتصالات، والتمدد الواسع للشركات متعددة الجنسيات وتقدم آليات الاقتصاد الرأسمالي. أدى هذا إلى تراجع دور الدولة بالمفهوم التقليدي، وضعف الثوابت السياسية كالسيادة والوطنية والدولة القومية.

عقب أحداث أيلول/سبتمبر 2001 أقدمت الولايات المتحدة على احتلال أفغانستان والعراق، وأصبحت القوة الوحيدة المتسلطة على العالم، وفرضت إرادتها ومفاهيمها وأسلوبها على بقية الدول، بحيث تحول البيت الأبيض مركزاً للعلاقات الدولية. وقامت أمريكا بتنصيب نفسها قاض على العلاقات الدولية والثنائية والإقليمية والمحلية. كما سعت إلى إخضاع معظم الدول وغالبية الحكام الذين تحولوا إلى موظفين في الإدارة الأمريكية. وهيمنت الولايات المتحدة على مجلس الأمن وبقية المنظمات والهيئات الدولية وعلى منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد والبنك الدولي، وسيطرت على نظام الاتصال وشبكة المعلومات العالمية وعلى أهم الوسائل الإعلامية والأقمار الصناعية. بدا وكأن أمريكا سيطرت على العالم أجمع، وأن هذا الكون قدر له أن يتأمرك.

عصر ما بعد الحرب الباردة

بدأت مرحلة جديدة استبشرت البشرية معها قدوم حقبة مختلفة، تتراجع فيها أصوات التهديدات النووية وصراع الأيديولوجيات وانقسام العالم، نحو مرحلة من الهدوء واستثمار أموال سباق التسلح في تحقيق الرخاء والرفاه الاجتماعي للشعوب. وهذا يتطلب اتباع استراتيجيات سياسية واقتصادية وفكرية جديدة تعتمدها الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة التي تربعت على عرش العالم كدولة عظمى وحيدة.

ولكن هذا لم يحصل من سوء طالع الشعوب، ولم يصبح العالم أكثر أمناً ولا استقراراً من ذي قبل، بل على العكس تماماً، تفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم بكل عنجهية وغطرسة نحو المزيد من الحروب والقتل، وبذلك اضاعت أمريكا فرصة نهاية الحرب الباردة لصياغة استراتيجية مختلفة لجعل العالم اقل اضطراباً.

الأزمة المالية

كثير من المفكرين اعتبروا أن الأزمة المالية التي أصابت البنوك والشركات الأمريكية الكبرى في العام 2008 بمثابة مؤشر مهم على احتمال انتهاء عصر العولمة، ومرحلة السطوة الأمريكية باعتبارها تعكس مركزية رأس المال المالي. حيث يعتبر البعض أن الأزمة كانت اقتصادية وليست فقط مالية، وأدت في النهاية إلى سقوط السياسة الليبرالية الجديدة التي اعتمدت العولمة للهيمنة على اقتصاديات العالم. وقد شكل ربما تدخل إدارة الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” وضخ حوالي 600 مليار دولار لإنقاذ البنوك والشركات الأمريكية التي كانت قد أعلنت إفلاسها وانهارت، سقوط النموذج الرأسمالي، لأن الرأسمالية في الأصل تقوم على حرية السوق الذي يوازن نفسه دون تدخل الدولة.

إن حرية الحركة للبضائع والبشر، وارتفاع مستويات التجارة العابرة للقارات، وظهور الاتحادات التجارية الدولية، كل هذا أسهم في تسريع وتيرة النمو الاقتصادي العالمي بمعدلات غير مسبوقة، لكن الأزمة المالية عام 2008 بددت هذه الإنجازات، ووضعت العولمة على حافة السقوط.

فإن سألنا كيف ذلك، نقول إنه بدلاً عن حدوث طفرة اقتصادية كما هو الحال عقب خروج الاقتصاد من أية أزمة مالية، ما حصل هو العكس حيث تقلص النمو الاقتصادي العالمي بنسبة حوالي خمسين في المئة بعد الأزمة. هذا الانكماش الاقتصادي كان على حساب توزيع الثروة بصورة عادلة. أقدمت البنوك على رفع معدلات الإقراض والاستثمار في البورصة والعقارات، بدلاً من ضخ واستثمار الأموال في اقتصاد حقيقي يخدم الطبقات الوسطى والمتدنية.

