منذ أن حصلت الدول العربية على استقلالها الإسمي وحتى يومنا هذا والعالم العربي يتخبّط ويحاول أن يفهم ذاته. حاولنا إحياء الشعور والفكر القومي وإقامة دولتنا العربية الموحّدة وفشلنا، وحاولنا إحياء الدولة الدينيّة وإعادة الخلافة، وانتهينا بداعش وأخواتها، وبأحزاب دينية متعدّدة تفسر الإسلام حسب رغباتها ومصالحها، وتتقاتل على المناصب والمكاسب، وتكفّرنا وتكّفر بعضها بعضا، وتقصي كل من لا يتبعها، وترفض الانفتاح وتغلق أبوابها في وجه العالم” الكافر”؛ وحاولنا توحيد الوطن العربي عن طريق الانقلابات العسكرية فسيطر على أقطارنا عساكر جهلة أقاموا دول القتل والظلم والديكتاتورية وفشلنا.
وحاولنا تغيير واقعنا عن طريق حركات الربيع العربي، وكان من الممكن أن ننجح، لكننا فشلنا لأننا أمّة غير منظّمة تفتقر إلى وجود أحزاب سياسية فاعلة، ونقابات مهنية منظّمة، وقيادات ثقافيّة ومؤسّسات مجتمع مدني نشطة؛ ولأن الحكّام العرب انقضوا عليه ودفعوا بلايين الدولارات لإفشاله وحوّلوه إلى فوضى، وأشعلوا النيران فينا جميعا، وأباحوا قتلنا وتدميرنا لهدف وحيد هو المحافظة على كراسي حكمهم وابقائنا تحت سيطرتهم!
لكن فشلنا الكارثي الأكبر كان وما زال يتمثل في فشلنا في بناء الانسان العربي الواعي القادر على تطوير السياسة والصناعة والزراعة، ومواجهة دول الفساد والطغيان وإقامة دولة عربية ديموقراطية موحّدة، أو حتى أنظمة إقليمية ديموقراطية دستورية ناجحة تلغي القبلية والعصبية وتحمي الحريات العامّة، وتطبّق العدل والمساواة، وتوفّر الأمن والأمان، وتوحد الجميع في وطن الجميع الذي يعامل الجميع بالعدل ويحترم اختلافاتهم السياسية والدينية والفلسفية؛ ولهذا يمكن القول ان الوطن العربي الأن تائه وحائر بين عالمين، عالم ماضوي لا وجود له، وعالم مستقبلي إنقاذيّ لم يوجد بعد.
أولا: العالم الماضوي الذي لا وجود له الآن، والذي لا يمكن إيجاده بنفس مكوّناته ومعطياته السابقة هو دولة الخلافة الاسلامية التي تطالب بإقامتها الأحزاب والحركات الدينية، وذلك لعدة أسباب من أهمها أن الأحزاب الإسلامية والدول والأفراد يختلفون في فهمهم وتفسيرهم للدين وللقواعد التي يمكن أن يتم على أساسها إقامة دولة خلافة إسلامية؛ والدليل على ذلك أننا عندما نتكلم عن دولة إسلامية تضم المسلم الأوروبي، والمسلم الافريقي، والمسلم السعودي، والمسلم الجزائري، والمسلم الايراني، والمسلم السني، والمسلم الشيعي إلخ. فإننا نصطدم بحقائق خلافيّة جوهريّة لا يمكن تجاهلها أو حلها.
ولهذا يمكن القول ببساطة أنه لا يوجد إجماع بين المسلمين على تفسير واضح ومفصل لنظام إسلامي موحد يشمل الجميع. أضف إلى ذلك أنه حتى إذا أقيم نظاما إسلاميا موحدا فإن بإمكان كل إقليم أو دولة أن تفسره كما تشاء، مما قد يؤدي إلى إنقسامات ونزاعات متعددة تضر أكثر ممّا تنفع؛ وما يجري في العالم الإسلامي الآن من نزاعات وحروب بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين الآخرين، وما يعانونه من فقر وتخلّف يدل دلالة واضحة على ذلك. إضافة إلى ذلك فإن الدول الاسلامية جميعها دول مستقلة، وتقع في عدة قارات ولا تربطها حدود واحدة مشتركة، ولها لغاتها وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها وقيمها الاجتماعية المختلفة تماما، وأنظمتها السياسية المتنوعة، ومشاكلها الاقتصادية والسياسية الخاصة بها.