عولمة العالم

العولمة التي بدأت في ثمانينيات القرن العشرين نتيجة تطور النظام الرأسمالي العالمي، والآفاق التي أحدثتها ثورة الاتصالات والمعلومات، وظهور البث الفضائي، ثم شبكة الانترنت التي أزالت الحدود السياسية والاقتصادية والثقافية بين الدول والشعوب، ومنحتهم فرصة التواصل فيما بينهم والتفاعل خارج قيود السلطة، ثم ظهر البريد الالكتروني، ومنصات التواصل الاجتماعي لاحقاً، التي أصبحت صوت القوى المقموعة في الأنظمة الاستبدادية، ومنبراً لخطابها السياسي والفكري.

العولمة هي امتداد وتطور طبيعي للرأسمالية، وتجاوز لعصر الحداثة، وهي بمثابة تحقق نبوءة المفكر الأمريكي “آلفن توفلر” وتجسيد للتطورات الهائلة التي ظهرت في مرحلة الموجة الثالثة على الأصعدة الفكرية والعلمية والتقنية، وهي أفكار روج لها توفلر وتوقع أن يتم المساس بسيادة الدول واختراق الهويات الثقافية للأمم الضعيفة، التي تعيش على هامش دول المركز الرأسمالي الصناعي المتطور.

وكان المفكر الأمريكي “توفلر” قد أصدر كتاب “صدمة المستقبل” العم 1970، وكتاب “الموجة الثالثة” العام 1980. وقد استعمل تعبير صدمة المستقبل للدلالة على التغيرات الاجتماعية المستقبلية التي توقعها، في دول العالم وخاصة الدول المتقدمة، ومنها القلق المتزايد الناجم عن تسارع وتيرة الحياة. وفي كتاب الموجة الثالثة ذكر ثلاث أنواع من الموجات، وكل واحدة منها تدفع نحو تشكل نمط محدد من ثقافة المجتمعات، وحين تتوفر إمكانية ولادة موجة فإنها تزيح الثقافة التي قبلها. فالموجة الأولى كانت بالمجتمعات الزراعية وامتدت حتى القرن السابع عشر ميلادي، وكانت هذه الموجة قد أزاحت المجتمعات التي كانت تعتمد على الصيد ولديها ثقافة بدائية.

واعتبر “توفلر” أن الموجة الثانية بدأت مع الثورة الصناعية في أواخر القرن السابع عشر لغاية منتصف القرن العشرين، ومن أبرز معالمها النظام التعليمي الموجه، وظهور الشركات بهيئتها الحديثة، واعتمدت هذه الموجة على التضخيم. تضخيم الإنتاج حتى يلبي احتياجات الجميع، وتضخيم التوزيع كي يتضخم الاستهلاك. تضخيم التعليم ليواكب الطفرة الصناعية والتقنية، ولإيجاد متخصصين والاستفادة من تعليم الجميع. جرى أيضاً تضخيم وسائل الإعلام كي تقوم بدورها في غسل عقول البشر، ونشر المفاهيم التي تخدم مصلحة القوى الصناعية، وتعميم ثقافتها على الشعوب والدول النامية. تضخيم صناعة الأسلحة كي تكون قوة ردع لاي تمرد وخروج عن الهيمنة الرأسمالية.

ثم ظهرت الموجة الثالثة منذ خمسينيات القرن العشرين، ومازالت متواصلة، وهي مرحلة ما بعد الصناعة. هي إيجاد مجتمع يعتمد على المعرفة والمعلومات كمورد رئيسي، نطلق عليه عصر الثورة المعلوماتية، عصر الفضاء، عصر القرية العالمية، عصر العولمة. هذا العصر يركز على الجودة والتنوع والإنتاج المعرفي، والمقدرة على التجاوب مع المتغيرات المتسارعة. وهو عصر يتوفر على طيف واسع من أنماط الحياة ووجود ثقافات فرعية، وسعي الشركات نحو التخصص. ويمكن للمعلومات أن تكون بديلاً عن الموارد المادية للأمم والشعوب. إن الطبقة العاملة قد تم استبدالها بطبقة أخرى تتكون من طبقة العقول العاملة، فهل نحن مقبلون على الموجة الرابعة من المسيرة التاريخية للرأسمالية؟

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

هل يشير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى انهيار فكرة السوق المفتوحة والاقتصاد الواحد؟ وهل نحن مقبلون على عصر ما بعد العولمة؟ وهل استيقظت أوروبا من صدمة خروج الشريك القوي؟ وماهي إمكانية انتقال العدوى إلى دول أوروبية أخرى، ومن هي الدولة المرشحة أكثر من غيرها؟ جميعها وغيرها أسئلة تشغل تفكير مراكز الأبحاث الأوروبية التي يسعى الباحثون فيها لمعرفة هل خروج بريطانيا أحد أعراض الأزمة المالية التي أصابت الاقتصاد العالمي في العام 2008، أم أنه فيروس معدي سيتنقل لمرشح آخر.

الأزمة المالية تسببت بتقليص حجم النمو الاقتصادي العالمي، وعمقت من مبدأ عدم المساواة وتفشي ظاهرة رفض الحدود المفتوحة، وكذلك النقمة على القادة السياسيين التقليديين. ويلاحظ أن نسبة حصول الأحزاب التقليدية الأوروبية في الدول الأعرق ديمقراطياُ، قد تقلصت انتخابياً إلى نحو ثلث الأصوات بعد أن كانت تحصل على ثلثي الأصوات قبل الأزمة المالية. كما يلاحظ تنامي الغضب الشعبي على القادة والزعماء الأوروبيين الذين انتخبهم الناس للتخفيف من سطوة الأزمة ولم يفعلوا شيئاً. هذا الغضب الشعبي الذي اعتبر أن نظام العولمة قد تركهم يواجهون مصائرهم وحدهم، تستغله الأحزاب اليمينية والقوى الشعبوية، التي توظف مشاعر الناخب الأوروبي التي تثقله الأزمات الاقتصادية، وتستثيره رؤية المهاجرين الذين يتوافدون على القارة الأوروبية، ويعتبر أنهم يسرقون الوظائف وينافسون على مصادر الرزق.

إن الثلاث عقود الأخيرة قبل الأزمة المالية شهدت نمواً في الاقتصاد العالمي، ساهمت فيه حرية الحركة والتجارة عابرة الحدود والتطور في التقنيات الحديثة والثورة الرقمية، وهو تطور أسهم في تحسين المستوى المعيشي للشرائح والعائلات الأوروبية، لكنه في ذات الوقت أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي لهذه الدول. وما بعد الأزمة لم تتعدى نسبة النمو الاقتصادي 2 في المئة وهو أقل مؤشر للتعافي الاقتصادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ومن نتائج الأزمة المالية عام 2008 أن رفعت البنوك من معدلات الإقراض، وارتفعت الاستثمارات في البورصة والسندات المالية والعقارات، وهي قطاعات لا يستثمر فيها إلا الأغنياء، بدلاً عن أن يجري الاستثمار في قطاعات اقتصادية تسهم في خلق وظائف جديدة تخفف من حدة الأزمة. وهو أمر يؤدي إلى عدم العدالة الاقتصادية بين الدول وفي الدولة الواحدة. فبحسب دراسة لبنك سويسرا نجد أن من بين أكبر 46 اقتصاداً عالمياً، كان هناك 12 دولة تعاني من عدم العدالة في العام 2007، بينما بلغ العدد 35 دولة في العام 2017، مما يؤكد بوضوح اتساع ظاهرة عدم العدالة في توزيع الثروات.

قيام عالم آخر

إن كانت العولمة مجرد مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية، فإننا مقبلون على مرحلة جديدة في مسيرة النظام الرأسمالي، وظهور اتجاهات أو عولمات أخرى جديدة. سيرورة الحياة بالمعنى التاريخي لا يمكن اختزال أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في نمط واحد، أو عولمة واحدة وثقافة واحدة بات الجميع يتضرر منها حتى في معقلها.

من الطبيعي والحال هذا أن تتسع دائرة الرفض لهذا الغول المتوحش، ولهذا النظام الذي يتسبب في زيادة الأثرياء غنىً والفقراء إفلاساً، فظهر “التحالف ضد العولمة” الذي يضم ملايين المناهضين في العالم، وتم تأسيس “المنتدى الاجتماعي العالمي” في العام 2001 الذي يعقد اجتماعاً سنوياً بهدف تنسيق الحملات التي يقوم بها أعضاء الحركة العمالية لمناهضة العولمة، وتبادل وتطوير المعلومات حول خطط العمل. وهذا المنتدى بمثابة رداً على منتديات النخبة القوية من الدول التي تعطي نفسها الحق في وضع الاستراتيجيات الاقتصادية العالمية مثل “مؤتمر دافوس” الشهير.

في البرازيل ظهر “المنتدى العالمي للبدائل” أيضاً في العام 2001 بجهود قوى سياسية واجتماعية ومدنية معارضة للعولمة، بعيداً عن المواجهات التي كانت قد شهدتها كلاً من جنيف وبراغ وسياتل، لتبادل التجارب والأفكار والمقترحات حول البدائل المتاحة للعولمة في شكلها الحالي، ويستقطب سنوياً آلاف المشاركين من خمس قارات، ويحضره برلمانيون غربيون.