لقد انتهى عصر الدول الدينية التي استخدمت كتبها المقدسة كدساتير وقوانين، وحكمها قادة ادّعوا القداسة وتحالفوا مع الطبقة الدينية لإضفاء الشرعية على أنظمتهم وحمايتها، وحل مكانها دول قانون ديموقراطية يختار الشعب قياداتها، وأن الدول الأقوى والأكثر ازدهارا في العالم هي دول علمانية فصلت الدين عن الدولة، وإن قلة من سكانها يهتمون بالدين أو يمارسونه كما هو الحال في أوروبا، وأمريكا وبعض الدول الآسيوية والإفريقية، ودول لا دينيّة كالصين وغيرها. قد يقول قائل ان إسرائيل دولة دينية نجحت نجاحا هائلا، وأن باكستان دولة دينية نووية، وأن إيران دولة دينية أيضا! المظهر قد يوحي بذلك، لكن الحقيقة تختلف عن ذلك تماما.
إسرئيل ليست دولة دينية قائمة على أحكام التوراة ونصوصها، بل إنها دولة علمانية تستغل الدين لتبرير وجودها وتحقيق أهداف سياسية. الأغلبية الساحقة من سكان إسرائيل لا يمارسون الدين؛ 60 % منهم ملحدون لا يؤمنون بوجود خالق لهذا الكون، وإن 70 % من ستة ملايين يهودي أمريكي لا يؤمنون باليهودية كدين ولا يمارسونها، وإنما يعتبرونها جزءا من تراثهم الاجتماعي والحضاري. إسرئيل دولة عنصرية توسعية أقيمت بالظلم والعدوان، ولولا دعم العالم الغربي لها، وحماية الدول العربية العميلة لحدودها، لما كان بامكانها البقاء شوكة في حلق 400 مليون عربي حتى الآن.
أما باكستان فانها أسّست على أساس ديني بقيادة محمد علي جناح، وكانت عند إسقلالها عن الهند مكونة من جزأين جغرافيين غير متصلين تفصل بينهما مئات الكيلو مترات، وعرفا بباكستان الشرقية وباكستان الغربية، وإن مواطني الشطرين يتكلمون لغات مختلفة، ولا يربطها إلا العاطفة الدينية المشتركة؛ ورغم أن نسبة السلمين بين سكانهما كانت أكثر من 98%، إلا ان هذه الوحدة لم تدم أكثر من عشرين عاما، وانفصل الجزء الشرقي وأقام دولة بنغلادش المستقلة. أما إيران فان النظام القائم فيها ليس دينيا أو ديموقراطيا بالكامل؛ إنها دولة مذهبية شيعية سمحت للأحزاب الدينية وبعض الأحزاب الليبرالية بالتشكل والعمل وفق دستور إسلامي، ومنعت أي أحزاب علمانية أو لا دينية من التأسيس والعمل في البلاد.
ثانيا: أما العالم العربي الذي لم يوجد بعد فهو الدولة العربية الديموقراطية الموحدة، أو الدولة العربية القطرية الديموقراطية التي تقيم دولة المؤسسات والقانون، وتضمن الحريات والتبادل السلمي للسلطة، وتسمح بإقامة منظمات مجتمع مدني وأحزاب فاعلة، وتصلح التعليم والصحة والبنية التحتية، وتصنّع وتزرع، وتشجع العقول على الابتكار والابداع، وتحارب الفساد والمفسدين.
ولإقامة دولة كهذه لا بد من بناء الانسان الواعي الذي يفهم معنى الحرية ويرفض القوقعة والانغلاق، ويؤمن بأهمية وحتمية التغيير، ويفهم الثقافة الديموقراطية ويختارها نتيجة لفهمه لها واقتناعه بها، ويؤمن بثقافة المساواة بين جميع اطياف المجتمع، ويعتبر المواطنة حق لكل فرد في المجتمع مهما كان دينه وقناعاته الفكرية والسياسية، ويفهم أهمية النقد والنقد الذاتي البناء، ويؤمن أن جميع المواطنين سواسية أمام القانون، ويتفاعل شعوب العالم وعلومها وثقافاتها.
هذا هو العالم العربي الذي لم يوجد حتى الآن، ولن يوجد إلا بجهود الشعب وقيادة حكيمة مخلصة؛ ولهذا فان وطن المستقبل الذي نريده يبحث عن قيادة ديموقراطية فذة قوميّة الهوى والهوية توقظ الأمة وتلم شملها، وتعيد لها الأمل والثقة بنفسها، وتنير لها طريق الحرية، وتقودها للنصر والخروج من “النفق” الدامس الظلام الذي مضى عليها زمنا طويلا وهي تعيش فيه.