هل هناك إمكانية قيام عالم آخر؟

العولمة الراهنة ليست سوى شكلاً من أشكال الهيمنة الأمريكية، التي قسّمت العالم إلى أثرياء وفقراء، وهو ما يتطلب إحداث انقلاب في السيرورة التاريخية للبشرية. إن العالم الذي نعرفه لم يعد محكوماً من الأحزاب السياسية ولا من رجال السياسة، بل تحكمه الاتحادات الاقتصادية الدولية الكبرى مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية، والتجمعات الاقتصادية العملاقة لكبريات الشركات عابرة القارات.

لقد بات منطق حسابات الأسواق الحرة هو السائد والمقرر للسياسات العالمية، وليس البرلمانات الغربية التي تضم بين جدرانها مندوبي الشعوب المنتخبون. وانتقلت السلطة من السياسيين ليقبض عليها رجال الاقتصاد المسيطرين على وسائل الإعلام والاتصال، ويمتلكون المعلوماتية وتقنياتها الحديثة. بل لقد وصل الأمر إلى حد محاولة رأس المال المالي إحكام قبضته على قوت البشر واحتكار الغذاء في العالم.

من هنا تبرز أهمية إجراء المقاربات الفكرية لتقديم أفكار وحلول لتحقيق العدالة في توزيع الثروات، وعدم الاكتفاء بالاحتجاجات والاعتراضات. حلول تضمن نمو اقتصادي مستدام للاقتصاد العالمي، وتطوير الحياة الديمقراطية، ومنح منظمات المجتمع المدني دوراً أكبر في المشاركة بوضع السياسات العامة، ثم رفع فاعلية المؤسسات الدولية ومنها الهيئات التابعة للأمم المتحدة. ربما أيضاً العمل الجماعي من قبل المتضررين دولاً وشعوباً، بهدف جعل نظام العولمة أو ما بعده نظاماً أكثر إنسانية اجتماعياً.

هل يمكن بالفعل تخفيف وحشية العولمة الراهنة التي تضع الجميع في ميزان الربح والخسارة بسوق البيع والشراء؟ هل تستطيع الأفكار البديلة رسم وجه آدمي للرأسمالية الأسحم؟ وهل تتمكن المنتديات والمؤتمرات البديلة من صياغة مستقبل للبشرية، مختلف عن المستقبل الذي ينتظرنا، أم أن المشاركين فيها ليسوا سوى يساريين متقاعدين من الحرس القديم الذين لم يستطيعوا التأقلم مع التحولات الوقائع الجديدة؟

بديل العولمة

حسناً، ما هو بديل العولمة؟ يبدو أنه عالم يتألف من قوميات بحدود مغلقة ويشهد صراعاً بين الحضارات. وربما أننا سنشهد عالماً مختلفاً لم نعهده بعد ولا نعرف ملامحه.

صاحب كتاب “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكتي، الذي صدر في العام 2013 حذر من أن معدل العوائد في رأس المال على هيئة الأسهم والفوائد والايجارات واستثمارات طويلة الأمد، هو أعلى من معدل النمو الاقتصادي على شكل الناتج القومي والدخل الفردي، هو أمر من شأنه مراكمة ثروة الأغنياء، إذ أنها تنمو بصورة أعلى من الناتج وأجور العمل، وبهذا يتضخم رأس المال المالي على حساب رأس المال البشري، فينال الأثرياء الحصة الأضخم على حساب بقية قطاعات المجتمع، والنتيجة عدم عدالة تصاعدي في توزيع الثروة، وتآكل تدريجي في الطبقة الوسطى بالمجتمعات.

على الدوام كانت الطبقة الوسطى بمثابة قلعة النظام السياسي الليبرالي الغربي، وتقلصها يهدد الأنظمة الديمقراطية. في فترة قبل عام 2008 كانت نسبة الحكومات الغربية تحظى بتأييد شعبي نحو الثلثين، لكن الآن انخفضت هذه النسبة إلى نحو الثلث.

هذا الاستياء الشعبي من الحكومات والعولمة استغله قادة الأحزاب اليمينية الشعبوية، أمثال ترامب في الولايات المتحدة وماري لوبن في فرنسا ومثل الذين قادوا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو انسحاب يعكس الغضب الاجتماعي الذي يلقي باللائمة على الأنظمة الحالية وعلى حرية التجارة وتنقل الأفراد والمهاجرين الذين يسرقون الوظائف.

في أعقاب أزمة 2008 انتعشت الأحزاب اليمينية الشعبوية العنصرية، ولاقت افكارها القومية المتطرفة قبولاً لدى قطاعات واسعة من الناس، بعكس ما توقع بعض المفكرين بأن تزدهر الأحزاب اليسارية بعد الأزمة. وهذا يعود في جانب مهم منه إلى فشل الأحزاب اليسارية والليبرالية الغربية في تقديم حلول للإشكاليات التي واجهتها الدول الغربية، وعجز اليسار على تقديم أية أفكار أو مشاريع جاذبة للجماهير، وكذلك عدم تمكن المفكرين والمثقفين اليساريين الغربيين من وضع منهاجية واضحة. هذا الضعف في قوى اليسار وانحسار دورهم أدى إلى تنامي فكر اليمين المتشدد.

فيما سبق توافق اليسار الأوروبي الضعيف مع الاشتراكيين الصينيين والرأسماليين الأمريكان على لغة العولمة، حين شجعوا فكرة التجارة الحرة، ووافقوا على مبدأ عدم المساواة في مقابل معدلات نمو اقتصادية سريعة ومتصاعدة. لكن في السنوات الأخيرة بدأ يعلو صوت الاحتجاجات الوطنية تدافع عن مصالحها ووظائفها ومصادر رزقها، ثم باشرت بعض الدول في اتخاذ إجراءات ضد العولمة. الإشكالية الحقيقية أن هذه التدابير تحمي الاقتصاد الوطني على المدى القصير، لكنها سوف تؤدي إلى عزلته وإضعافه لاحقاً، مما ينتج ركوداً ثم بطالة متزايدة ثم تضخم فأزمة اقتصادية جديدة.

بينما يتضح أن الطبقة المتوسطة هي المتضرر الأكبر، فإن المعركة الحقيقية بينها وبين نظام العولمة، ويبدو أن الموجة الرابعة سوف تشهد صراعاً طبقياً معاصراً، بين الطبقة المتوسطة ونظام العولمة، وليست بين التجارة الحرة والإنتاج المحلي، ولا بين اليسار واليمين. ما تحتاجه البشرية هو أيديولوجية تكفل العدالة الاجتماعية وتعادل الفرص، وإعادة توزيع الثروة بشكل منصف يسهم في نمو الطبقة الوسطى من جديد، وانتصارها على وحش الحداثة.

ماذا يفعل العرب؟

النخب العربية من مثقفين ومفكرين وسياسيين واقتصاديين وعلماء اجتماع، لم يتمكنوا من تجديد لا فكرهم ولا خطابهم ولا أدواتهم ولا منهجهم، كي يتكيفوا مع المتغيرات الكونية الكبيرة التي لم تدع شيئاً على حاله، ولم يتمكنوا من فهم منطق العولمة الكامن. إن المنهج التاريخي المقارن لم يعد صالحاً لفهم الظواهر الكونية المعقدة وتفسيرها، فلا بد من الانخراط البحثي المعرفي لاستنباط مناهج مختلفة لقراءة ومقاربة فترة ما بعد الامبريالية، ما بعد الحداثة.

أم أن العرب قبلوا أن يعيشوا على هامش المجتمع الدولي، وهل هم فعلاً جزء من ثقافة العالم؟ إن ثقافة أي أمة هي ما يحدد وجودها والمساحة التي تحوز عليها، وأسلوبها في رؤية الكون، وطريقتها في التحليل والتخطيط وترتيب الأشياء.

فإذا كان تجاوب العرب مع العولمة يواجه صعوبات جمة، إذ يعاني الاقتصاد العربي من هبوط في مستويات النمو، وفشل في سياسات التوافق بين التعليم وأسواق العمل، كما يعاني العرب من ارتفاع نسبة الولادات ، وعدم وجود نظم وطنية للعلم والتكنولوجيا والمعلوماتية، فإن مرحلة ما بعد العولمة، أو عصر الموجة الرابعة سوف تضاعف هذه التحديات في العالم العربي بوصفه يضم دولاً نامية تخضع لضغوط اقتصادية داخلية وخارجية، ولا يستطيع التكيف مع المستويات الفائقة من التطور والكفاءة والمهارات التي تفتقد لها الاقتصاديات العربية، وبهذا قد لا يكون أمام هذه النظم إلا التفكك لضعفها وعدم توفر إمكانية المقاومة لديها، أو ربما يحمل العصر الجديد الحافز لدي العرب إثارة روح التحدي، للقيام بتحولات اقتصادية ثقافية جذرية تسهم من خلال تفعيل العمل العربي المشترك في أن يكون العرب موجودين لا قوماً مندثرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى